إلى أمّي الرحيمة.. وكلّ أمّ

تحتفل ثقافاتُ العالَم بيومٍ لعيد الأمّ، احتفاءً بقيمة الأمّ وإكراماً لها ولدورها الحيويّ، لأنّا كأطفال ربّما نستطيع أن نعيش بلا أب، لكنْ ليس بلا أم، هذا ما استلهمناه من سيرة نبيّنا(ص) وسيرة ملايين الأطفال والمنكوبين.. ذلك أنّ مصادر حياة الطفل وموارد رحمته تكمن لدى الأمّ، فالأم هي الرحم الذي لابدّ وأن يضمّه، والأم هي الثدي الذي لابد وأن يرتضع منه، والأمّ هي الحجْر الذي لابد وأن يحتضنه..الأمّ هي مأمُّه ومأواه، هي الرحمة الربّانية الحافّة به، إنّها الممثّل الحقيقي لرحمة الله على الأرض وظلّه الظليل، لذلك ورد في الأثر حين تُوفّيت أمّ موسى(ع) ودفنها وأهال عليها التراب، نُودي: “يا موسى لقد أغمضت العينيْن اللتين كنتُ أنظر إليك من خلالهما”.. ولعلّ هذا يعطي تأويلاً آخر للآية الكريمة المُوردةِ نداءَ الله لموسى امتناناً (.. وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي، إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَن يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا).. فعين الله عينُ أمّه.. عيْنا الرحمة.

إنّ العالِم الديني لأجل أن يُصنَع عالِمًا يتتلمذ على سلسلة مشايخ الرجال، فيدرس على فلان كذا، وعند آخر وآخر كذا وكذا، يمرّ على مصانع الرجال ليتخرّج عالِماً، ولقد تساءلتُ طويلاً ما الذي يُخرّج المرء إنساناً؟ أيْ أيُّ مصنعٍ يصطنع للفرد ضميراً ليكون إنساناً رحمانيّاً يملؤه الحبّ والإيثار؟

هذا السؤال نستطيع عرضه على أكبر نموذج رحماني ذي ضمير حيّ عرفته البشرية، حبيبنامحمّد (ص)، الذي قال عن نفسه “أنا رحمةٌ مُهداة” ووصفه وحيُ السماء بأنّه “رحمةٌ للعالمين”..

فوجدناه (ص) ما مرّ بمصانع الرجال، بل بمصانع النساء الحانيات تلقّفنه من يدٍ ليدٍ، حملاً، واحتضانا، ورضاعاتٍ، وحجوراً، وكفالاتٍ، ورعايةً.. لدرجة أنّ هذا الطفل السماويّ الذي وُجِد يتيمَ الأب جنيناً، ثم يتيمَ الأمّ بسنّ ستّ سنين، ثمّ يتيمَ الجدّ الكافل بسنّ ثماني سنين.. تعرّض لنفحات الرحمة اللاتي عوّضنه فقْد اليتم، وأعني بنفحات الرحمة كرائمَ الأمّهاتِ النبيلات.. فكان له أمّهات شتّى، ولا غرو أن يجعل -لاحقاً بعد نبوّته- مِن نسائه العفيفات أمّهاتٍ لأمّتِه..

حملته “آمنة” وولدته، أرضعته “ثُويبة” التي أرضعت عمّه سيّد الشهداء حمزة، ثمّ أرضعته “حليمة” السعدʙјɘ̠ثمّ أعادته لأمّه، ثمّ ربّته “أم أيمن” (جارية أمّه)، ثمّ كفلته “هالة” (زوجة جدّه عبدالمطّلب)، ثمّ رعته “فاطمة” بنت أسد (زوجة عمّه أبي طالب)، وحتّى حين شبّ وتزوّج “خديجة” كانت له زوجةً حانيةً كالأم الرؤوم، صدّقته حين كذّبته الناس، آوته حين طردته الناس، أعطته حين حرمته الناس, واسته حين خذلته الناس.. بل حتى “فاطمة” الزهراء ابنته كانت قطعةً من جوهر رحمة.. فصارت لأبيها كالأمّ الشفيقة تمسح البلاء والعناء عنه، وتحتضنه كلّما اعتصرته الآلام والآهات.. فلقّبتْ “أمّ أبيها”..

لذلك حين سُئل (ص) عن أوْلى مخلوقٍ بالمرء أجاب: “أمّك، ثم أمك، ثم أمك”.. إنّما ليُترجم واقعاً مرّ به ويمرّ به كلّ طفلٍ ويتيمٍ وكلّ مَن لا عائل له، فالأمّهاتُ كنّ كافلاته في يتمه، كفالةً أموميّة رحمانيّة صاغتْ ضميرَه ليهتف بعد عقودٍ: “أنا وكافلُ اليتيم كهاتين في الجنة” وساوى بين إصبعيه.. وأنّ الجنّة تحت أقدام الأمّهات لأنّهنّ اللاتي يصغن في الصغار ضميرَهم الرحمانيّ الراحم، معظمنا تعلّمنا من أمّهاتنا الفاضلات حبّ المساكين، وإطعام الجياع، وإعطاء فضل طعامنا وتجهيزها للطيور والحيوانات المتسولّة، وإعانة أيّ محتاج، والرأفة بكلّ ضعيف.. تعلّمناه من “أمّهاتنا” العطوفات.

لقد سمّى (ص) نماذج نساء الرحمة تلك بأسماء دلّت على صنيعهنّ: أمّ الفضل، أم اليتامى، أم البنين، أم المساكين، أم الخير، وحين قال (ص) “حُبّب إليّ من دنياكم ثلاث: النساء والطيب والصلاة” فإنّما لأنّ هذه الوجودات الثلاث نفحاتٌ وروائحُ تُذكّره بالعالم الرحيب الذي فوق-الدنيا، عالَم الأرواح الطيّبة المتواصلة بالرحمة، و”النساء” المعنيّات المحبّبة إليه هنّ المغدقات رحمةً، وصُنّاع الضمائر في دنيا عالمنا..

ولقد اعتنى (ص) بهذا الجنس الرقيق “الرحماني” منذ بواكيره فقال (ص): “مَن عال ثلاث بناتٍ أو ثلاث أخوات، وجبتْ له الجنة.. قيل: يا رسول الله واثنتين؟ قال: واثنتين، قيل: يا رسول الله وواحدة؟ قال: وواحدة”.

فإذا كان العالِمُ الديني تُصاغ علميّته بمصانع الرجال، فإنّ نبيّنا الأعظم، رحمةَ العالمين، وكلّ حرّ ذي ضمير إنّما يُستنبت ضميرُه وتُصاغ أخلاقه الرحمانية وطبائعُه المرهفة التي رأسُها الصبرُ والحبّ والإيثار، تُصاغ بالمرور والتتلمذ على سلسلة مصانع صُنّاع الرحمة ومولّداتها من النساء والأمّهات الشريفات المُذكّرات بعوالم الروح.. حيث الحبّ المطلق والتفاني.. حيث أفياء الرحمة، أولئك المذكّرات بيد الله الغاذية وعين الله الراعية (أمّك، ثمّ أمّك، ثمّ أمّك).

فالأمّ -أكانت أمّ عيال أمْ أمّ مساكين وأيتامٍ وتلاميذ.. أم حتّى أمّ قضايا اجتماعية نبيلة- هي مدرسةٌ.. إذا أعددْتَها أعددتَ شعبًا طيّبَ الأعراق، وتكريمُ الأمّ وإكرامُها يكمن بالمحافظة على نموذجها الفذّ، بإعداد فتياتنا وفق طبيعتهنّ الرحمانيّة، وتجنيبهنّ برامج محق إنسانيتهنّ، وتوعيتهنّ بوخامة أثر أصباغ المدنية الزائفة.. المكدّسة بمساحيق مادّةٍ غرضُها سحق طبيعتهنّ الإلهية وإعادة خلقهنّ أنانيّاتٍ شرساتٍ لا تليق إحداهُنّ بالأمومة المعطاءة، وليست أهلاً باحتضانها وتخريجها بشراًً سويّاً سواءً مِن رحمها أو عبر محضنها، هذا الإعدادُ الاستباقيّ “للأم-المدرسة” التي مسارُ الجنّة تحت خطوات قدميها (وليست مجرّد امرأةٍ النارُ في منخريْها والشهواتُ في عينيها).. هذا الإعداد لنموذج هذه الأمّهات الرؤوفات هو ما يُبقي جذوةَ الأمل بأنّ الإنسانية ستبقى بخير لأنّ ضميرها ما زال قابلاً للولادة.

شارك بتعليقك

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني.

عصى آدم..الحقيقة دون قناع
  • معصية آدم، نموذج لمفردة في البناء المعرفي! وحلها سيعيد لإنساننا خارطة نفسه وهويته الضائعة وهدف وجوده
  • معرفة هذه الحقيقة صدمة تعيد الوعي، نعقد بها مصالحة بين التراث والمستقبل لنعيش لحظة الحاضر بيقظة أننا على جسر التحول الإنساني، الذي بدأ في الأرض بالإنسان الهمج ليختتم بالخليفة "الإنسان الإنسان"
مسخ الصورة..سرقة وتحريف تراث الأمة
  • أخذت الحركة الصهيونية على عاتقها غرس دولة لليهود في خاصرة الأمة فزوروا التاريخ العربي ونسبوه لليهود
  • اختلقوا لغة بسرقة إحدى اللهجات القبلية العربية البائدة وأسموها اللغة العبرية
  • أقحم الدين والتاريخ للسيطرة على عقول الناس ونقلت رحلات الأنبياء من مواقعها ليأسسو لاحتلال فلسطين فساهم هذا التزوير في مسخ صورة العربي والمسلم في الثقافة الغربية
مفاتيح القرآن و العقل
  • إذا كان كلام الله واحداً ودقيقاً، كيف حصل له مائة تفسير؟
  • ماذا لو كانت أمتنا تقرأه وتترجمه معكوساً، كلبسها إسلامها مقلوباً؟
  • أصحيح هذا "المجاز" و"التقديرات"،و"النسخ" و"التأويل" و"القراءات"؟
  • هل نحن أحرار في قراءة القرآن وتدبره أم على عقولنا أقفال؟
نداء السراة..اختطاف جغرافيا الأنبياء
  • ماذا يحدث عندما تغيب حضارة عريقة
  • هل تموت الحقيقة أم تتوارى عن الأنظار لتعود .. ولو بعد حين؟
  • هل تقبل بلاد وادي النيل بعودة حضارة القبط الغريبة؟
  • هل تقبل نجد بعودة موطن آباء الخليل إبراهيم وبنيه إسحاق ويعقوب؟
الخلق الأول..كما بدأكم تعودون
  • إن البشر الأوائل خرجوا قبل مئات آلاف السنين من "قوالب" الطين كباراً بالغين تماماً كالبعث
  • جاء آدم في مرحلة متأخرة جداً من سلالة أولئك البشر اللاواعي، فتم إعادة تخليقه في الجنة الأرضية ونفخ الروح فيه
  • آدم أبو الناس ليس هو آدم الرسول الذي أعقبه بمئات القرون
الأسطورة..توثيق حضاري
  • الأساطير وقائع أحداث حصلت إما من صنع الإنسان، أو من صنع الطبيعة، أو من صنع السماء
  • لكل اسطورة قيمة ودلالة وجوهراً وتكمن فيها أسرار ومعاني بحاجة إلى إدراك وفهم
  • من الضروري العودة إلى اللغة العربية القديمة بلهجاتها المختلفة لفك رموز الأساطير التي غيب الكثير من مرادها ومغازيها
التوحيد..عقيدة الأمة منذ آدم
  • لو أنا أعدنا قراءة تراثنا بتجرد لأدركنا حقيقة اليد الربانية التي امتدت لإعداة الانسان منذ خطواته الأولى على الأرض بما خطت له من الهدى
  • التوحيد منذ أن بدأ بآدم استمر في بنيه يخبو حيناً ويزهو حيناً آخر، ولكنه لم ينطفئ
بين آدمين..آدم الإنسان وآدم الرسول
  • هل هما (آدمان) أم (آدم) واحد؟
  • من هو (آدم الانسان) الأول الذي عصى؟
  • من (آدم الرسول) الذي لا يعصي؟
  • ماهي شريعة (عشتار) وارتباطها بسقوط آدم الأول حين قارب شجرة المعصية؟
طوفان نوح..بين الحقيقة و الأوهام
  • ما قاله رجال الدين والمفسرون أعاجيب لا يقبلها المنطق ولا العقل السليم في محاولتهم لإثبات عالمية الطوفان
  • استثمر المستنفعون من اليهود هذه القضية ليبتدعوا القضية السامية ويرجعوا نسبهم إلى سام بن نوح (ع)
  • قضية طوفان نوح (ع) لا تكشف التزوير اليهودي فحسب، بل تضع يدها على موضع الداء في ثقافة هذه الأمة