كنا إذا اشتد بنا الخطر، وحمي الوطيس اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم”
هكذا كان يقول عليّ (ع)، ونحن اليوم على مسافة ألف وأربعمائة سنة من فراق رسول الله (ص) واغترابنا عن نهجه، قد اشتد بنا الخطر وحمى الوطيس ولكن لا ندري إلى من نلتجئ، إذ أنّ الخطر الذي نشكو منه يداهمنا من الداخل قبل الخارج، من أنفسنا، فأصبحنا كما النار تأكل نفسها، كلما أردنا أن نطفئها من جانب أوقدها الطائفيّون في آخر.
تمرّ علينا ذكرى مولد رسول الله (ص) والأمّة بحالٍ مزرٍ من التفكّك والانقسام، والتناحر، والتقاتل، والانتقام، وردّ إساءة الأخ بأعظم منها وأكبر، وإساءة الأدب، وتلاسن مخزٍ، وتراشق بالاتّهامات لم يسبق له مثيل سوى قبل البعثة المحمدية حيث كانت العصبيات القبلية مستحكمة، والجهل حاكم، فما بال المسلمين اليوم يحملون بيد راية (فداك يا رسول الله) للدفاع عنه (ص) ومناهضة المسيئين إليه من أعداء الأمة، وبيدٍ أخرى راية محاربة، وتسقيط، وتكفير، واتهام إخوة لهم في الدين لانتمائهم لطائفة أخرى حتى انفرط عقد الفتنة الطائفية وتناثرت حبّاته، محلياً وإقليمياً وعالمياً، فاستحكمت حلقات (مافيا) الطائفية فلا يكاد ينجو من الانخراط فيها – بعلم أو بجهل – إلاّ من رحم الله.
محلّياً، إلى جانب ما تقوم به بعض مؤسّسات الدولة من ممارسات غير حكيمة تستغل فيها الاختلافات المذهبية لإثارة النعرات الطائفية والإيقاع بين الناس، من تمييز، وحرمان متعمّد، وعقوبات جماعية، وقرارات مرتجلة تستند إلى المزاج الشخصي و(العصبي) لهذا المسئول أو ذاك، فقد أطلق بعض من يدّعون أنهم نوّاب الشعب ألسنة حدادا على طائفة كبيرة من أبناء الوطن بنعتهم بأوصاف بذيئة، وبأنهم “أولاد حرام” بحجة أن علماء السنّة يرون أن زواج المتعة حرام وبما أن المذهب الشيعي يجوّز زواج المتعة، فسمح لنفسه أن يطلق هذه التسمية القبيحة على أبناء طائفة بأكملها، ثم تبجّح بعد ذلك ليبرّر لنفسه سقطته المشينة وأنه لم يقصد الإساءة (!) وحاول أن يتبرّأ من طائفيته، والغريب أنّ هذه الإساءة مرّت دون أي عقوبة أو رادع من الجهات الرسمية لمنع تكرّرها، ولكنّها لن تمرّ على عين الله تعالى، ولا على عين الرقيب محمّد (ص)، الذي يدّعي الجميع الانتماء إلى أمّته وحمل راية دينه السمح.. زوراً، بعد استبداله بدينٍ شرسٍ على الأخ المسلم والآخر المسالم.
وخليجياً، أحداث البقيع المؤسفة، وما جرى على زوّار حرم رسول الله (ص) في مدينة الرسول (ص)، وما سبقها من تغييرات إدارية (لا إصلاحات تاريخية كما يحاول البعض أن يروّج لها) طالت قطاعات متعدّدة في المملكة منها توسيع دائرة المدارس الفقهية في أعضاء هيئة كبار العلماء والذي لم يؤدِ إلى تمثيل للمذهب الجعفري إلى جانب المذاهب الأربعة الأخرى، ما أدّى إلى مصادمات انتقلت من المؤسسات إلى الأماكن المقدّسة والمزارات، فيبدو أنّ شعار حوار الأديان مع ساسة اليهود الصهاينة كبيريز والمسيحيين المحافظين كبوش وأزلامه كان على حساب تضييق مساحة الحوار بين الأخوة في الدين الواحد (المفقودة أصلاً)، هؤلاء المواطنون السعوديّون الذين اعترضوا على تصوير نسائهم من قبل هيئة ما يُسمّى بـ”الأمر بالمعروف” وقذفهم بالشتائم، فنُكّل بهم وأُغلقت منافذ التسوية وفرص العدالة في وجوههم كما تُغلق أبواب مقبرة البقيع، فتعرّت مزاعم الإصلاح السياسي والانفتاح الديني.. إذْ ما زال دينُ الشراسة –لا دين الرحمة- ديناً.
وعالمياً، محاولات الغرب المستمرة لتقسيم العالم الإسلامي عمليّا وكيديّاً إلى عرب وفرس وأتراك وأكراد، ثم إلى سنّة وشيعة وزيدية وأباضية وإسماعيلية وعلوية، ثم إلى محور شرّ واعتدال أو اعتلال، ودول ممانعة أو مصالحة، وهكذا حتى يضيع أبناء الأمة في التسميات الفئوية الضيقة، متأرجحين بين الانتماء واللاإنتماء، ومتشظيّن بين الولاء للوطن، أو الولاء للطائفة، أو لمن يحقّق لهم العدالة ولو على دبابة عدوّ أمريكي! أو لمن يعيد الحقوق لأهلها، أو لمن يعطيهم الشعور بالعزة، فينشغل الجميع عن الوحدة والائتلاف من أجل التنمية والارتقاء بالاصطفاف الطائفي والاختلاف المذهبي حتى فشلنا وذهب ريحنا.
من يطّلع على صور كهذه في أمة تدعي أنها تدين بدين نبيّ كريمٍ قال عنه ربّه (بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ) لا يرى وجه شبه بينهما، فقد اشتهر رسول الله (ص) برحمته بكل ما ومن حوله، فكان يوصي بالشجر أن لا يُقطع، وكان يقول عن جبل أحد “هذا الجبل يحبّنا ونحبّه”، حتى تراب الأرض كان يمسح به وجهه متوضئاً في حبّ وهو يقول: “تمسّحوا بالأرض فإنها بكم برّة”، وقيل أنه لما كُسرت رباعيته، وشُجّ رأسه يوم أحد، شقّ ذلك على أصحابه فقالوا له: لو دعوت عليهم، فقال: “إني لم أُبعث لعّاناً، ولكن بعثت داعياً ورحمة، اللهم أهدِ قومي فإنهم لا يعلمون”، وكفى بها صفة يتمثل بها المسلمون ليعودوا إلى رشدهم ويقضوا على التغوّل الطائفي والوحشيّة الأخلاقية والضغائن المتلبّسة بمظاهر التديّن، ذاك الذي صيّرهم كغثاء السيل بأعين أعدائهم يتخبّطهم بأقدامه.