طلاب الجهاد في سبيل الله على غير بصيرة قد يخترعون لأنفسهم أبوابًا يحسبونها عليه ويضحون في سبيلها بأنفسهم وأموالهم وأعراضهم، ثم قد لا تكون ثمرة جهادهم هذا إلا مزيدًا من الدمار والعار للجميع: أمة ومذهبًا وأفرادًا وأولها هم أنفسهم.
بعضهم يجاهد بقتل المدنيين غير المحاربين من غير المسلمين ممن لم يشهروا سلاحًا، متعللاً بأن بلادهم كأمريكا هي أم الشرور وهي التي تنتهك البلاد والعباد، فيخلط ما بين الحكومة والناس، مستنبطًا ذلك من آراء غير سديدة، تقوم على أن الحكومة إنَّما تقاتل بأموال ضرائبهم، وأنَّهم يسندون بلادهم في بغيها وعدوانها، ولو كان الأمر كذلك لما كان هناك معنى لتحريم قتل غير المقاتلين، وهل يتوقع عاقل أن لا تتعاطف الأبناء مع آبائهم والنساء مع أزواجهم؟ ولكن رغم هذه الطبيعة المعروفة لم يسمح الدين ولا الأخلاق ولا القانون باستهدافهم في الحرب، ولكنَّك ترى أنَّ أكثر الإرهاب اليوم الذي يوقعه المسلمون بغيرهم قائم على هذا الفهم المعوج ويحسبون أنهم يحسنون صنعًا.
وبعض من تسمى بالجهاد جرّه التعصب والتكفير إلى إباحة قتل وتفجير أمثاله من المسلمين، طورًا بدعوى مساندتهم للمحتل ورضاهم به، أو بدعوى كفرهم وفساد عقيدتهم وإشراكهم بالله، فيفجر أسواقهم ومآتمهم ومساجدهم وتكاياهم وزواياهم ويهدم قبور أوليائهم، وقد يقوم بذلك عبر عملية يسميها استشهادية.
وبعضهم سحبهم الفشل السياسي إلى الانتقال لباب من “الجهاد” آخر، فعمدوا لكسب الأنصار من خلال المبالغة في التعصب المذهبي والتطاول على أصحابها بالسباب والتكفير واللعن، نجد هذا عند متحزبين فاشلين من الشيعة والسنة، يملئون بدل فشلهم وعجزهم دنيانا دخانًا مسمومًا وسوادًا كالحًا.
ومنهم هؤلاء المتعرضون لسباب السيدة عائشة والمسقطون لحرمتها يتهمونها بالخيانة والغدر والمساهمة في اغتيال الرسول “ص” هي وحفصة، خدمة لرغبة أبويهما في التخلص من رسول الله “ص” والاستيلاء على الأمر من بعده، هم فئة فاشلة تبحث بهذا التهور القاتل للأمة عن الشهرة والبروز واكتساب تعاطف جهلة الشيعة ممن هم الآخرون موتورون جراء سماعهم لسيل السباب والتكفير من جماعات متعصبة من السلف الوهابيين بالذات أو من غيرهم من جهلة أهل السنة، فإذا الأمة بهم وسط حريق مدمر.
ولكن هل كان هذان هما أول من تطاول من علماء الشيعة على السيدة عائشة واتهمهما وحفصة وأبويهما بمثل هذه التهم الباطلة المتهورة؟ كلا، فقد سبقهم لمثل هذا علماء آخرون واستندوا في مقولتهم لروايات سنية وشيعية إما موضوعة أو متأولة تأولاً باطلاً مغرضًا، ففي كتاب “اغتيال النبي” للشيخ نجاح الطائي وهو شيخ عراقي معاصر يعيش فتنة العراق بين الشيعة والتكفيريين من أتباع القاعدة ويكتب من وحي جوها المسموم، فيتكلم في ذلك بكل صراحة وإصرار، ويتأول بالباطل الرواية في البخاري ومسلم:
قالت عائشة لددنا رسول الله (ص) في مرضه وجعل يشير إلينا لا تلدّوني، قال فقلنا كراهية المريض بالدواء، فلما أفاق قال ألم أنهكم أن تلدّوني؟ قال: قلنا كراهيةٌ للدواء، فقال لا يبقى منكم أحد إلا لدّ وأنا أنظر، إلا العباس فإنه لم يشهدكم . (اللدّ هو إدخال الدواء في أحد شقي الفم).
فهذا ما تأوله بالباطل من روايات السنة ووجه البطلان جلي لمن لم تُعمِهِ سكرة التعصب والحالة النفسية غير السوية التي يعيشها في ظل القتل المذهبي المتبادل، فلو كان الدواء سمّا لتسمم به كل الحاضرين، ولكتم الفاعلون أمرهم، وكيف لهم أن يفعلوه وهم في جمع حاضر ويحتمل أن يدخل عليهم العوّاد في كل حين؟ ولكن حينما يتحدث متعصب إلى متعصبين وموتور إلى موتورين، فإنهم يريدون تصديق مقولته صائبة أو خاطئة، مستقيمة أو ضالّة، ومن أحب شيئًا أعمى بصره. والمشكلة أن القتل المتبادل قد يمكن السيطرة على جغرافيته ولكن كيف يمكن السيطرة على هذه الكتب القاتلة ومنع انتشار سمومها في بدن الأمة كلها؟
ومع شكّي البالغ في تفاصيل هذه الرواية فليس رسول الله “ص” بضعيف لا في مرضه ولا في غيبوبته، إلا أنَّها وعلى فرض ثبوتها لا تقوم دليلاً على الخيانة إن لم تكن دليلاً على الرعاية والمحبة، ولا أرى أحدًا هو أشد عمى ممن يظن بالسيدة عائشة أنَّها كانت تبغض النبي “ص”، بل هي كانت تغار عليه أشد الغيرة حتى من علي بن أبي طالب “ع”، وكان عليٌ يفسر سبب ثقله على قلبها بالغيرة منه ومن محبة الرسول له فيقول قد غلبها ما يغلب النساء، أي الغيرة، وغيرتها من منافسة ضرائرها معروفة، وما كان ذلك منها إلا لفرط محبة لمحمد “ص” كزوج على الأقل، وهل يشك منصف في محبتها له ولو كزوج؟
وأما ما ذكره من الأحاديث الموضوعة على أهل البيت فما رواه عن تفسير العياشي وصاحب البحار الشيخ المجلسي من أن السيدة عائشة وحفصة سقتاه سمًا فمات منه لا من أثر سم اليهودية في خيبر الذي كان قبل ثلاث سنين بل ولم يتناوله النبي لما أخبره عنه جبريل “ع”، هذه روايات مكذوبة موضوعة قد وضعها قوم لأغراض لا نعلمها على وجه اليقين، ولا أدل على بطلانها من مخالفتها لمعاملة علي بن أبي طالب والحسن والحسين للسيدة عائشة، فلو كان يحق لأحد أن يطعن في السيدة عائشة لكان هذا الحقّ لعلي، فقد كانت له خصمًا ولم تقبل أن يدفن الحسن مع جده، ولكنَّهم لم يخفروا لها حرمة وحفظوا فيها حرمة رسول الله “ص” فكان أن أعادها علي بعد الجمل مخفورة مكرمة، ولما خاطبه الجاهلون في سبي النساء في الجمل قال: أيكم يحب أن تصير أم المؤمنين في سهمه”
لقد سكت السابقون واللاحقون عن تطاول هؤلاء العلماء وتحفظوا أن ينكروا عليهم هذه المناكر المتعصبة وهذا التطاول الجائر، بل كان مثل هذا التطاول علامة قوة في الدين عند قوم في زمان ما، حيث كانت الدول تسخّر النزاع المذهبي في الخصومة بينها، كما بين الصفويين والعثمانيين، وينبغي للمحقين الحق اليوم أن ينكروا هذا الباطل المفسد في الأمة ودون مواربة كائنًا من كان قائله، فالخلاف في مسائل من الدين والعقيدة لا يجوز أن يدفعنا لإسقاط حرمات بعضنا، فنعود كفارًا بنعمة الإيمان كما حذرنا رسول الله يوم الوداع .
إن السيدة عائشة هي زوج النبي، مات عنها رسول الله “ص” وهي زوجه، وعليه فهي أم للمؤمنين، فمن كان مؤمنًا فشكْر نعمة الإيمان تقتضي منه توقير حرمة الرسول “ص” في أهل بيته، ولو كان لأحد أن يسخط من السيدة عائشة لكان عليًا “ع”، ولكنَّه حفظ لها مقامها من النبي “ص”، وأمهات المؤمنين لسن معصومات عن الخطأ، ولكنَّهن لسن كأحد من النساء، فمن أهانهن فقد جرح رسول الله، سواء قبل وفاته أو بعدها.
إن الأمر الذي ينبغي علينا اليوم سنة وشيعة هو أن نستنكر كل قول يثير البغضاء والكراهية بيننا ويساعد على الفرقة، وينبغي أن نحذر أشد الحذر أن تقودنا عصبيات البعض منا إلى إسقاط حرمة الجميع فإنَّ ذلك هو أشد خطرًا وضررًا من ضلالة البعض من هذا الطرف أو ذاك، وإن فرحة الأعداء إنَّما تتحقق بالفرقة إن كنا نعقل، وكفي بالمرء تكبرًا وضلالة أن لا يرى خيرًا في مختلف معه في رأي أو اعتقاد.