ملخص كتاب (الأسطورة .. توثيق حضاري)

ملخص كتاب

(الأسطورة .. توثيق حضاري)

مقدمة

تطلق كلمة الأساطير على التراث الرمزي الذي انتقل عبر القرون الطويلة بواسطة اللوحات الطينية والرقم وما تركته الحضارات السابقة على جدران معابدها ورموزها الدينية والمدنية. وقد تم إزالة الغبار ودراسة هذه الأساطير وفك رموزها عن طريق البعثات الاستكشافية الأثرية الغربية التي وفدت إلى المنطقة بحثاً وتنقيبا عن تاريخ هذه المنطقة وتجميع قطع المعلومات التاريخية لتكوين صورة متكاملة عن مجتمع الإنسان في تلك الأزمنة السحيقة أو التحقق من صورة سابقة واستخدام المكتشفات لتثبيتها.

يعتبر بحث الأسطورة طريقة مغايرة لإعادة فتح وقراءة الآلاف بل الملايين من المدونات والرقم والجداريات التي تركتها الحضارات السابقة المتمركزة في المنطقة العربية. الجديد في هذه الطريقة والتي يكمن فيها سر قوتها هي أصالتها، بمعنى عدم فصل الأسطورة عن لغة ومعتقدات وثقافة أهل المنطقة. البحث يؤكد على ضرورة التعامل مع أساطير المنطقة كجزء لا يتجزّأ من تاريخ هذه المنطقة بكل ما فيها من مظاهر ثقافية ابتداءً من اللغة التي لابدّ وأن تكون عربيّة ولو بأحد لهجاتها التي توجد منها الآلاف إلى عادات البناء والإنشاء التقليدية إلى أساليب الزراعة والري وأخيراً وليس آخراً المضامين الفكرية للحكم والأمثال الشعبية والعقائد العابرة للأديان والأزمان.

الدراسة التاريخية المستوفية للفترات التي اتجه فيها علماء دراسة الآثار الغربيّون، من شأنه أن يظهر بجلاء أثر الأفكار المسبقة عن تاريخ المنطقة وتقسيم أقوام العالم إلى إثنيّات وإرجاع لغاته إلى مجموعة لغات وفي حالة من الربط العجيب بين نظريات علميّة غير ثابتة أصلاً وإسقاطها على حقائق جغرافية وتاريخية وتفسيرات عقائدية والبحث عمّا يشابهها على الأرض لتحقيق السبق والإنجاز في منافسة محمومة بين القوى الاستعمارية وما يمثّل تلك القوى من باحثين وأكاديميين وقساوسة وجامعي الكنوز والمغامرين وغيرهم.

التخلص من آثار تلك القراءة المبنية على إرث ظالم بل مثقل بالظلم والإجحاف بحق أهل المنطقة وتخليص الأساطير مما علق بها من تفسيرات محرّفة لحقائقها بجهل تارة وبسوء قصد تارة أخرى أصبح ضروريّا في وقت بدأت الأمة تنتفض لتعي نفسها والدور المناط بها على مر التاريخ و تستكشف ما حيك ضدها من مؤامرات طوال القرنين الماضيين أبان انحدارها عن سنام الحضارة الإنسانية وتفنن الآخرين في طمس الحقائق والإمعان في إبقاء الأمة رهن الذل والهوان. العمل الدؤوب لجلاء جوهر الحضارة الإنسانية الراقية المتصلة أبداً بالسماء بإزالة الغبار عمّا تركه الأولون من أساطير وتفسيرها ضمن ثقافة الأمة التي أوجدتها ستكشف الكثير من درر العقد الضائعة ليستكمل العقد متصلا بالمبدأ من يوم نفخ في أبينا آدم الروح إلى يوم بعث الله نبيّه محمد (ص) خاتماً به عهد الرسالات والنبوّات ليستكمل الإنسان حضارته إلى الكمال انتهاءً بعروج الملائكة والروح في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما نعد وتعدون.

في هذا البحث لم يتم دراسة آلاف الأساطير وتحليلها، ولكن في المقابل تمّ التأسيس لآلية جديدة أكثر يسراً لأبناء الأمة في سبيل فهم الآلاف من أساطيرها وإعادة دراستها وتفسيرها ضمن أسسها الثقافية والمعرفية. كما أن البحث يفتح حقلاً جديداً للدراسة وزيادة البحث لإكمال التأسيس العلمي للمنهج الجديد وما يستتبع ذلك من ربط بين اللغات القديمة والمعاصرة خاصة اللهجات العامية المتفرقة على جميع أنحاء المنطقة العربية والشرق بشكل عام.

يعتني البحث بدراسة الأساطير القديمة، حيث يتناول في فصله الأول مقدّمة تعريفية عن الأساطير وعن نشأتها، والفرق بينها وبين الخرافات، وتعداد لأنواعها، ثم في الفصل الثاني يعالج علاقة الأسطورة بالتاريخ ويجيب عن السؤال الأهم في البحث وهو: هل يمكن اعتبار الأسطورة مصدراً معتمداً من مصادر التاريخ ولماذا، ثم يتعرّض الفصل نفسه إلى لفظ أساطير الأوّلين الوارد في القرآن الكريم ويمضي في محاولة للتعرّف على سرّ ذكر هذا اللفظ في كتاب الله، وفي الفصل الثالث يطرح البحث آليات مقترحة لفهم الأساطير والتعرّف على أسرارها وفك أقفالها، ثم يقدّم بعض المحاولات والاجتهادات لتفسير عدد من الأسماء المشهورة في الأساطير على اعتبار أنّ الأسماء تشكّل مفاتيح الولوج لتفسير الأساطير وبالأخص مع ارتباط الأسماء في الأساطير باللغة العربية ولهجاتها القديمة.

مفهوم الأسطورة ونشأتها وأنواعها

في بداية البحث لابد من تبيين مفهوم الأسطورة إذ بدون هذا التبيان يظهر ألا جدوى من البحث نظراً للمفهوم المشوش والمشوّه لمعنى الأساطير في الذهنية العربية الإسلامية، خاصة وأن المفهوم ظلّ غائبا منذ أن هيمنت الثقافة الإسلامية على جميع مناحي الفكر في المنطقة. قد يكون لهذا الغياب أسبابه المنطقية خاصة مع بداية انطلاقة الإسلام كنهج تغييري لكل التأسيسات الاجتماعية سواءً في الفكر أو العلاقات وتنظيمها على أسس توحيدية، وسبك المعارف الفكرية والحياتية في قالب لغوي راقٍ يستغني فيه المسلمون عن أخذ المعرفة من غيرهم أو ممن سبقهم خاصة ولم يبق شيء سماوي إلا واختلط بالأرضي حذفاً وإضافةً وفهماً. يقول المؤرخ الفرنسي “بيير روسي” في هذا الشأن في كتابه “التاريخ الحقيقي للعرب”: إذا كان مؤرّخونا المسلمون الأوائل قد أخذوا نظرتهم إلى التاريخ بذلك القصور المبستر فقد كانت لهم أسبابهم ومبرّراتهم الكافية، فهم من جهة كانوا يعملون على تكريس التوحيد الإسلامي فكان لزاما عليهم رفض وتجاهل كل ما سبق الإسلام من عقائد، ومن جهة أخرى لم يكن لديهم أي اطلاع على الحضارات القديمة إذ كانت هذه قد بادت وانطمرت شواهدها في التراب، فلم يكن المؤرّخون المسلمون قادرين على القفز فوق شروط عصرهم ومستواه العملي والمعرفي العام”.

معنى كلمة أسطورة ومفهومها

كلمة أسطورة كلمة عربية أصيلة على وزن أفعولة وجذرها من الفعل الثلاثي “سطر”، وباعتبار أنّ لكلّ كلمة مشتقة (في العربية) جانبين: الأول مادتها والثاني صيغتها أو وزنها، فمادة كلمة “أسطورة” تقوم على جذر فعل يدل على المعنى العام الذي يجمع بين سائر المشتقات منه مثل أسْطُر وسطور وهو الصف من الشيء كالكلمات والشجر ومنها السُطُر وتعني الأقاويل المنمّقة المزخرفة .. الخ” ، أما وزنها : فمن أوزان لغتنا العربية فأسطورة على وزن “أُفْعولة” كأحدوثة وألعوبة وغيرها، وجمعها “أساطير” على وزن “أفاعيل” كأحاديث وألاعيب، وهذا ما يؤكّد أنّ كلمة أسطورة هي أحد اشتقاقات الجذر الثلاثي س ط ر على وزن أُفْعُولَة، وقد ورد هذا اللفظ في القرآن الكريم في آيات عدة تحت مسمّى “أساطير الأولين” وفي ذلك دليل آخر على أن الكلمة ذات أصل عربي فالقرآن نزل عربياً كلّه، وقد ورد لفظ أساطير الأولين على لسان قوم محمد(ص) القرشيين الفصحاء، الذين سمعوا بالأساطير وعرفوها وهم بعد لم يتصّلوا باليونان أو يقتبسوا شيئاً من ألفاظهم وكلماتهم، ولم يرد في التاريخ قبل البعثة النبوية أنّ العرب قد اقتبسوا من غيرهم وهم الذين يعتزّون بلغتهم أيّما اعتزاز. ما يعني بأن من يرى أن كلمة “أسطورة” العربية مقتبسة من كلمة “استوريا” Historia اليونانية وتعني حكاية أو قصة ، “، قلب الحقيقة تماماً، وهو من آثار فرض آراء الغربيين وتفسيراتهم على تراثنا وتاريخنا، فالكلمة عربية في أصلها عبرت إلى شبه الجزيرة اليونانية مع حركة القدماء العرب وهجرتهم، وبالتحديد على يد الفينيقيين الذين استوطنوا سواحل البحر المتوسط وانتقلوا مع لغتهم وتراثهم وكنوزهم إليها، هذه الكلمة كغيرها من الكلمات العربية شكّلت جذور اللغة اليونانية التي نسب إليها واضعو التاريخ في عصرنا الحديث كل الأصول العريقة للمصطلحات والألفاظ، وغضوا الطرف عن أصولها العربية وهو ما أفقدهم في كثير من الأحيان الموضوعية والمقدرة على إدراك الحقيقة والصواب.

والحقّ أنّ الكلمة عربية الأصل، حديثا أصبحت تعني السطور أو الأخبار القديمة المدوّنة المسطورة , وهي بمثابة أوّل كتاب في التاريخ، وقد انتقلت الكلمة إلى اللغات الأجنبية وتطورت لتصبح هـ – ستوريا، والهاء حرف تعريف في اللهجة العربية الفينيقية، ثمّ صارت تعني فيما بعد بـ” التاريخ” في عدة لغات، مع قليل من الاختلافات، فعند اليونان إستورا، وتعني حكاية أو قصة كما تعني “تاريخ”، وفي الإنجليزية نجد كلمة History بمعنى تاريخ، وفي الفرنسية إيسْتوار، وفي الروسية استوريا ، وهي كلّها مشتقة من الكلمة العربية أسطورة التي تعنى بكتابة التاريخ وتدوينه.

وبمراجعة تعريفات الباحثين للأسطورة وبالنظر المتعمّق إلى الأساطير باعتبارها جزءا من التراث القديم المعبّر عن نتاجات الأوّلين وأفكارهم وانعكاس تعليم القوى الربّانية لهم، نخلص إلى القول بأنّ الأسطورة هي القصّة الشعرية المصفوفة زجلاً أو شعراً بحيث تحوي موضوعاً دينياً يتعلّق بالقوى العلويّة والخفيّة، وتعبّر عن معارف الإنسان الأول وأخلاقه ومستويات علومه وتأملاته، وهي موضوعة في قالب ذي إيقاع شعري موسيقي يتضمن الحدث المراد تأريخه سواء كان من صنع الإنسان أو الطبيعة أو الربّ، لأجل أن يتلى ويُتداول ويؤدي دوره في تثقيف العقول وتحريك المشاعر.

نشأة الأساطير

اختلف الباحثون في منشأ الأساطير بحسب سبقيّاتهم الفكرية والعقلية في تفسير نشأة الكون والإنسان من ناحية والأساطير التي اعتمدوها أساساً لدراسة موضوع الأساطير من ناحية أخرى، “وفي محاولة للوصول إلى أرضية علمية مشتركة في تفسير أصل الأسطورة يقرّر توماس بوليفينشي في كتابه “ميثولوجية اليونان وروما” وجود أربع نظريات في أصل الأسطورة.. وهذه النظريات هي:

النظرية الدينية: التي ترى أنّ حكايات الأساطير مأخوذة كلّها من الكتاب المقدس مع الاعتراف بأنها غُيِّرت أو حُرِّفت، ومن ثَمَّ كان هرقل اسماً آخر لشمشون، والمارد ديوكاليون ابن بروميثيوم الذي أنقذه زيوس مع زوجته من الغرق فوق أحد الجبال هو نوح، وهكذا.

النظرية التاريخية: التي تذهب إلى أنّ أعلام الأساطير عاشوا فعلاً وحقّقوا سلسلة من الأعمال العظيمة، ومع مرور الزمن أضاف إليهم خيال الشعراء ما وضعهم في ذلك الإطار الغرائبي الذي يتحرّكون خلاله في جوّ الأسطورة.

النظرية الرمزية: وهي تقوم على أنّ كلّ الأساطير بكلّ أنواعها ليست سوى مجازات فُهمت على غير وجهها الصحيح أو فُهمت حرفيّاً، من ذلك ما يقال عن أنّ “ساتورن” يلتهم أولاده أي الزمن يأكل كلّ ما يوجد فيه.

النظرية الطبيعية: وبمقتضاها يتمّ تخيّل عناصر الكون من ماء وهواء ونار في هيئة أشخاص أو كائنات حية، أو أنّها تختفي وراء مخلوقات خاصة، وعلى هذا النحو وُجِدَ لكل ظاهرة طبيعية – ابتداءً من الشمس والقمر والبحر وحتى أصغر مجرى مائي- كائن روحي يتمثل فيه وتنبني عليه أسطورة أو أساطير. “

ومع التأكيد على خصوصيّة كلّ حضارة وتمايزاتها بحسب ظروفها الزمانية والمكانية ومستوياتها المعرفية وخلفياتها الثقافية، فللخصوصيّة انعكاس كبير على بناء ونشأة الأساطير، إلا أنّ هناك نوعاً من التداخل الذي يخلق تكاملاً بين النظريات الثلاث الأخرى في تفسير أصل الأساطير مهما كان زمنها أو موطنها، فالنظرية التاريخية تُعطي تفسيراً منطقياً شاملاً لنصوص الأساطير من حيث الواقع والمضمون والشكل، وتكاد تفسّر كل الأشياء الواردة في الأساطير، لأنّ الأساطير في مُجْمَلها تحكي أفعالاً عظيمة لقوى ملائكية أو بشرية كان لها دور رئيسي في تشييد أساسات النظام على هذا الكوكب، والنظرية الرمزية تركّز على الشكل الذي ظهرت عليه الأساطير كونها تستخدم الرموز كمجازات للتعبير عن معاني عظيمة ولكن باستخدام لغة بسيطة مثيرة، وإنّ فهم هذه الرموز يعتبر المفتاح الرئيسي لفهم الأسطورة بأكملها، أمّا النظرية الطبيعية فليست إلا صورة من صور النظريّة الرمزيّة التي تضفي صفة رمزية على الظواهر الطبيعية من ماء وهواء بكائنات ومخلوقات مرئية من الطبيعة، وإذا كان قدامى المصريّين قد رمزوا لأبجديّتهم برموز من الطبيعة كالطيور والحيوانات والأدوات فيما سُمّي الكتابة الهيروغليفيّة فإنّ أبجديّة الأسطورة من قوى الطبيعة وظواهرها قد تشخّصت حال تدوينها وأسطرتها في أسماء أفراد، ولو جمعنا النظرية التاريخية مع الرمزية لحصلنا على تفسير متكامل ومن أبعاد متعدّدة لأصل الأسطورة ونشأتها.

وكنموذج فإن أسطورة (إيتانا والنسر) تشير أقرب ما تشير إلى قصة الخليقة الأولى ومعصية أبينا آدم كما جاءت في النصوص الدينية المتعددة، وهذه الأسطورة التي تستخدم الرمز المعبّر عن الحقيقة، تسرد واقعاً تاريخيّا حدث في زمان ما ومكان ما، ولكن تمّ فصله من الزمان والمكان ليتحوّل إلى نشيد يترنّم به الأجيال حفاظاً على الحقيقة التاريخية من الضياع ودرساً في السلوك والحذر من السقوط في جو من الشحن العاطفي للتعالي والسموّ.

فبعد هذا التوضيح لابدّ وأن القارئ الكريم أدرك الفرق بين الأسطورة التي تمثّل سرداً لتاريخ حدث بالفعل أو تعليماً يتناقله الأجيال والخرافة التي لا تمتّ إلى الواقع بأدنى صلة، وإن اتصل بعناصر من الواقع فهي خالية من المعرفة التي تنشئ حضارة وتبقيها قائمة. كما أنه سيدرك ما عنى به المشكّكون في مضامين القرآن بأنه من عند الرسول (ص) حيث قالوا عنها أساطير لا لخوائها من المعرفة بل العكس تماماً، أي لأنهم وجدوا العلوم والمعارف الموجودة في الأساطير متضمنة في آيات القرآن الكريم المنزل على الرسول الخاتم (ص).

كما يمكن تصنيف الأساطير حسب الأهداف التي وضعت لأجلها فهناك الأساطير التعليمية التي كان الغرض منها نقل الفنون عبر الزمان والمكان كالطبابة وأساليب الزراعة التي تعتبر من أعظم التحولات الإنسانية التي انتقلت عبرها من حياة البداوة إلى بداية الحضارة ويمكن قراءة ذلك بوضوح في الأسطورة السومرية عن زواج أنانا من ديموزي. كما أن هناك الأساطير الوعظية التي يدور موضوعها حول الحثّ على التزام الحكمة وبناء القيم، وتأصيل علاقة سليمة بين الإنسان وبين الرب، وتحذّر من مغبة عصيانه أو التمرّد عليه أو منازعته في دوره ومقامه وقدراته ويمكننا أن نجد الكثير من هذه المواعظ في ملحمة جلجامش على سبيل المثال لا الحصر. وهناك ايضا الأساطير العلمية التي تتحدّث عن قضايا علمية كالخلق والتكوين وأصول الأشياء، وهي من الأساطير التي تبهر العقل وتدهشه لتضمّنها معاني عظيمة عن خلق الكون، وخلق السماء والأرض، وخلق النبات وخلق الحيوان والإنسان، وتعتبر أسطورة التكوين البابلية من أهم أساطير الخلق.

قيمة الأسطورة

السؤال الجوهري الذي يجب طرحه في هذا المكان بعد أن تعرّفنا على مفهوم الأسطورة ونبذة عن نشأتها وأنواعها هو: ما قيمة الأسطورة؟ تتحدد الإجابة على هذا السؤال من خلال معرفة القيمة التاريخيّة للأسطورة وكذلك معرفة القيمة التي يعطيها القرآن الكريم للأسطورة وذلك من خلال تتبع آياته الكريمات التي ذكرت فيها الأسطورة.

لمعرفة القيمة التاريخيّة للأسطورة لابدّ من التأكد ما إذا كنا نتمكّن من معرفة أخبار الماضين أي معاصري الأساطير من خلال أساطيرهم أم لا؟ وهل هناك وسائل أخرى للحصول على هذه المعرفة غير الأساطير؟ إن ما وصلنا اليوم هو بعض الأدوات التي كانت مستخدمة في تلك العصور وبعض مما تبقّى من مباني مشيّدة بأساليب مختلفة، أما المضمون الثقافي الذي وصلنا فهو مكدّس في الأساطير والتي يمكننا بإعادة قراءتها ضمن منظومة منسجمة مع تراث المنطقة أن يفتح لنا أبواباً من منظومة العلاقات التي كانت قائمة والفكر السائد في تلك الحقب البعيدة. أن ما نستنتجه من هذه القراءة توضّح القيمة التاريخية للأساطير التي يمكن أن نوجزها بعدة نقاط منها:

أولا: أنّ أثراً من الغيب يقف وراء علم الأوائل لتلك الحقائق، وإلا فكيف اهتدت تلك الأقوام جميعها إلى هذا الأمر وكيف اتفقت على الأفكار ذاتها، وأنّى لهم أن يتناولوا قضايا رئيسة كخلق الكون والإنسان كحقائق مؤكدة في مدوّناتهم ونقوشهم؟ أكانوا شهوداً حينما تمّ الخلق؟ تقول الآية الشريفة: (مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ) (الكهف:51). فتطابق الأساطير مع الكثير من الحقائق التي طرحها وأكّدها القرآن الكريم كمسألة خلق السماوات والأرض في ستة أيام وخلق الإنسان الأوَّل واجتباء آدم ودخوله الجنَّة ثمَّ خروجه منها، وغيرها من الحقائق يدل على صحّة مضامينها، وإنها كما القرآن الكـريم وحـي الله إلى عباده عبر أنبيائـه، وأنّ القوم كانوا موحّدين عالمين بنظام الكـون مذعنين له.

ثانيا: أنّ هناك طابعاً مشتركاًً لهذا التراث يتجلّى بوضوح في الوحدة الواضحة لمضامين الأساطير خاصة في حديثها عن القضايا الكبرى كخلق الكون والإنسان، لاحظنا في الأمثلة السابقة التي تحدّثت عن بداية الخلق وعن خلق الكون والإنسان كيف أنّها احتوت على فكرة واحدة وهو ما يشير إلى وحدة اجتماعيّة وثقافيّة وعلميّة لتلك الشعوب، بل إنّ بعض الأساطير وبسبب تلفها أو فقدان بعض أجزائها يمكن توقّع الأجزاء الناقصة منها عن طريق مقارنتها مع أساطير الحضارات المجاورة، وقد اتّجه كثير من الباحثين إلى محاولة الإمساك بالحبل الرابط الذي يجمع كلّ تلك المعلومات في حلقة متكاملة، فجاءت الأساطير كشاهد على التطوّرات السياسية والدينية والأدبية التي مرّت بها الحضارة السابقة لها.

ثالثا: إنّ كثيرا من الشخصيات التي كانت تدور حولها الأساطير هي شخصيات تاريخية واقعية من ملوك أو حكام أو أشخاص من الشعب كان لهم دور في الحركة المجتمعية والحضارية لذلك الزمان، وكذلك المدن التي دارت في فضائها الأساطير، فقد أثبتت البحوث الأثرية وجودها وقيام حضارات كبيرة فيها.

رابعاً: أنّ الأساطير لم تكن اجتهادات أو أعمال فردية، بل إنّها كانت أعمالاً مقصودة ضمن منظومة عامة خُطّط لها بعناية، وإنّ وجودها في المعابد ومكتبات الملوك يعطيها اعتبارا إضافيا، فقد كانت تُكتَب برعاية الملك نفسه والكهنة لإثبات أنّها ليست خيالا فرديًا، بل هي نتاج لتوجّهات الجماعة وعقائدهم وآمالهم الأمر الذي أعطى للأساطير قيمةً كبرى سواء لدى المعاصرين لها أو للأجيال القريبة والبعيدة.

خامساً : لم تكن الأساطير الأسلوب الوحيد الذي عبّر من خلاله الإنسان الأوَّل عن أفكاره، فإلى جانب الأساطير، نجد الكثير من الرسوم والتصاوير التي وجدت منقوشة على جدران المعابد، فالقوم كانوا يؤكدون على الفكرة بأشكال مختلفة تماما كما يفعل إنسان اليوم، ولحفظها من أن تنالها يد التحريف ثانياً، نقشوها برعاية الملك والكهنة فوق جدران المعابد والقصور أو كتبوها على ألواح طينية ورُقُم تذهل العقل لدقتها وبراعتها، أو وضعوها داخل جرار ثمينة وحفظوها في المعابد، وفي مكتبات القصور الملكيّة.

أما بالنسبة لتقييم القرآن للأساطير فقد ذُكرت لفظة “أساطير الأولين” تسع مرات ونجد أن العنصر المشترك في جميع آيات “أساطير الأوّلين” أنّها وردت على لسان الكافرين لدعوة الحقّ، ولم ترد على لسان غيرهم من أهل الكتاب، كما أنّ كلّ الآيات قيلت في مناسبات الاحتجاج والجدال حول قضايا إيمانية عقلية منطقية تدعوهم إلى النظر في الدعوة الجديدة نظرة متجرّدة أبرزها الدعوة للتوحيد وقبول البعث والحساب، وأمام عجزهم عن ردّ الحجة بالحجة يلجأون إلى إغلاق باب الجدال بنسبة ما يسمعونه إلى أساطير الأولين، وفي ذلك إشارة واضحة إلى أنّ هؤلاء كانوا يعلمون أنّ هناك تراثا مسطورا وضعه الأوّلون ويبدو أيضا أنهم كانوا يحتفظون في أذهانهم ببعض معالمه،ّ ودعوة الرسول قد ذكّرتهم بتلك المعالم، فأقرّوا بأنّ ما يعرفونه سابقاً عن أساطير الأولين يتضمّن معاني تقترب لما جاء به الرسول وهي تخالف معتقداتهم وما هم عليه. ولإلقاء الضوء على الصلة بين مضامين ما جاء به الرسول (ص) والأساطير، وجب أن نفهم معاني هذه الآيات والتي تمثّل الداعي لتوجيه هذه التهمة، أي أن الآيات منحولة من أساطير الأولين. لتوضيح هذا المعنى نفصّل في آيتين ذكرتا الأساطير من مجموع تسع آيات – يمكن مراجعتها – وهما الآية 25 من سورة الأنعام والآية 83 من سورة المؤمنون.

أولا : سورة الأنعام:

يقول تعالى : وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ (25)

تتحدث آيات سورة الأنعام عن التوحيد لله عبر دلائل آياته في خلقه، والرسول يذكّرهم بالحقيقة كاملة، حقيقة الوجود وغايته ومنتهاه بدلائل سمعية عقلية وبشواهد وآثار يرونها حولهم، أما “الذين كفروا” فقد أغلقوا على أنفسهم منافذ التفكير، على الرغم من استعراض السورة لسلسلة من الأدلّة العقلية في موضوعات مختلفة تؤدي حتماً عند المتأمّل العاقل للإيمان بالله وتوحيده وفق منطق البرهان العقلي، وقد كان أولئك يستمعون إلى تلك الأدلة إلا أنّهم لم يتمكّنوا أن يفقهوا شيئا مما يسمعونه بسبب حجب يعانون منها، تلك الحجب أغلقت عليهم أهم منفذ من منافذ العلم وهو الاستماع المتجرّد، أمّا المنفذ الآخر لإدراك الحقائق وهو “الرؤية” أي معاينة الآيات والدلائل الخارجية التي تفسح المجال أمام العقل للتفكير والمراجعة فهو الآخر واقع تحت شراك تلك الحجب. هذه الآية الكريمة تعبّر عن ردة الفعل تجاه ما يسمعون من آيات القرآن الواصفة لما يرون من خلق الله سبحانه بأنها أساطير الأولين. بمعنى أن أساطير الأولين ليست إلا مقولات واصفة للمخلوقات وعملية الخلق ودلائل توحيد الخالق كما هي دعوة الرسول (ص) وإنه (ص) لم يأت بجديد.

ثانيا: سورة المؤمنون:

بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الأَوَّلُونَ (81) قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ (83)

المشركون اعترفوا بأنّ التوحيد والبعث والوعود الإلهية موجودة في أساطير الأوّلين، ولكنّهم لا يأبهون بها ويعدّونها من قبيل الخرافات، والآيات بإعراضها عن الردّ عليهم تقرّهم على مقالتهم لأنّها ما خالفت وجه الحقيقة، فالتوحيد ونبذ الشرك مفاهيم موجودة في الأساطير، والأحاديث عن عوالم سفلية وجنّة علوية ويوم حساب موجود أيضا في الأساطير، والآيات هنا تنقل مقالتهم، وتستهزئ بعقولهم التي حكمت على القضايا العقلية بالبطلان كونها مذكورة عند الأوّلين، وتذكّرهم بأن ثمّة أوّلين معاندين أيضاً من قبلهم قالوا مثل قولهم، والأوّلون لفظ لا يرتبط بمرحلة معينة، فكل من سبق عصر المتكلّم هو من الأوّلين، فهم لم يختلفوا عمّن سبقهم في شيء، فتلك هي سمة البشر على مرّ الأزمان، فإنكارهم وإعراضهم ليس بجديد، فقد فعله من قبلهم، ومقولتهم تشبه مقولة الذين سبقوهم في ردّهم على أنبيائهم، ووعد الله قائم لا تمنعه اعتراضات المعترضين.

كيف نقرأ الأساطير؟

لقراءة الأساطير لابدّ من مراعاة عدة أمور هي:

اعتبار الحضارات القديمة في المنطقة العربية على امتدادها التاريخي الذي يصل غربا إلى شمال أفريقيا وشمالا إلى سوريا وجنوب أوروبا وشرقا إلى العراق والخليج العربي وفارس ثمّ جنوبا إلى اليمن وعمان، لا بدّ من النظر إليها على أنّها منطقة واحدة ذات خصائص مشتركة ارتبطت في أصولها العرقية واللغوية بجذور متشابكة ممتدّة في عصور التاريخ القديم، هذا الأصل يمكن أن يساعد بدرجة كبيرة على سدّ الثغرات التي تطرأ في حالة دراسة كلّ حضارة على حدة، ومن ثمّ اعتبار أساطيرها واحدة من حيث المؤدى والمضمون.

إنّ “كتابة” أي لغة لا تعادل اللغة ذاتها، لأنّ اللغة هي دائما بناء حي أعلى كثيرا من إمكانية حصره كتابيا، إذ اللغة هي الكلام بإضافة كلّ ما يصاحبه من حركات جسدية وتوريات وتلميحات ومعاني باطنة مشتركة بين المتحدث والمتلقي بالإضافة إلى الانفعالات والتداعيات التي يستثيرها قول معين بطريقة معينة لدى أبناء اللغة الواحدة، فمن الطبيعي أن تقفَ الكتابة عاجزةً عن أداء كلّ ذلك حتى بين من يتخاطبون بلغة واحدة مشتركة. والأساطير مكتوبة بلغة بدائية غير قادرة على احتواء القسم الأكبر من التعابير اللغوية، ولكن من الناحية الأخرى تحتوي على الجانب الأهم من المعارف وقد تم استخدام الكثير من الإمكانيّات اللغوية من القصّ والتمثيل لتثبيت الأفكار وسريانها عبر الأمكنة والأزمان المختلفة. فأمام هذا التراث جاء المترجمون من لغات بعيدة عن المنطقة، وباستخدام لغات أخرى قديمة كالهيروغليفية أو أحدى اللهجات الفارسية القديمة لفك الأساطير. فمن ناحية لغاتهم لا تحتوي على بعض حروف لغات المنطقة كالحاء والصاد والضاد والطاء والظاء والعين والقاف عدا غياب الحركات في اللغات المكتوبة عدا الجهل المطلق بفوارق اللهجات في اللغة الواحدة. فيمكن للقارئ تخيّل أي كلمة عربية ولفظها كما يلفظها الأوروبيون وإعادة كتابتها بالإملاء الجديد. ويمكن توضيح أثر الترجمة بترجمة النص التالي:

We have given you plenty* so pray to your Lord and sacrifice* since your opponent is the one who will be lopped off.

كما يلي: “منحناك الكثير، فلتصلِّ لربِّك وتضحي طالما خصمك هو المتنحى بعيداً “

فلا شكّ يبقى مصدر النص لغزاً إلا إذا عرف القارئ الكريم بأن النص الإنجليزي مأخوذ من أحد أفضل الترجمات للقرآن الكريم والمتداولة اليوم وهو ترجمة لسورة الكوثر.

أما بالنسبة لغياب بعض الحروف يمكن ملاحظة أثره في المثال التالي وهو آية (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) (الفاتحة:6) ، كيف ستكون مكتوبة على أفضل احتمال بدون الصوتيات (حروف اللين الألف والواو والياء):

(هدن صرط مستقم)، طبعاً القارئ العربي سيُدرك لأوّل وهلة أنّها “اهدنا الصراط المستقيم”، لكنّ الباحث الغربيّ سيحرّكها أوّلاً حسب اجتهاده، ثمّ قد يأتي لنا بها هكذا على أحسن تقدير (Heden Serat Mus Takim) وعندما نستبعد تماماً إنها عربيّة، فسننقلها اجتهاداً إلى العربيّة هكذا: (هيدين سيرة موس تاكم)، فأيّ داهيةٍ عربيّ سيفهم هذه؟ سيكون داهيةً فعلاً لو عرفها أنّها (اهدنا الصراط المستقيم).

إعادة فك لفظة الآلهة ومجمعاتها الواردة بكثرة في ترجمات أساطير المنطقة والتي تؤكد على التعدد والشرك بينما هناك بدائل أقرب إلى ثقافة المنطقة مثل أرباب، قوى، أو مبادئ. فعشتار مثلاً امرأة ذات أدوار متعددة فتارة هي تمثيل لنظام إدامة النوع البشري بالخصب والتزاوج المشاع الإباحي، وتدخل في معركة مع “إيل” – أي الله – شريعة القيم والأسرة وتنهزم لتتحوّل إلى خادمة ومعلمة في النظام الجديد. فعلى هذا ما عشتار وتحوّلاتها إلا تعبير عن تحوّل النوع البشري من المراحل المشاعية الجنسية كوسيلة للحفاظ على بقاء النوع قبل نفخة الروح إلى التنظيم الأسري للمحافظة على النوع والنوعيّة ومبادئ الفضيلة والقيم.

الكلمات دائما أفقر من الأفكار وأدنى منها، وهكذا كان الأسلوب الذي استخدمه الأقدمون للتعبير عن معتقداتهم وأفكارهم يقصُر في الغالب عن إيصال المعنى الذي يقصدونه خاصة لأهل زمان يبعد عنهم بأربعة آلاف عام أو أكثر، لأنّهم حين عبّروا ورمّزوا وكتبوا عن أفكارهم لم يأخذوا في اعتبارهم الدارسين الذين سيأتون في الأزمنة المتقدمة بعد آلاف السنين وسيُخضعون تلك التعابير والرموز للدراسة والتحليل بغية فهمها، ولا يتأتي أبداً لأهل ذلك الزمان -حتى ولو أرادوا- أن يكتبوا بلغة مفهومة واضحة تماما للأجيال التي تليهم بآلاف السنين يتجاوزون بها المتغيرات الهائلة في الظروف الزمانية والحضارية وبأدوات الكتابة البدائية التي عندهم. ولأنّ الكلمات هي الوسيلة للتعبير عن الفكرة، والكلمة دائماً هي أفقر من الفكرة وهي أدنى منها، والفكرة أغنى بكثير من الكلام، لذا فقد قصرت الأساطير أصلا عن التعبير تعبيرا حقيقياً عن الأفكار، فكيف للكلام مثلا أن يجد وسيلةً للتعبير عن إله واحد أحد خالق كلّ شيء، يمنع تصويره ولا يُعرف ولا يُرى سوى بالتعبير عنه بكلمات من خلال صفاته التي عرفوه بها فكريا ووجدانيا وليس كتابة وتسطيرا، ولهذا فلم يجدوا في لغتهم من كلام يمكن أن يدلّّ على الخالق الواحد سوى أنّه نور الأنوار، ربّ الأنوار، النور المحض، النور الخالق، النور العلي، واهب الأنوار، ولقد دعاه عرب وادي سوريا الأقدمون وعرب وادي النيل بقمر الكون، فلم يجدوا كلمة أخرى أبلغ من كلمة “القمر” يمكن أن تعبّر عن نور الله، ولم يكونوا يقصدون بالقمر هذا القمر التابع للأرض، وعند الأكاديين والبابليين والآشوريين كانوا يطلقون عليه اسم (سين) وسين تعني القمر، لكن بالطبع لم يقصدوا هذا القمر، وإنما هو القمر الكوني، النور المحض، هو الذي خلق الزُهرة وخلق الشمس، فقد كانوا يعلمون أنّ هذا القمر الذي نراه لم يخلق الزُهرة، ولم يخلق الشمس، بل هو تابع للأرض ويستمدّ نوره من الشمس وأنّه يدور حول الأرض وهو تابعٌ لها، وأنّ الأرض تدور حول الشمس، فـ (سين) هو القمر الكوني، الربّ الخلاّق. إذن لا يمكن الجزم بمراد الأولين من خلال كتاباتهم، ولا يمكن تسليط أدوات القياس التي نفهم بها الكتابات على مدوّناتهم، وينبغي أخذ مقاصد كلام ذلك الزمان ومحدودية كتابتهم وأغراض ترميزهم حين تفسير الأساطير.

وفيما يلي محاولة لإعادة فك لبعض الأسماء الواردة في أساطير المنطقة، حيث نعتقد بأن للأسماء هذه دلالة خاصة متعلقة بالأسطورة والمعنى المراد نقلها عبر الأجيال المتعاقبة. وبعد المقارنة مع الترجمات التي وصلتنا ومحاولات الباحثين في التفسير تتوضّح نجاعة سلوك هذا السبيل وضرورة المواصلة فيه.

إنگي/إنقي/إنجيEnki: وهو مبدأ الحكمة والنقاء وهو المُنجي، حيث مرّةً “أنگي” هو “أن-گي” (أنْ/عيْن: سيّد/عين/مسئول– گي: أيْ قِيع، لعدم لفظ حرف العين، وهي قيعان الأرض، فهو مُدبّر الأرض من الملائكة، وأيضاً “عين القاع” هو الماء) أو “أنقي” مسئول توفير المياه النقيّة (العذبة) المعتمد عليها حياة الأحياء خلْقاً واستمراراً، أو “أنجي” وهو المنجي والمُغيث والمُعين والمُعلّم، مثلما نجد حضور أنكي كالقوّة أو الملاك الذي علّم نوح بناء السفينة لإنجائه من الطوفان وعلّم البشر العلوم والحضارة. ومنها الأنوناكي التي وردت في أساطير عدّة: أنو: سماء، علويّ، رفيع، سيّد – ناكي: نقي، طاهر، فهم أنقياء السماء، السادة الأطهار، الملائكة السادة الأنقياء/الملائكة الأطهار، يُحدّدون الأقدار في “يوم القدر”.

الأجاجي: وقد ورد اللفظ في عدّة أساطير منها أسطورة “إيتانا والنسر”، والاسم قريب من اللفظ العربي “أجيج” وهم حسب دورهم في الأسطورة صنف له صلات مع الملائكة الأرباب، فمن الممكن أن يكونوا الملائكة المتأجّجة الذين يُحيطون بالجنّة الأرضيّة/السماويّة، أي هم صنف من الملائكة الزائرة للأرض في رحلة بمثابة “حجيج” منذ القدم، ويمكن أن يصف الاسم طبيعة تلك الرحلة فهي رحلة متأجّجة “أجيجٌ” في سيرها مثلا.

إنانا Inanna: وهي ربّة الحب والخصب السومرية، تلعب أدوارا هامة كمسئولة عن النسل وبقاء العترة، الاسم بمعنى: عينان سواءً تعني العين، أو عين العناية، أو قد تكون عين آن، وآن تعني السماء بالعربية السريانية، أي عين السماء، ورمزوا لها بـ”كوكب الزهرة” لأنّها تبقى كالحارسة الرقيبة في ظلمة اللّيل شرقاً أو غرباً إذا غاب الشمس أو القمر.

نينماخ/نين ماح: في أسطورة “أنكي ونينماخ وخلق الإنسان” حيث تولّي نينماخ خلق الإنسان من طين وصنع منه أشكال البشر الشاذين في خلقهم حسب الأسطورة، يبدو واضحا أنّ الاسم مركّب، ومن الممكن أن يكون مركبا من كلمتي نين-ماخ، ونين بمعنى سيدة وماخ أي مخ، فالمعنى سيّدة المخّ، أيْ العقل المدبّر.

أرشكيكالEreshkigal : هي الإلهة البابلية التي يقدّم لها أمير آشوري القرابين لتحقيق مراده لرؤية العالم الأسفل، هناك توجد أرشكيكال ملكة العالم الأسفل، التي تحدث ضغطا على مجمّع الآلهة في هذا العالم ليسمحوا للأمير بالنزول إلى العالم الأسفل، وبما أنّ الألف والعين واحدة فمن الممكن أن تتقطع الكلمة بهذا الشكل: عرش-كي(أي الأرض)-كال (هي نفسها جال أو جليل)، فيكون معناها عرش الأرض الجليل، أي هي مسئولة العالم السفلي.

إينمركار: وهو من شخصيات العالم الأسفل في الأسطورة السومرية، وبتقطيعها تكون إين=عين أي حارس، مرْ=سيّد/ربّ بالعربية السريانية القديمة، كار= كور الجبل، وحسب الأسطورة فإنّ هذه القوى أي الأرباب تتخاطب فيما بينها، بين القوّة الحارسة لجبل النور العظيم “إينماركار”، وقوّة الخصب الكونيّ “إنانا”.

شوكاليتودا Shukalletuda: نلاحظ هنا طول الاسم وغرابته بين كلمات الأسطورة التي تتحدّث عن أنانا وبستاني اسمه شوكاليتودا، ونستغرب من اعتباره اسما، فكيف لشعب يُسمّي أسماء بسيطة كنينا، أنكي، أيا، مردوخ، لولو، إيتانا .. كيف له أن يسمّى اسما بهذا الطول، لا سيّما في أسطورة ينبغي حفظها شعبياً وتناقلها شفوياً ويلعب فيها شوكاليتودا دورا رئيسا، فلا بدّ أن يحمل هذا الاسم دلالة ذهنية قريبة إلى الأفهام وفي مستوى الحفظ، “شوكاليتودا” يمكن تقطيعها حسب ترجمتها بالإنجليزية إلى (Shuk-alle-tuda) وباعتبار أنّه لا الغرب ولا السومريّون يلفظون العين، فهي بالعامّية: شوگ-اللّي-تْعَدَّى، أيْ الشوق الذي تعدّي وتجاوز بصاحبه إلى الخطيئة، وهو بالضبط ما كان عليه حال البستاني في هذه الأسطورة.

عشتار Ishtar: هي ربّة أو قوة النسل والعترة عند البابليين والآشوريين، حيث أنّ صوت الحرف (ش) يوحي بالامتداد والديمومة، والكلمة فيها إقلاب كما هو الحال في إقلاب الفعْل (قَلَب) إلى (شقلب) ليعطي معنى تقلّب تقلّباً متواصلاً، فإنّ (عشتر) هي (عتر) ومنها العترة أي السلالة، جعلوا الشين وسطها، لأنّ قوّة الإدامة ذاتيّة، فصارتْ “عشتر”، وصارت القوّة المسئولة “عشتار”، فهي القوّة الحيويّة التي جاذبت ومازجت وجامعتْ ولاءمت بين الأزواج فألقحتها وأخرجتْ كينوناتها وأدامتها برعايتها ونواميسها، وهي القوّة التي تجذب كلّ زوجين في الوجود المادّي أو الحيويّ، الرجل للمرأة مثالاً، وتُديم النسل والتوالد والبقاء.

جلجامش: من أشهر ملوك سومر سكن مدينة أور، وتنسب إليه الملحمة الشهيرة التي وجدت باللغة الأكادية، اسمه بمعنى: جلّ وعظم فهو العظيم + “جامش”: هي جاموس بالإقلاب بين الشين والسين، وللآن بعض اللّهجات العربية تنطقه (گَامُوسْ وگَامُوش) والنّوع الوحشي منه يُعدّ من أقوى وأشرس الحيوانات على وجه الأرض تهابه حتّى الأسُود، وقُدرته على تخصيب الإناث هائلة جدّاً، هكذا أرادت الأسطورة أن تصفه، فهو الثور القويّ العظيم، أو الجاموس/الثور العظيم، لفرط قوّته وفحولته ضمن شريعة الخصب التي تحكمه، حيث تقول الأسطورة: (إنّ شهوة جلجامش لم تترك عذراء لحبيبها، لا ابنة المحارب، ولا زوجة النبيل).

حمورابيّ Hamorabi: الملك البابلي المشهور، سنّ القوانين العادلة والشرائع الناظمة، اسمه يتقطع إلى حامو- ورابي، أي بمعنى محامي الربّ، وذلك يتناسب تماماً مع صفاته العادلة ودوره الكبير في بناء حضارة بابل على شريعة التوحيد.

إيزيس Isis: هي سيّدة وادي النيل (مصر) في الألف الخامس قبل الميلاد، تتولّى دور محاربة الهمجيّة، وتكريس نظام الأسرة بدلاً من شريعة الأمومة، وهي “حيزيت” على اعتبار أن الألف والحاء واحدة باللغة الإنجليزية، وهي من الفعل “حاز” أي المُبصّرة المُنبّأة الكاهنة، وهو بالضبط الدور الذي قامت به هذه الشخصية الرائدة في مصر.

من هنا تظهر الجذور العربية واضحة في الأسماء، وتكشف بجلاء الأصول العربية لأصحاب الأساطير خلال التاريخ، ولو لم يسلّم الباحثون العرب للترجمات التي قدّمها الغرب، لتمكّنوا من أن يظهروا الأساطير بترجمات أكثر دقة وأقرب للصواب، ومن حقّ هذه الأمة أن تسترجع تراثها وتحتفظ به في ربوعها، بدلا أن يتوزّع بين متاحف أمريكا وأوروبا يتفحّصونه ويقلّبونه ويعيدون قراءته وهم أبعد الناس عنه، فليس بالإمكان أن يكتشف علماء عصرنا أنّهم مقصّرون عن فهم تلك المقولات، كما يدعو صموئيل كريمر الباحث المتخصص في السومريات ما لم يعمل هؤلاء باتجاه إعادة النظر في المعطيات والنتائج التي قدّمها علماء الغرب على أنّها حقائق تاريخ منطقتنا العربية.

وفي الختام بقي أن نذكر أنّنا نهتمّ بدراسة الأساطير، لأنّها تدلّنا بدراستها دراسة نزيهة متفحصة على أنّ الله سبحانه قد اعتنى بالإنسان منذ اليوم الذي أصطفاه وحمّله أمانته وعلّمه “البيان” وأهبطه على أرضه. كذلك لأنّها تثبّت لنا وحدة تراث هذه المنطقة، ولأنّنا نأبى أن نتجاوز تراثنا ونتملّص عن تاريخنا، لعلمنا الذي أخذناه من قرآننا العظيم بأنّه تراث أمة واحدة يقف أمامها الأنبياء (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) – الأنبياء 92، وأنّه تراث متّصلة حلقاته ومترابطة، يظهر ذلك بجلاء عند إطلاعنا على أحوال الأمم السابقة والشعوب الأولى التي يُنسب إليها بدايات الحضارة الإنسانية. كما ندعو إلى إعادة اكتشاف الفكر الذي كان عليه العرب الأوائل وفهم الأسرار التي حملوها والعلوم التي أسّسوها، لندعو كذلك إلى السعي نحو ربط القرآن بالمدوّنات القديمة على اعتبار أنّها الفصل الأوَّل من فصول التعليم الإلهي على قاعدة أنّها تلتقي مع القرآن في غرضها العامّ وهي الدعوة إلى الله الواحد الأحد، وإنّ غرضنا من وراء ذلك هو كشف الحقيقة ولئلا نبقى ـ رغم مدنيتنا وعلومنا ـ نعاني من الجهل والنّضوب الرّوحيّ في جوانب سبقنا فيها الأوّلون وتقدّموا فيها علينا؛ ولكي نردّ المعروف إلى أهله بالإقرار بأنّ ما عرفناه اليوم بعد جهد جهيد قد فهمه أولئك قبلنا وأيقنوا به وأرادوا أن ينقلوه بأمانة لمن يلحقهم، وأنّ المرتكزات الأساسية التي يقوم عليها وجودنا اليوم إنّما ترجع في أصولها إليهم، ولنسلّم بعدها بأنّ الفكر الإنساني ليس إلا فكراً تراكميّاً متواصلاً، وأنّنا في عصرنا البعيد هذا نشكّل حلقة من عقد يمثّل سلسلة الحلقات البشرية، وأنّه لا يمكن لنا في أي حال من الأحوال الانفصام عن تلك السلسلة؛ لأنّ هذا الانفصام يعني تفتتها وضياعنا.

شارك بتعليقك

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني.

عصى آدم..الحقيقة دون قناع
  • معصية آدم، نموذج لمفردة في البناء المعرفي! وحلها سيعيد لإنساننا خارطة نفسه وهويته الضائعة وهدف وجوده
  • معرفة هذه الحقيقة صدمة تعيد الوعي، نعقد بها مصالحة بين التراث والمستقبل لنعيش لحظة الحاضر بيقظة أننا على جسر التحول الإنساني، الذي بدأ في الأرض بالإنسان الهمج ليختتم بالخليفة "الإنسان الإنسان"
مسخ الصورة..سرقة وتحريف تراث الأمة
  • أخذت الحركة الصهيونية على عاتقها غرس دولة لليهود في خاصرة الأمة فزوروا التاريخ العربي ونسبوه لليهود
  • اختلقوا لغة بسرقة إحدى اللهجات القبلية العربية البائدة وأسموها اللغة العبرية
  • أقحم الدين والتاريخ للسيطرة على عقول الناس ونقلت رحلات الأنبياء من مواقعها ليأسسو لاحتلال فلسطين فساهم هذا التزوير في مسخ صورة العربي والمسلم في الثقافة الغربية
مفاتيح القرآن و العقل
  • إذا كان كلام الله واحداً ودقيقاً، كيف حصل له مائة تفسير؟
  • ماذا لو كانت أمتنا تقرأه وتترجمه معكوساً، كلبسها إسلامها مقلوباً؟
  • أصحيح هذا "المجاز" و"التقديرات"،و"النسخ" و"التأويل" و"القراءات"؟
  • هل نحن أحرار في قراءة القرآن وتدبره أم على عقولنا أقفال؟
نداء السراة..اختطاف جغرافيا الأنبياء
  • ماذا يحدث عندما تغيب حضارة عريقة
  • هل تموت الحقيقة أم تتوارى عن الأنظار لتعود .. ولو بعد حين؟
  • هل تقبل بلاد وادي النيل بعودة حضارة القبط الغريبة؟
  • هل تقبل نجد بعودة موطن آباء الخليل إبراهيم وبنيه إسحاق ويعقوب؟
الخلق الأول..كما بدأكم تعودون
  • إن البشر الأوائل خرجوا قبل مئات آلاف السنين من "قوالب" الطين كباراً بالغين تماماً كالبعث
  • جاء آدم في مرحلة متأخرة جداً من سلالة أولئك البشر اللاواعي، فتم إعادة تخليقه في الجنة الأرضية ونفخ الروح فيه
  • آدم أبو الناس ليس هو آدم الرسول الذي أعقبه بمئات القرون
الأسطورة..توثيق حضاري
  • الأساطير وقائع أحداث حصلت إما من صنع الإنسان، أو من صنع الطبيعة، أو من صنع السماء
  • لكل اسطورة قيمة ودلالة وجوهراً وتكمن فيها أسرار ومعاني بحاجة إلى إدراك وفهم
  • من الضروري العودة إلى اللغة العربية القديمة بلهجاتها المختلفة لفك رموز الأساطير التي غيب الكثير من مرادها ومغازيها
التوحيد..عقيدة الأمة منذ آدم
  • لو أنا أعدنا قراءة تراثنا بتجرد لأدركنا حقيقة اليد الربانية التي امتدت لإعداة الانسان منذ خطواته الأولى على الأرض بما خطت له من الهدى
  • التوحيد منذ أن بدأ بآدم استمر في بنيه يخبو حيناً ويزهو حيناً آخر، ولكنه لم ينطفئ
بين آدمين..آدم الإنسان وآدم الرسول
  • هل هما (آدمان) أم (آدم) واحد؟
  • من هو (آدم الانسان) الأول الذي عصى؟
  • من (آدم الرسول) الذي لا يعصي؟
  • ماهي شريعة (عشتار) وارتباطها بسقوط آدم الأول حين قارب شجرة المعصية؟
طوفان نوح..بين الحقيقة و الأوهام
  • ما قاله رجال الدين والمفسرون أعاجيب لا يقبلها المنطق ولا العقل السليم في محاولتهم لإثبات عالمية الطوفان
  • استثمر المستنفعون من اليهود هذه القضية ليبتدعوا القضية السامية ويرجعوا نسبهم إلى سام بن نوح (ع)
  • قضية طوفان نوح (ع) لا تكشف التزوير اليهودي فحسب، بل تضع يدها على موضع الداء في ثقافة هذه الأمة