مرت علينا قبل فترة فتنتان طائفيتان، أحداهما مسيحية، هدّد فيها القس تيري جونز، بحرق نسخ من القرآن، وقد أريد لهذه الحماقة أن تأكل ما تبقى من علاقات بين المسلمين والمسيحيين، فيحترق بها كل أخضر ويابس، ولكن الله تعالى سَلّم، فبادر أهل العقل والشيم الإنسانية من المسيحيين وأخمدوا نارها. وثانيتهما تلك التي فجّرها من أساء لمقام أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها، وإذا كانت سلسلة الفتن، وهي غير قليلة، وكلها جهل في جهل، قد مزّقتنا كل هذا التمزق، فإننا لا ندري مآل أمرنا وأي تدهور سنصير إليه لو تُركتْ هذه الفتنة تمضي نحوَ هدفها، وتسير في الطريق الشيطاني المرسوم لها، لكن الله تعالى تفضل علينا وسلّمنا من السقوط في ذلك الوادي السحيق.

إذن فالله تعالى سلمنا من مواجهة نتنة، بين المسلمين والمسيحيين، وبين المسلمين مع بعضهم بعضاً، وقد تحقق ذلك بطريقة جديرة بالتأمل والدراسة والاقتداء.

في الغالب حينما ينبري جاهل ويرتكب حماقة طائفية، على طريقة تيري جونز وياسر الحبيب، وينتج عن ذلك ردة فعلٍ لدى الطرف الآخر، ينبرى من الطائفة التي ينتمي إليها صاحب الحماقة، متعصبون يدافعون عنه وعن حماقته، وذلك يعني ــ في عالم الفتن ــ بداية حريق بعيد المدى لا يُدْرى متى ينتهي.

إلا أن الأمر اختلف هذه المرة مع هذين الأحمقين، فبدلاً من أن يسارع الحمقى والمتطرفون ويصبوا الزيت على النار، سارع العقلاء من أتباع الديانة المسيحية، مستنكرين حماقة تيري جونز، وقد صدر هذا الاستنكار من مختلف المستويات في الطائفة المسيحية، فيهم رجال دين وسياسيون وإعلاميّون وتيارات ومؤسسات على اختلاف وظائفها ومن سائر الناس أيضاً، ولم يقتصر ذلك على بلد المنشأ أمريكا، بل تعدّاها إلى أوروبا، ومن ثم امتدت مساحة الاستنكار بامتداد تواجد المسيحيين، أينما وجدوا في العالم، وقد كان للمسيحيين العرب مستوى متقدم من الاستنكار، ولا ننسى دور الحي الذي يعيش فيه جونز، فقد تنكر لحماقته، واستضاف أهله بعض المسلمين، ليؤدوا الصلاة جماعةً في الحي نفسه نكاية بالقس جونز، فكان هذا التكاتف المسيحي في مواجهة فتنة تيري جونز، موقفاً مشكوراً وكافياً لإخماد نار الفتنة، ويصلح أن يكون في جوهره، قدوة للآخرين في القضاء على فتنٍ مشابهة.

وبعد أن خمدت فتنة الأحمق تيري جونز أو كادت، أطلت فتنة طائفية أخرى رأسها، لتشب حريقاً جديداً بين المسلمين بعضهم بعضاً، حيث نال رجل دين، ينتسب للطائفة الشيعية، من مقام أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، ولكن الله سلّمَ أيضاً من هذه الفتنة، حيث تصدى لها أهل الطائفة الشيعية، فكان من المستنكرين المتبرئين من هذه الحماقة فقهاء ومؤسسات وجمعيات ومفكرون وخطباء وغيرهم من سائر أبناء الطائفة، ما شكل موقفاً نفع في درء الفتنة النتنة.

وهذا هو الطريق الصحيح في درء الفتن، هو أن يبادر ويتصدى الأقربون ويعترفوا بخطأ المنتسب إليهم، وهذا ما أمر به رسول الله (ص) جميع الأطراف التي وقّعت على صحيفة المدينة، فقد أمرهم أن يكونوا مع الحق، ونهاهم عن تأييد المعتدين والدفاع عنهم تحت أي ذريعة، وقد كرر في الصحيفة: أن هذه الصحيفة لا تحول بين الظالم وما يستحقه من عقاب، بمعنى أن الذي تدعو إليه الصحيفة، من تراحم وتعاون بين أهل كل طائفة وفريق وجماعة، لا يجوز أن يسلك الدرب الخطأ، فيحول بين المعتدي وما يستحقه من عقاب، بدعوى أن ذلك ما تدعو إليه العلاقة النسبية أو الدينية، ومتى حصل ذلك فقد رجعنا القهقرى إلى مبدأ الجاهلية “انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً”، كذلك هي المواقف الطائفية، التي يؤيد فيها ابن الطائفة، لأنه فقط ابن الطائفة، وليس مهماً بعد ذلك أن يكون محقاً أو مبطلاً، وهذا نصيب الجاهلية فينا، وهذا ما تبقى من ترسباتها في قعرنا.

إذن لا فرق بين مواقفنا الطائفية وبين مواقف عرب الجاهلية الذين ألزموا أنفسهم بنصرة بعضهم بعضاً على أساس الانتماء القبلي، وليس على أساس كون الموقف حقاً وصواباً، مع فارقٍ عظيم بين الفريقين، ذلك هو أن الفريق المنتمي للدين ينتمي إلى مرجعية تدعوه إلى تأييد الحق بمعزل عن قائله، وردِّ الباطل أياً كان صاحبه، حتى نتفادى اتباع الأشخاص وتأييدهم من دون حقٍ.

إن الكثير الكثير من العدوان فيما بيننا، وتداعيات ذلك من ألوان الحقد والكراهية والبغضاء والإيذاء وقتلنا لأنفسنا وتكفير بعضنا بعضاً، كل هذا الحريق الذي أحرق أخضرنا ويابسنا لم يتسبب به إلا الحمقى من طوائفنا، فهم حملة لوائه وناشروا رايته والداعون إليه، فهم حمقى هذه الأمة، وهم جهالها، وإن تشبهوا بالعلماء، والجهال لا يبرزون إلا إذا توارى المصلحون وتقاعسوا عن أداء واجبهم، من أجل ذلك يصح القول: إن القادرين على درء الفتن، إذا تخلوا عن واجبهم وأطلع هؤلاء الجهال رؤوسهم ونفثوا سمومهم بين مختلف الأطراف، وانساقت الأمة فيما رُسم لها من انحدارٍ نتنٍ فهم ( أي القادرون) شركاء في تحمل الجريمة بمقدار سكوتهم.

فلا بد للقادرين على الاصلاح من درء الفتن، تكريساً لأمر الله تعالى ورسوله الكريم (ص) بالوحدة، وإسقاطاً لمشروع الشيطان، الذي يحزنه أن نتحد ويفرحه أن نتمزق.

لكن درء الفتن بنحوٍ استئصالي يعتمد على معادلة ذات طرفين؛ أحد طرفيها هو ـ كما تقدم ـ مواجهة الحمقى بجهالتهم والتبرؤ منها، من قِبَل أهل الطائفة نفسها، والطرف الآخر للمعادلة، هو أن ننشر في الأمة الحصانة المهمة المتمثلة في مفهوم الآية الكريمة وقيمة العدل فيها قوله تعالى (وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) 7- الزمر، ولو استوعبنا هذه الآية وعملنا بها، لكفتنا شر هذه الفتن، وحصّنتنا من السير في ركابها، ومن تردداتها الانفعالية، لأن الآية راسية على قاعدة العدل التي يرسو عليها الدين كله، فلو أنّ إنساناً عوقب بجرم غيره، لكان ذلك العقاب جناية، ولو عاقبنا اثنين بجرم ثالث لكانت الجناية أعظم، وهكذا كلما ازداد عدد من نعاقبهم بسبب جرمٍ ارتكبه غيرهم، تضاعفت درجة الجناية وفقاً لميزان لعدل، وفي الفتن الدينية تظلم طوائف بأكملها بسبب جرم يقترفه بعض جهالها، ومع الأسف فإن الذين ظُلموا بسبب الفتن الطائفية قد تجاوزوا حدَّ الاحصاء، بالرغم من أنّ من بديهيات ديننا عدم مؤاخذة الإنسان بجرم غيره، (قَالَ مَعَاذَ اللّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ إِنَّـآ إِذًا لَّظَالِمُونَ) 80 – يوسف.

شارك بتعليقك

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني.

عصى آدم..الحقيقة دون قناع
  • معصية آدم، نموذج لمفردة في البناء المعرفي! وحلها سيعيد لإنساننا خارطة نفسه وهويته الضائعة وهدف وجوده
  • معرفة هذه الحقيقة صدمة تعيد الوعي، نعقد بها مصالحة بين التراث والمستقبل لنعيش لحظة الحاضر بيقظة أننا على جسر التحول الإنساني، الذي بدأ في الأرض بالإنسان الهمج ليختتم بالخليفة "الإنسان الإنسان"
مسخ الصورة..سرقة وتحريف تراث الأمة
  • أخذت الحركة الصهيونية على عاتقها غرس دولة لليهود في خاصرة الأمة فزوروا التاريخ العربي ونسبوه لليهود
  • اختلقوا لغة بسرقة إحدى اللهجات القبلية العربية البائدة وأسموها اللغة العبرية
  • أقحم الدين والتاريخ للسيطرة على عقول الناس ونقلت رحلات الأنبياء من مواقعها ليأسسو لاحتلال فلسطين فساهم هذا التزوير في مسخ صورة العربي والمسلم في الثقافة الغربية
مفاتيح القرآن و العقل
  • إذا كان كلام الله واحداً ودقيقاً، كيف حصل له مائة تفسير؟
  • ماذا لو كانت أمتنا تقرأه وتترجمه معكوساً، كلبسها إسلامها مقلوباً؟
  • أصحيح هذا "المجاز" و"التقديرات"،و"النسخ" و"التأويل" و"القراءات"؟
  • هل نحن أحرار في قراءة القرآن وتدبره أم على عقولنا أقفال؟
نداء السراة..اختطاف جغرافيا الأنبياء
  • ماذا يحدث عندما تغيب حضارة عريقة
  • هل تموت الحقيقة أم تتوارى عن الأنظار لتعود .. ولو بعد حين؟
  • هل تقبل بلاد وادي النيل بعودة حضارة القبط الغريبة؟
  • هل تقبل نجد بعودة موطن آباء الخليل إبراهيم وبنيه إسحاق ويعقوب؟
الخلق الأول..كما بدأكم تعودون
  • إن البشر الأوائل خرجوا قبل مئات آلاف السنين من "قوالب" الطين كباراً بالغين تماماً كالبعث
  • جاء آدم في مرحلة متأخرة جداً من سلالة أولئك البشر اللاواعي، فتم إعادة تخليقه في الجنة الأرضية ونفخ الروح فيه
  • آدم أبو الناس ليس هو آدم الرسول الذي أعقبه بمئات القرون
الأسطورة..توثيق حضاري
  • الأساطير وقائع أحداث حصلت إما من صنع الإنسان، أو من صنع الطبيعة، أو من صنع السماء
  • لكل اسطورة قيمة ودلالة وجوهراً وتكمن فيها أسرار ومعاني بحاجة إلى إدراك وفهم
  • من الضروري العودة إلى اللغة العربية القديمة بلهجاتها المختلفة لفك رموز الأساطير التي غيب الكثير من مرادها ومغازيها
التوحيد..عقيدة الأمة منذ آدم
  • لو أنا أعدنا قراءة تراثنا بتجرد لأدركنا حقيقة اليد الربانية التي امتدت لإعداة الانسان منذ خطواته الأولى على الأرض بما خطت له من الهدى
  • التوحيد منذ أن بدأ بآدم استمر في بنيه يخبو حيناً ويزهو حيناً آخر، ولكنه لم ينطفئ
بين آدمين..آدم الإنسان وآدم الرسول
  • هل هما (آدمان) أم (آدم) واحد؟
  • من هو (آدم الانسان) الأول الذي عصى؟
  • من (آدم الرسول) الذي لا يعصي؟
  • ماهي شريعة (عشتار) وارتباطها بسقوط آدم الأول حين قارب شجرة المعصية؟
طوفان نوح..بين الحقيقة و الأوهام
  • ما قاله رجال الدين والمفسرون أعاجيب لا يقبلها المنطق ولا العقل السليم في محاولتهم لإثبات عالمية الطوفان
  • استثمر المستنفعون من اليهود هذه القضية ليبتدعوا القضية السامية ويرجعوا نسبهم إلى سام بن نوح (ع)
  • قضية طوفان نوح (ع) لا تكشف التزوير اليهودي فحسب، بل تضع يدها على موضع الداء في ثقافة هذه الأمة