تحرير التعليم من أسر التسييس

جاء في تقرير المعرفة العربي 2009 الذي أصدرته مؤسسة “محمد بن راشد آل مكتوم” بالتعاون مع “برنامج الأمم المتحدة الإنمائي”: “إنّ الدول العربية يمكن أن تواجه اضطراباً سياسياً واجتماعياً إذا لم تستثمر بما يكفي في تعليم شعوبها”، كما ذكر التقرير بصراحة “إنّ نقص الإرادة السياسية، وليس نقص الموارد هو السبب الجذري في وجود أنظمة تعليم غير ملائمة في المنطقة، حيث تنفق الحكومات على الأمن أكثر من التعليم في محاولة للسيطرة على مواطنيها”، وأرجع العلاقة الضعيفة بين التعليم والنموّ الاقتصادي في العالم العربي إلى “الخوف من أيّ نتائج تترتّب على أيّة إصلاحات تعليمية”! مع التأكيد على أنّ ثلث عدد البالغين في الوطن العربي – البالغ عددهم ستين مليوناً – أمّيون؛ ثلثهم من النساء، ونحو تسعة ملايين طفل في سنّ التعليم الابتدائي لا يلتحقون بالمدرسة!

ليس هو التقرير الأوّل – ونتمنّى أن يكون الأخير في كارثيّته – الذي يأتي بنتائج صادمة، تكشف عن واقع التعليم في العالم العربي دون قناع، ليضع اليد على الجرح فيذكر الأسباب الحقيقية وراء تدنّي مستوى التعليم الذي لم يسلم من التسييس، فبات مستقبل أبناء الأمة التعليمي والعلمي رهن إرادة الساسة الذين فقد أكثرهم الحكمة في التعامل مع مشكلات بلادهم، فيغضّون الطرف عن نتائج دراسات علمية كهذه لأجل الاستمرار في حكم بلد يشكو أكثر من نصفه من الأمّية (إذا أضفنا كبار السنّ الأمّيين إلى البالغين والأطفال) .. فأيّ شرف هذا وأيّ فخر؟ مع العلم أنّه بإمكانهم – بعد أن ثبّتوا قواعدهم الأمنية – وبشيء من الفطنة والذكاء أن يحوزوا على الاثنين: الأمن، والشعب المتعلّم، لو يُزيحوا عن أعينهم نظارة الاستبداد هذه المستبدّة بهم.

يركن هؤلاء الساسة إلى هذا النهج العقيم في إدارة شعوبهم بسبب الوهن الذي أصاب الأمة وتآكل همّتها وانصرافها عن الأهم إلى المهم بل والأقل أهمية، فرغم وجود ما يسمى بالبرلمان في أكثر هذه الدول، وازدياد عدد مؤسسات المجتمع المدني والأحزاب السياسية فيها إلا أنّ معظم أعضاء البرلمان، وأعضاء تلك الأحزاب والمؤسسات انجرفوا للقضايا السياسية، وأغفلوا عن طرح مشاكل التعليم كقضية وطنية ذات أولوية تهمّ جميع التيارات وتؤثّر في جميع نواحي التنمية، فلا أعتقد أنّ عاقلاً ينكر وجود مشاكل جذرية في أنظمتنا التعليمية على مستوى الوطن العربي ترتّبت عليها مشاكل اجتماعية واقتصادية لا يمكن حلّها دون معالجة مسألة التعليم بعيداً عن أيّ نوع من أنواع التسييس.

الحكّام سيّسوا التعليم وارتضوا الجهل لشعوبهم .. السلطة التشريعية والمجتمع المدني قدّموا السياسة على قضايا التعليم والتنمية البشرية .. والأدمغة المفكرة والمبدعة هاجرت إلى خارج أوطانها الطاردة للإبداع والنبوغ والتميّز.. طاردة من حيث الحقوق السياسية، والإمكانات البحثية، والنظم الإدارية، والفرص الاقتصادية، فقد هاجر في غضون اثني عشر عاماً أكثر من مائتين وثلاثين ألف عالم من الدول النامية – وعلى رأسها الدول العربية – إلى أمريكا وبريطانيا وكندا، وكان نصيب أمريكا وحدها تسعين ألف عالم، من مهندسين، وأطباء، ومتخصّصين في العلوم الطبيعية، والهندسة النووية والوراثية، والكيمياء والفلك والفضاء وغيرها.

فتخلّفت أوطاننا، وأصبحنا مبتزّين من قبل الغرب بسبب تقدّمهم العلمي والمعرفيّ علينا، ومطالَبين بدفع ضريبة تقصيرنا في المساهمة في البحث العلمي بأن ندفع ثمن كل ما نستهلكه من الدول المتقدمة من الأدوية والمخترعات التكنولوجية والصناعية الجديدة أضعافاً مضاعفة بحجّة أنّ مراكز البحث العلمي التي تكلّف الدول الغربية أموالا طائلة لا وجود لها في بلداننا وبالتالي فنحن نعتبر عالة على الغرب من الناحية البحثية، فلابدّ إذن من دفع ثمن براءة اختراعاتهم متضمّنة فيما تصدّره لنا من منتجات واكتشافات علمية جديدة ما أدّى إلى تحويلها إلى وسيلة استغلال الدول النامية لصالح البلاد المتقدّمة، وينسى هؤلاء أنه كما أنّ الدول النامية مَدينة – إن صحّ التعبير – للدول المتقدّمة بنتائج البحث العلمي فإنها دائنة للدول النامية بعقول رجالها المهاجرة التي لا تُقدّر بثمن.

حلّ الوضع التعليمي في جامعاتنا يجب أن يبدأ بتوطين العلم في الوطن العربي بعد التأكّد من جودة التعليم فيها وفق معايير مستقاة من حاجة مجتمعاتنا وكفاءة علمائها، لا على أساس تقليد أو تصديق الجامعات الغربية على مناهجها، ولا استجابة لشروط المنح الدولية فلكلٍّ أهدافه ومبادئه الخاصة للعلم والتعلّم، وأولى الخطوات تكون باحترام اللغة العربية، وتعريب لغة العلم، والارتقاء بمستوانا إلى مستوى هذه اللغة الربّانية، ليكون التأليف وكتابة البحوث والدراسات كلها باللغة العربية، ولتنشط حركة الترجمة من وإلى اللغات المختلفة، والتأكيد على ضرورة تمكّن الباحث والطالب من أكثر من لغة ليفيد ويستفيد من علوم الآخرين وثقافتهم.

ومن نافلة القول أنه يجب على الدول العربية تهيئة البيئة البحثية المناسبة للعلماء والباحثين والمبدعين ورفع سقف الحرّيات وتخفيف قبضات وهواجس الأمن، مع زيادة الإنفاق على البحث العلمي (بدل الأمني والعسكري) ومتطلباته من مختبرات ومراكز وتجهيزات معملية تخدم العالم بنتائج بحوثها، وتتعاون فيما بينها دون اعتبار للحدود الجغرافية بينهم، في خطوة أولى نحو الاستقلال العلمي.

شارك بتعليقك

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني.

عصى آدم..الحقيقة دون قناع
  • معصية آدم، نموذج لمفردة في البناء المعرفي! وحلها سيعيد لإنساننا خارطة نفسه وهويته الضائعة وهدف وجوده
  • معرفة هذه الحقيقة صدمة تعيد الوعي، نعقد بها مصالحة بين التراث والمستقبل لنعيش لحظة الحاضر بيقظة أننا على جسر التحول الإنساني، الذي بدأ في الأرض بالإنسان الهمج ليختتم بالخليفة "الإنسان الإنسان"
مسخ الصورة..سرقة وتحريف تراث الأمة
  • أخذت الحركة الصهيونية على عاتقها غرس دولة لليهود في خاصرة الأمة فزوروا التاريخ العربي ونسبوه لليهود
  • اختلقوا لغة بسرقة إحدى اللهجات القبلية العربية البائدة وأسموها اللغة العبرية
  • أقحم الدين والتاريخ للسيطرة على عقول الناس ونقلت رحلات الأنبياء من مواقعها ليأسسو لاحتلال فلسطين فساهم هذا التزوير في مسخ صورة العربي والمسلم في الثقافة الغربية
مفاتيح القرآن و العقل
  • إذا كان كلام الله واحداً ودقيقاً، كيف حصل له مائة تفسير؟
  • ماذا لو كانت أمتنا تقرأه وتترجمه معكوساً، كلبسها إسلامها مقلوباً؟
  • أصحيح هذا "المجاز" و"التقديرات"،و"النسخ" و"التأويل" و"القراءات"؟
  • هل نحن أحرار في قراءة القرآن وتدبره أم على عقولنا أقفال؟
نداء السراة..اختطاف جغرافيا الأنبياء
  • ماذا يحدث عندما تغيب حضارة عريقة
  • هل تموت الحقيقة أم تتوارى عن الأنظار لتعود .. ولو بعد حين؟
  • هل تقبل بلاد وادي النيل بعودة حضارة القبط الغريبة؟
  • هل تقبل نجد بعودة موطن آباء الخليل إبراهيم وبنيه إسحاق ويعقوب؟
الخلق الأول..كما بدأكم تعودون
  • إن البشر الأوائل خرجوا قبل مئات آلاف السنين من "قوالب" الطين كباراً بالغين تماماً كالبعث
  • جاء آدم في مرحلة متأخرة جداً من سلالة أولئك البشر اللاواعي، فتم إعادة تخليقه في الجنة الأرضية ونفخ الروح فيه
  • آدم أبو الناس ليس هو آدم الرسول الذي أعقبه بمئات القرون
الأسطورة..توثيق حضاري
  • الأساطير وقائع أحداث حصلت إما من صنع الإنسان، أو من صنع الطبيعة، أو من صنع السماء
  • لكل اسطورة قيمة ودلالة وجوهراً وتكمن فيها أسرار ومعاني بحاجة إلى إدراك وفهم
  • من الضروري العودة إلى اللغة العربية القديمة بلهجاتها المختلفة لفك رموز الأساطير التي غيب الكثير من مرادها ومغازيها
التوحيد..عقيدة الأمة منذ آدم
  • لو أنا أعدنا قراءة تراثنا بتجرد لأدركنا حقيقة اليد الربانية التي امتدت لإعداة الانسان منذ خطواته الأولى على الأرض بما خطت له من الهدى
  • التوحيد منذ أن بدأ بآدم استمر في بنيه يخبو حيناً ويزهو حيناً آخر، ولكنه لم ينطفئ
بين آدمين..آدم الإنسان وآدم الرسول
  • هل هما (آدمان) أم (آدم) واحد؟
  • من هو (آدم الانسان) الأول الذي عصى؟
  • من (آدم الرسول) الذي لا يعصي؟
  • ماهي شريعة (عشتار) وارتباطها بسقوط آدم الأول حين قارب شجرة المعصية؟
طوفان نوح..بين الحقيقة و الأوهام
  • ما قاله رجال الدين والمفسرون أعاجيب لا يقبلها المنطق ولا العقل السليم في محاولتهم لإثبات عالمية الطوفان
  • استثمر المستنفعون من اليهود هذه القضية ليبتدعوا القضية السامية ويرجعوا نسبهم إلى سام بن نوح (ع)
  • قضية طوفان نوح (ع) لا تكشف التزوير اليهودي فحسب، بل تضع يدها على موضع الداء في ثقافة هذه الأمة