بين الإيمان بالغيب والرجم بالغيب متى نفهم الآخر ونجبر شروخنا؟!

مفهومان، وموقفان تعرّض لهما كتابُ الله وفصّل بينهما بمنتهى الدقّة؛ القذف بالغيب والإيمان بالغيب، وسمّى الذي يقذف بالغيب كافراً وخاسراً، والذي يُؤمن بالغيب مؤمناً ومُفلحاً.

(الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) (البقرة:3)

(وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ) (سـبأ:53) بعيداً عن عقلٍ متيبَّس لا يظنّ وراء المحسوس من شيء، ولا يفطن أنّ وراء ما يبصر شيئاً لا يُبصَر، عقلٍ لم يستطع الموائمة بين العلم التجريبي (الفيزياء) وعلم فوق الطبيعي (الميتا فيزياء)، فانخرط في مادّية محضة ضيِّقة ألقتْ بالأخلاق والروحنة وقيَم الدّين في حقل الخرافة واللاعلميّة!

(وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ) (سـبأ:53)

بعيداً عمّن أنكر أعزّ ما به صار الإنسان إنساناً، ولنبدأ بعقول سويّة، أدركت أنّ وراء ما يُشاهد عوالمَ لا تُشاهد، أكثر دهشةً وخفاءً وإبهاراً، وأنّ المادّة مظهرٌ له وجودٌ آخر غيبيّ أعلى غير منظور، بذبذبة أكثر اهتزازاً، هو الطاقة أو الموْجة أو القوى، الذي تملأ معظم الكون بل به كان الكون وكان الخلق والخلائق.

من تلك العقول المؤمنة (آينشتاين)، الذي هتف في هذا الصدد، بتواضع العالِم: (إنّ أعظم جائشة من جائشات النفس وأجملها، تلك التي تستشعرها النفسُ عند الوقوف في روعةٍ أمام هذا الخفاء الكوني والإظلام، إنّ الذي لا تجيش نفسُه لهذا ولا تتحرّك عاطفته، حيٌّ كميّت، إنّه خفاء لا نستطيع أن نشقّ حجبه، وإظلامٌ لا نستطيع أنْ نطلع فجره، ومع هذا نحن ندرك أنّ وراءه شيئا هو الحكمة أحكم ما تكون، ونحسّ أنّ وراءه شيئا هو الجمال أجمل ما يكون، وهي حكمة، وهو جمال، لا تستطيع أن تدركهما عقولُنا القاصرة، إلا في صوَر لهما بدائية أولية، وهذا الإدراك للحكمة، وهذا الإحساس بالجمال في روعة، هو جوهر التعبّد عند الخلائق).

القرآن أتى في صميم عقائده، يُثبت الغيب، لأنّ انتساب الإنسان لعالم الغيب أصيل، وانتسابه لعالَم (الشهادة) الظاهر انتسابٌ خادع وطارئ ومؤقّت، فالأنا الإنسانيّة الخالدة؛ النفس والروح، غيبٌ، مثلما أنّ الله وملائكته غيب، وما إيمان الناس اليوم علماء وعامةً، بالملائكة والجنّ أو الأشباح أو القوى الخارقة أو مخلوقات الفضاء، وبكرامات الأولياء وخوارق العادات والمعاجز وبالخضْر وعما نويل وأمثاله، وبالحظّ والأقدار والفأل والأبراج والتعلّق بالأمل، وبأثر الدّين والتديّن ورجاء الدّعاء وثمار أفعال الخير والبرّ، إلاّ نوع تأثّر متجذّر في دخيلة كلّ نفس، بسطوة عالم الغيب، والتعلّق بقوّة من قواه الموهومة أو المحتملة أو الحقّة.

الدين والعلم كلاهما يُوجدان شعور (الإيمان بالغيب) الضروري للحياة والاكتمال، ويغرزان حافز القيام لله والتعلّق بالمطلق، والتوثّب لمعرفة أسراره الملقاة أبداً في دروبنا، ينبغي للعقل السويّ أن يُؤمن بالغيب؛ لأنّ رؤيا العقل ووظيفته أن يسعى ليكتشف، فالإنسان رحّال من الشاهد إلى الغائب، الشاهد بُلْغتُه إلى الغائب، ولولا وجودُ إيمان له بالغيب، لانطفأ لديه أملُ التطوّر والتزيّد، لَوقف وجمد وفسد، ولأصابه الغرور والتعفّن، الإيمان بالغيب يُثمر المزيد من التعلّم، بل المزيد من التواضع، ويُزيل تأليه النفس وتصنّمها لأنّه يكشف جهلها وضحالتها، لهذا يسترسل آينشتاين قائلاً (إنّ الشعور الديني الذي يستشعره الباحث في الكون، هو أقوى حافز على البحث العلمي، وأنبل حافز)!

أوّل ما نتلو في القرآن بعد فاتحة الحمد، حروف رمزية (ألف.لام.ميم) من سورة (البقرة)، لتصدمنا بأنّه دائماً ستكون ثمّة ألغاز لن نستطيع كشفها وإنْ حاولْنا لأنّا أوتينا من العلم قليلاً، لنبقى على طول الحياة متعلَّمين مستكشفين، فالإنسان كائنٌ متطوّر ليظلّ يحيا ويحيا في جدليّة دائمة من موت وحياة، أي من جهلٍ إلى علْم، هو ليس كما (البقرة) لتُذبح والسلام. وبعدَ لغز حروف (ألف.لام.ميم) نجد وصْفَ مَن يُؤمنون بالغيب (ألم، ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) (البقرة:1-3)، فليس غير الإيمان بالغيب داعياً للعمل، فالإنسان طبيعتُه طلبُ ما لا يجد، ولو أيقن أن لا شيء تحت الأرض، لمْ يحفر لا لكنز ولا لنفط، ولألقى معوله ومثقابه، لكنّه إذْ أيقن بمغيَّبٍ وراءها نشط للحفر.

الإيمان بالغيب هو الذي يصنع (الباحث) الحقيقيّ، لأنّه يقينُه أنّه لا يعلم، فيُجهده لكي يعلم ويستكشف، وضدّه (الرّجم بالغيب) فهو محاولة الجامد دونما بحث على تناول الغيب بسذاجة وما هو ببالغه، والجامد كالمتكهِّن والمقلَّد بلا اضطرار، إنّه غرور بما في اليد يُوهم الوصول والاكتفاء، ويستفزّ المجادلة بالخواء بدلاً من السعي لطلب الحقيقة، ففي أيّ صنفٍ نحن؟

كم قضيّةٍ نحن واقفون فيها كأمّة ولم نتحرّش بإشكالاتها معرفيّاً؟ لم يستفزَّ عقولَنا وهنُها وركيكُ منطقِها، بل جنّدنا كلّ ما لدينا للدفاع فقط بدلاً من حثّنا على البحث؟ ما يدلّنا أنّنا لا (نؤمن بالغيب) لنطلبه، بل (نرجم بالغيب) لنُبعده ونُشرِّده، لنبقى ننبح في كهف الجدال (وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ)(الكهف:22)!

العقل يستريح للأحكام الجاهزة، هذا دأبُه ما لمْ يُطوَّع ليجتهد، العقل يبحث عن المعلومة السريعة لأنّ

أسهل وظيفة تنشط فيه هي الالتقاط والتعبئة أسهل وظيفة تنشط فيه هي الالتقاط والاتعبئة (اللمّ والخمّ)، لا وظيفة الصناعة والاختراع المُجهِد، هذا هو الفرق بين مُستهلِك ومنتج، وقارئ وكاتب، ومقلّد ومبدع، وعادةٍ وإرادة.

العقل يهرب من العمل، من التحليل والتمحيص والفرز، يريد أن يريح نفسه، وإنّ في راحتِه تحنّطه ووفاته.

أكثر المسائل العويصة التي تتماسّ مع عدل الله تعالى، لدى معظمنا محلولة ومحسومة ببساطة تُتاخم الغرور، بالتكهن أو الاجترار غير المدعوم بأدلة رصينة أو التنقيب البحثيّ، بهذه التعميمات البسيطة:

الهندوسي في النار لأنّه مشرك.

الصابئة قوم يعبدون النجوم والكواكب ويُؤلّهون الملائكة، وهم مشركون.

الدروز فرقة باطنية منشقّة عن الإسماعيلية تؤلـه الخليفة الفاطمي، وهم كفّار وزنادقة.

البوذي عابد الأصنام.

المجوسي ينكح الأخوات والأمّهات ويعبد النار.

الديمقراطيّة نظام وضعيّ، ولا رأي للأكثرية قبال حكم الله.

المرتدّ عن دين محمّد (ص) يُقتل.

الفرق الإسلامية نواصب تبْغض آل البيت أو روافض يُؤلّهون عليّا وأبناءه.

النصارى كلّهم يؤلّهون المسيح، وعيسى (ع) لم يُصلب بنصّ القرآن.

التوراة مزوّرة كلّها، وهي مكتوبة باللغة العبريّة التي هي أقدم من العربيّة!

كيف سنستفيد، ونطلب الحكمة والعلم ولو في الصّين، إذا سبقتْ أحكامُنا الأقوامَ وأدانت سلَفاً كلّ الثقافات والأفكارَ والتنوّعات بدون بحثها أو محاولة فهمها أو استكتشاف صوابها، للعثور على مشتركها معنا، بل على ما ارتقوا فيه علينا فأصابوا وأخطأنا؟!

كيف؟ والواحدُ منّا يُتعب نفسه ليُعمل عقله، متى أمْلتْ عاطفتُه المشحونة بغيْرة الأنا، ليجدّ بعدما استُفِزّ، في تبرير عقيدته وترسيخ جوابه الأوّل وتحصينه بدلاً من البحث النزيه عن الصواب (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) (الأنعام:110)، فهو لا يؤمن بغيب، بل بما هو موجود في ذهنه، وبما تعجّل فيه، إنّها عقليّة أو نفسيّة تحكي من خاطبهم الرحمن (تحبون العاجلة وتذرون الآخرة)!

فمثلاً، هل نعرف أو يهمّنا؛ أنّ بوذا (النبيّ الهندي) جاء بالتوحيد، وبالمساواة بين الناس، قبل ظهور المسيح بخمسة قرون، ونادى بلا فضل لأحدٍ على أحد إلاّ بالصلاح والتقوى، وقال بتحريم قتل النفس، وتحريم الزنا، والسرقة، والكذب، وتحريم الخمر؟!

وهل نعرف أو يهمّنا أنّ الصابئة يتوضّأون وضوء المسلمين، وفي كتابهم المقدّس (الكنزا ربّا) أو سدرة آدم، الذي يُرجعون مُعظمه إلى آدم الرسول والنبيّ شيث وإدريس وغيرهم (ع)، يتمدّحون بوصفهم مسلمين (مشلماني: حسب لهجتهم العربيّة الآراميّة)، وهم يُقدّسون الكعبة المشرّفة كبيت لله وضعه أنبياء كإدريس وإبراهيم (ع) ويُسمّونها بيت الحيّ (بيت هيي)، ويُؤمنون بالإله الواحد الأزلي الأبدي، وباليوم الآخر، ويحرّمون محرّمات الإسلام نفسها، مِن قتل وسرقة وزنا وكذب وإيذاء وسحر ونجاسات كالميتة والدم وكلّ مسكر وضار، ويُؤدّون الصلاة ثلاث مرّات يومياً قبل طلوع الشمس، وعند زوالها، وعند الغروب، ويصومون في السنة ثلاثين يوماً!

لنأخذ مثالاً عن آخر المحسومات، لو قرأ المسلمُ مدوّنة الكهنة التي سُمّيت (التوراة) لرأى أنّ ألفاظها بلهجات عربية (فروع السريانيّة) وإن غمضتْ عليه نتيجة لاختلاف التصويتات والإبدالات والترجمات، فمثلاً:

في (سفر التكوين 37: 9) من قصّة يوسف، يقول (ويأمر، هنه حلمتي، حلُم عود، وهنه هـشمشوهـيرحوأحد عشر كوكبيم مشتحويم لي) اقرأها بالعامّية مع ملاحظة إبدال بعض (الشينات سينات) و(الحاءات خاءات) وأنّ (هاء) البداية هي لام التعريف، و(ميم) النهاية تأتي للجمع كاللهجة المصريّة، فتُقرأ (ويأمرأي يقول يُوسفهنا حلمتي، حلُم عاد، وهنا الشمس والأرخوهو القمر، ومن هذه الكلمة جاءأرّخ وتأريخ” – وأحد عشر كوكب مشتحويممستحيينلي) وتُترجم (فَقَالَ: «إنِّي قَدْ حَلُمْتُ حُلْما أيْضا وَإذَا الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَأحَدَ عَشَرَ كَوْكَبا سَاجِدين لِي»)، أليس هو قول القرآن (إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ)(يوسف:4)؟!

ولرأى أنّ معظم المرويّات (المئات منها) التي فُسّر بها القرآن، والكثير من التفاصيل الشرعيّة والفقهيّة التي سينبهر بكثيرها لأنّها منصوصة هناك، وسيرى أنّ تاريخ الأنبياء وتفاصيل قصصهم المحكيّة وأقوالهم مأخوذٌ معظمه من التوراة، فهاك بعض الأمثلة، لمن يعرف مرويّاتنا وشرعتنا وفقهها ونصوصها، ليُقارِن:

فمن سفر اللاويّين 12، نقرأ في أحكام المرأة النفْساء:

قُلْ لِبَنِي إسْرَائِيلَ: إذا حَبِلَتِ امْرَاةٌ وَوَلَدَتْ ذَكَرًا تَكُونُ نَجِسَةً سَبْعَةَ أيَّامٍ. كَمَا فِي أيَّامِ طَمْثِ عِلَّتِهَا تَكُونُ نَجِسَةً. وَفِي الْيَوْمِ الثَّامِنِ يُخْتَنُ لَحْمُ غُرْلَتِهِ. ثُمَّ تُقِيمُ ثَلاثَةً وَثَلاثِينَ يَوْما فِي دَمِ تَطْهِيرِهَا. كُلَّ شَيْءٍ مُقَدَّسٍ لا تَمَسَّ وَإلَى الْمَقْدِسِ لا تَجِئْ حَتَّى تَكْمُلَ أيَّامُ تَطْهِيرِهَا).

وعن المأكولات، سفر اللاويّين 11، نقرأ:

(كُلُّ مَا شَقَّ ظِلْفا وَقَسَمَهُ ظِلْفَيْنِ وَيَجْتَرُّ مِنَ الْبَهَائِمِ فَإيَّاهُ تَاكُلُونَ. وَالأرْنَبَ لأنَّهُ يَجْتَرُّ لَكِنَّهُ لا يَشُقُّ ظِلْفا فَهُوَ نَجِسٌ لَكُمْ. وَالْخِنْزِيرَ لأنَّهُ يَشُقُّ ظِلْفا وَيَقْسِمُهُ ظِلْفَيْنِ لَكِنَّهُ لا يَجْتَرُّ فَهُوَ نَجِسٌ لَكُمْ. مِنْ لَحْمِهَا لا تَأكُلُوا وَجُثَثَهَا لا تَلْمِسُوا. إنَّهَا نَجِسَةٌ لَكُمْ.

لَكِنْ كُلُّ مَا لَيْسَ لَهُ زَعَانِفُ وَحَرْشَفٌ فِي الْبِحَارِ وَفِي الأنْهَارِ مِنْ كُلِّ دَبِيبٍ فِي الْمِيَاهِ وَمِنْ كُلِّ نَفْسٍ حَيَّةٍ فِي الْمِيَاهِ فَهُوَ مَكْرُوهٌ لَكُمْ.

«وَهَذِهِ تَكْرَهُونَهَا مِنَ الطُّيُورِ. لا تُؤْكَلْ. إنَّهَا مَكْرُوهَةٌ: النَّسْرُ وَالأنُوقُ وَالْعُقَابُ وَالْحِدَاةُ وَالْبَاشِقُ عَلَى أجْنَاسِهِ

وَكُلُّ غُرَابٍ عَلَى أجْنَاسِهِ …. الخ

هَذَا مِنْهُ تَأكُلُونَ. الْجَرَادُ عَلَى أجْنَاسِهِ وَالدَّبَا عَلَى أجْنَاسِهِ ..

ومن أحكام الزواج أو المعاشرة، مثلاً:

عَوْرَةَ امْرَأةِ أخيك لا تَكْشِفْ. إنَّهَا عَوْرَةُ أخِيكَ. عَوْرَةَ امْرَأةٍ وَابْنَتِهَا لا تَكْشِفْ. وَلا تَأخُذِ ابْنَةَ ابْنِهَا أو ابْنَةَ ابْنَتِهَا لِتَكْشِفَ عَوْرَتَهَا.. إنَّهُ رَذِيلَةٌ. وَلا تَأخُذِ امْرَأةً عَلَى أخْتِهَا لِلضِّرِّ لِتَكْشِفَ عَوْرَتَهَا مَعَهَا فِي حَيَاتِهَا. «وَلا تَقْتَرِبْ إلَى امْرَأةٍ فِي نَجَاسَةِ طَمْثِهَا لِتَكْشِفَ عَوْرَتَهَا. وَلا تُضَاجِعْ ذَكَرًا مُضَاجَعَةَ امْرَأةٍ. إنَّهُ رِجْسٌ. وَلا تَجْعَلْ مَعَ بَهِيمَةٍ مَضْجَعَكَ فَتَتَنَجَّسَ بِهَا .. إنَّهُ فَاحِشَةٌ.

وغيره كثيرٌ جدّاً في التوراة، وفي مصادر سائر الديانات والثقافات ممّا نشترك معه أو يُموّل أصولنا أو فروعنا، الصحيحة أو الباطلة!

 النتيجة..

نحن لم يتطوّر عقلُنا ليُؤمن بجدّية نقصه، ونقص مبانيه ومبتنياته، لم يُؤمن بحاجته إلى تشغيل إمكانيّاته ووظائفه عدا التعبئة والاجترار للقديم، لم نتطوّر بعدُ لضرورة الاطّلاع حتّى على (غيب) ثقافات بني جنسنا من المذاهب والديانات والشعوب، فكيف نؤمن بوجود عوالم (غيب) نستطيع أن نتعرّف عليها أو نستزيد منها أو نتعلّم ربّما أخطاءنا؟!

ولقد كنت منذ سنين أقرأ الكثير من القصص والتفاسير والمرويّات والحِكَم والأمثال والمأثورات في تراثنا الإسلامي، حتّى تفاجأت بعدَها أنّ كثيرها موجودٌ في ديانات وثقافات تملأ العالَم، وأحياناً بالنصّ نفسه، لدى بوذا، وكونفوشيوس، والدروز، لدى قدامى المصريّين، والبابليّين والسومريّين قبل ستّة آلاف سنة، ولدى الصابئة واليهود والمسيحيّين، ما يدلّنا أنّ تبايُن بعضِ المناسك وظواهر الشرائع، لم يُبدَّل جوهر الأمور بأنّ مشكاة الحقائق والتعاليم والأخلاق واحدة مهما طرأ عليها من انحراف أو تفريعات بشريّة ومبالغات طقسيّة، وأنّ يد الله لم تترك أحداً إلاّ ونوّلته شيئاً يُفيده من الحقيقة (كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)(الأنعام:108).

اتّضح لي أنّ ثقافتنا تحوي نخائل الثقافات الأولى، كما قال سبحانه عن كتابه الكريم (وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ) (الشعراء:196)، فبعض معارفنا من أجود ثمار غرس الآخرين، وهكذا ينبغي، أن نتخيّر أجود وأحسن وأحكم ما لدى العالَمين، لصناعتنا، (فبشِّرْ عباد، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ) (الزمر:18) هذا مثال ولو تتبّعنا الديانات والثقافات والأفكار على أنواعها، وأزحنا عن كاهلنا غرور الاستعلاء، لرأينا عجباً، ولأدركنا أنّنا لسنا (أبناء الله وأحبّاءه)، وإن كان اللائق والواجب أن نُصبح دُعاةَ اللهِ بالخير ورُسلَه بالحقّ، ولأدركنا أنّ ثمّة مشتركات ثقافية وقيَميّة كثيرة جدّاً بإمكاننا البناء عليها وتأصيل العلاقة الإنسانية جسْراً للتعامل مع الآخر ومحبّته وفهمه، بدلاً من اجتزائه بعبارات الأحكام المسبقة، التي تختصره اختصاراً مُديناً مُحقِّراً ومُضلِّلاً لاعناً، نقذفه بها بالغيب مِن مكان بعيد، فقط لأنّا لم نقرأ، ولم نتعرّف، ولم نُحاول جهداً لكشف (الغيب)؛ غيب الآخر الذي غاب عنّا، لأنّا لم نُؤمن بوجوده.

لو لم يكن في مأثورنا إلاّ الحكمة المنسوبة للمسيح لكفى بها سبيلاً (خذوا الحقّ من أهل الباطل، ولا تأخذوا الباطل من أهل الحقّ، كونوا نقّاد الكلام)، فهذه دعوى إلى اكتشاف الحقّ لدى الآخر وعدم العكوف على ذات اليد ولو بدا أنّنا (أهل الحقّ)، فحتماً لدينا باطلٌ وأوهامٌ في بعض الأمور كما أخبر المسيح (ع)، وأنّ الرواية عن المسيح بحدّ ذاتها بدلاُ من نبيّنا (ص)، بغضّ النظر عن اتّفاق مضمونها مع سياقنا، يُعلِّمنا مشروعيّة تحرّي الحقّ من بقيّة الثقافات، للخروج من الفئويّة، ولجبْر شروخنا المعرفيّة أو السلوكيّة أو الحضاريّة، و(الحكمة ضالّة المؤمن، أنّى وجدها فهو أحقّ بها).

 بإمكان الباحث العربي إنزال التوراة من الإنترنيت، بالترجمات العربيّة و(العبريّة!) والإنجليزية وغيرها، كهذا الموقع مثلاً: http://www.e-sword.net

شارك بتعليقك

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني.

عصى آدم..الحقيقة دون قناع
  • معصية آدم، نموذج لمفردة في البناء المعرفي! وحلها سيعيد لإنساننا خارطة نفسه وهويته الضائعة وهدف وجوده
  • معرفة هذه الحقيقة صدمة تعيد الوعي، نعقد بها مصالحة بين التراث والمستقبل لنعيش لحظة الحاضر بيقظة أننا على جسر التحول الإنساني، الذي بدأ في الأرض بالإنسان الهمج ليختتم بالخليفة "الإنسان الإنسان"
مسخ الصورة..سرقة وتحريف تراث الأمة
  • أخذت الحركة الصهيونية على عاتقها غرس دولة لليهود في خاصرة الأمة فزوروا التاريخ العربي ونسبوه لليهود
  • اختلقوا لغة بسرقة إحدى اللهجات القبلية العربية البائدة وأسموها اللغة العبرية
  • أقحم الدين والتاريخ للسيطرة على عقول الناس ونقلت رحلات الأنبياء من مواقعها ليأسسو لاحتلال فلسطين فساهم هذا التزوير في مسخ صورة العربي والمسلم في الثقافة الغربية
مفاتيح القرآن و العقل
  • إذا كان كلام الله واحداً ودقيقاً، كيف حصل له مائة تفسير؟
  • ماذا لو كانت أمتنا تقرأه وتترجمه معكوساً، كلبسها إسلامها مقلوباً؟
  • أصحيح هذا "المجاز" و"التقديرات"،و"النسخ" و"التأويل" و"القراءات"؟
  • هل نحن أحرار في قراءة القرآن وتدبره أم على عقولنا أقفال؟
نداء السراة..اختطاف جغرافيا الأنبياء
  • ماذا يحدث عندما تغيب حضارة عريقة
  • هل تموت الحقيقة أم تتوارى عن الأنظار لتعود .. ولو بعد حين؟
  • هل تقبل بلاد وادي النيل بعودة حضارة القبط الغريبة؟
  • هل تقبل نجد بعودة موطن آباء الخليل إبراهيم وبنيه إسحاق ويعقوب؟
الخلق الأول..كما بدأكم تعودون
  • إن البشر الأوائل خرجوا قبل مئات آلاف السنين من "قوالب" الطين كباراً بالغين تماماً كالبعث
  • جاء آدم في مرحلة متأخرة جداً من سلالة أولئك البشر اللاواعي، فتم إعادة تخليقه في الجنة الأرضية ونفخ الروح فيه
  • آدم أبو الناس ليس هو آدم الرسول الذي أعقبه بمئات القرون
الأسطورة..توثيق حضاري
  • الأساطير وقائع أحداث حصلت إما من صنع الإنسان، أو من صنع الطبيعة، أو من صنع السماء
  • لكل اسطورة قيمة ودلالة وجوهراً وتكمن فيها أسرار ومعاني بحاجة إلى إدراك وفهم
  • من الضروري العودة إلى اللغة العربية القديمة بلهجاتها المختلفة لفك رموز الأساطير التي غيب الكثير من مرادها ومغازيها
التوحيد..عقيدة الأمة منذ آدم
  • لو أنا أعدنا قراءة تراثنا بتجرد لأدركنا حقيقة اليد الربانية التي امتدت لإعداة الانسان منذ خطواته الأولى على الأرض بما خطت له من الهدى
  • التوحيد منذ أن بدأ بآدم استمر في بنيه يخبو حيناً ويزهو حيناً آخر، ولكنه لم ينطفئ
بين آدمين..آدم الإنسان وآدم الرسول
  • هل هما (آدمان) أم (آدم) واحد؟
  • من هو (آدم الانسان) الأول الذي عصى؟
  • من (آدم الرسول) الذي لا يعصي؟
  • ماهي شريعة (عشتار) وارتباطها بسقوط آدم الأول حين قارب شجرة المعصية؟
طوفان نوح..بين الحقيقة و الأوهام
  • ما قاله رجال الدين والمفسرون أعاجيب لا يقبلها المنطق ولا العقل السليم في محاولتهم لإثبات عالمية الطوفان
  • استثمر المستنفعون من اليهود هذه القضية ليبتدعوا القضية السامية ويرجعوا نسبهم إلى سام بن نوح (ع)
  • قضية طوفان نوح (ع) لا تكشف التزوير اليهودي فحسب، بل تضع يدها على موضع الداء في ثقافة هذه الأمة