فتح الله سبحانه أبواب طلب الرزق الحلال على مصاريعها، وحثّ عليه دينه الحنيف وعدّ الكادّ على عياله كالمجاهد في سبيل الله، ولم يجعلْ من بين أساليب طلب الرزق الاسترزاق بالدين بل سدّ الباب أمام هذا النوع من الاستغلال للدين، كان ذلك واضحاً على لسان رسله الذين صرحوا بأنهم لا ينتظرون من أقوامهم جزاءً ولا شكوراً مقابل أشرف وأقدس وظيفة اضطلعوا بها وهي تبليغ الرسالة، وإنّما أجرهم على الله سبحانه قال تعالى: (وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الشعراء:109) وقد تكررت نفس الصيغة في سورة الشعراء خمس مرات على لسان نوح وهود وصالح ولوط وشعيب (ع) تأكيداً على عدم تقاضي الأجر على إبلاغ الناس تعاليم دينهم، ولتأمين رزقهم فقد عمل أنبياء الله وأولياؤه في الرعي والتجارة والنجارة والحدادة والفلاحة حتى أن أحد شيوخ المتصوفة لقي الإمام الباقر(ع) يوماً في بعض نواحي المدينة في ساعة حارة وقد تصبّب عرقاً فقال له: شيخ من أشياخ قريش في هذه الساعة على هذه الحال في طلب الدنيا، أرأيت لو جاء أجلك وأنت على هذه الحال ما كنت تصنع؟ فردّ عليه: “لو جاءني وأنا على هذه الحال جاءني وأنا في طاعة من طاعات الله أكفّ بها نفسي وعيالي عنك وعن الناس، وإنما كنت أخاف الموت لو جاءني وأنا على معصية من معاصي الله”.

لقد كان الحرص على عدم استغلال الدين من أجل تأمين لقمة العيش تجسيداً عملياً في حياة هؤلاء العظماء، لأنّ الحاجة إلى الدين فطرية والناس -مهما كانت درجة تدينهم ـ يريدون إشباع عاطفتهم الدينية والفطرة التي فُطروا عليها، كما أنهم بحاجة إلى الرجوع إلى الله عزّ وجلّ (القوة المطلقة) في حال الشدّة والعجز والفقر والمرض رجاء أن يمنّ عليهم بالرخاء والقوة والغنى والصحة، مما يجعلهم عرضة للاستغلال من قبل أدعياء المعرفة والمنزلة عند الله سبحانه، الذين جعلوا من أنفسهم مسيح هذا العصر.. يدّعون القدرة على إبراء الأكمه والأبرص بإذنه، وخزعبلة إخراج الجنّ والشياطين وتوفيق سُبل النجاح! ويستحصلون مقابل ذلك أموالاً تبهظ جيب الغني والفقير على السواء، ولو اقتصر السلب على الأموال لهان الأمر ولكنهم يسلبون بذلك عقول الناس ويفسدون عقائدهم، وليس ذلك بالأمر الهين وهو عند الله عظيم أن يُستغفل الناس في دينهم وعقولهم عند حاجتهم الماسة للمساعدة في الخلاص من المشاكل التي تؤرّقهم، فإن الإنسان حين المرض ـ مثلاـ يكون في أضعف حالاته جسمياً ونفسياً وذهنياً ويكون مستعداً بل مضطراً لدفع الكثير من المال إن وُجد، وإنْ عزّ تحمّل تبعات الاقتراض من الآخرين بهدف العلاج، وقد يتنازل عن قدر من عقله وتفكيره المنطقي بحثاً عن علاج سريع لمرضه خصوصا إذا ما طال أمده وكان داؤه عضالا!

لقد جعل البعض من آيات القرآن الكريم مادة رابحة لعيادته الطبية مستغلاً بذلك إيمان المريض بهذا الكتاب المقدّس لديه ورغبته في الشفاء ووضع حدّ لآلامه! فمقابل كتابة الآية أو قراءتها لابد من دفع الأجر الذي يحدّده نوع العمل دون النظر في أهليّة صاحبه، مع أن أخذ المال في حد ذاته على هذا العمل دليلٌ على عدم الأهلية، صحيحٌ أنّ القرآن يقول عن نفسه: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ)(الإسراء: 82)، و(قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ)(فصلت: 44)، فالشفاء موجود في القرآن ولكنْ ضمن معادلةٍ يدخل الإيمان عنصراً أساسياً في أحد طرفيها، وليس هو من نوع العسل الذي فيه شفاء للناس.. كل الناس، وإنما شفاؤه للمؤمنين به.. العاملين بأوامره والمنتهين عن نواهيه، وليس شفاؤه في الأساس متوجهاً إلى أمراض الجسم وإنْ حصل ذلك تبعاً، وإنّما إلى أمراض القلوب والنفوس والتي تنعكس آثارها على الجسم حتما.

(وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)(الأعراف:31) توجيه تربوي وصحي يقي الإنسان من كثير من الأمراض، فكيف لمَنْ لم يلتزمْ به فأُصيب بالمرض أن يتخذ من القرآن رقيةً طلباً للشفاء؟!.. إيمانه بهذه الآية يعني العمل بها فتكون له شفاءً من كل أمراض الإسراف في الأكل والشرب، إذن الأصل في الاستشفاء بالقرآن عملي وليس نظري، إنّ من طبيعة الإيمان بأيّ شيء أن يفعل المعاجز، ولهذا كان العلاج النفسي بالوهم يُعالج الكثير من أمراض الجسد، لأنّه يعتمد على قناعة النفس بقدرتها على ترميم جسدها، فكيف لو كان أمراً كالإيمان بقرآن أو بدعاء أو بحجر كريم أو أيّ شيء مقدّس؟! لكن تعليق الشفاء على تلاوة الآيات نفسها بدون مرادها الفعلي وهو إيمان المريض بالقدرة العلاجية الذاتية، فيه مجازفة بكتاب الله وتعريضه للاستخفاف، لأنّه يُوضع في غير موضعه، لاسيّما من قبل المستنفعين والدجّالين، وقد توعد الله سبحانه بالويل الذين يجعلون من كتابه مادة للإثراء الدنيوي على حساب المحتاجين والطالبين لبركته (لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ)(البقرة: من الآية79)

إن نصيب المصابين بالأمراض النفسية من الاستغفال والابتزاز أكبر، حيث يزعم هؤلاء إن سببها الجن الذي يحلّ في جسم المريض مسبباً له الأذى والمرض ولا يخرج منه حتى تُلبى مطالبه غير المنطقية! ولشراء راحته من هذا المرض يستجيب الأهل لطلبات الجني التي هي ليست في الحقيقة إلا طلبات المعالج علاوةً على دفع أجرته نظير إخراجه! وقد تستمر المفاوضات طويلا بين المعالج والجن للخروج من جسد المريض وتُتلى الكثير من الآيات القرآنية عليه وغالباً ما تفشل هذه المحاولات مما يُلجئ بعض المعالجين إلى استخدام العنف والضرب لإخراجه بالقوة فتكون النتيجة المنطقية خروج روح هذا المسكين من جسده! أليس هناك من أساليب منطقية صحيحة تعالج أسباب المشاكل والأمراض بعقلانية تبرز الدين في صورته الحضارية الراقية بدل الطلاسم والاستهبال والضحك على ذقون الناس البسطاء؟! إنّ التعامل مع القرآن الكريم بهذه الطريقة أفرغه من رسالته السامية كونه هدىً وشفاءً ورحمةً للمؤمنين وموعظةً للناس أجمعين، ومن منهجيته المنطقية الرصينة في التعاطي مع مختلف مناحي الحياة فبات حاله كعالمٍ ضاع بين جهّال قومه.

وتشكّل المشاكل الاجتماعية وعلى رأسها العلاقات الزوجية والعقم والعنوسة ميداناً خصيباً للربح المادي يُستغل فيها اسم الدين لمزيد من الكسب الشخصي، فكم من راغب في ولد طال انتظاره أعيته الحيل وكثرة الترداد على الأطباء لجأ أخيراً إلى شراء الأحجبة والتعويذات لحل المشكلة، وكم من عانس تتوق لقضاء باقي العمر تحت سقف الزوجية دُغدغت عواطفها وبيعت لها الأماني بالطريقة نفسها! وكم أثرت مشاكل النشوز والإعراض بين الأزواج جيوب الدّجالين، فالمشاكل بين الزوجين لابد لها من حلّ ولحلها لابد من البحث عن أسبابها الحقيقية والتي غالبا ما تكون داخلية متعلقة بالزوجين نفسيهما، لا خارجية صنعها الآخرون من سحرٍ أو جنٍ أو غيرهما كما يُصور ذلك المنتفعون من هذه المشاكل، ثم يلجأون إلى القرآن رقيةً وتعويذةً لحل المشكلة المختلقة بينما تبقى الأسباب الحقيقية للمشكلة بعيدة عن دائرة الضوء والمعالجة، ولو أنّنا استمعنا إلى القرآن قبل ذلك وطبّقنا تعاليمه لحُلت المشكلة دون الحاجة للرجوع إلى مثل هؤلاء، أوليس إصلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصيام؟ فكيف لعملٍ يُتقرّب به إلى الله تعالى أن نطلب به الدنيا؟!

ومن مظاهر الاستئكال بالدين اصطناع الوجاهة الدينية طلباً للسمعة والمقام المحمود عند الناس، واستجلاباً لحظوظ الدنيا من حشد الأتباع، وجمع الأموال من الحقوق الشرعية ومن اعتلاء المنابر وإجراء عقود الزواج بثمن وغيرها، وأخذ الأجرة على تعليم الناس أحكام دينهم وإرشادهم إلى طريقة أداء مناسكهم في حجٍ أو عمرة مع رؤية استحقاق ذلك الأجر على تلك الأعمال وكأنها من أعمال التجارة! ولعلّ هذا ما فتح الباب لأرباب التجارة أنْ يستغلوا المناسبات الدينية وزيارة البقاع المقدسة للترويج لبضائعهم وخدماتهم محوّلين تلك الهجرة إلى الله عزّ وجلّ إلى سفر سياحة ومتعة! وإذا كان هذا شأن التجار فما بال مَنْ تلفّع بلباس الدين أن يسلك مسلكهم؟! إنّ أخطر ما في هذا الفعل هو التعمية على البسطاء والعامة من الناس في أمور دينهم ودنياهم بدل أن يكونوا لهم منارة إشعاع وتبصرة!

إنّ التوسل بالدين يذلّل العقبات أمام الولوج إلى قلوب الناس لمكانة الدين في النفوس، ومنها إلى العقول التي تتحول وظيفتها بدل النقد والتحليل أو لا أقل التساؤل إلى تبرير الأخطاء وتمريرها بدعوى التخص ّص والأعلمية بالمصلحة!

إنّ تسليع الدين على هذا النحو أبعده عن كل معاني الإنسانية العظيمة والأخلاق الرفيعة حتى بات الكثير اليوم يتعاطى العمل الديني من منظار الربح والخسارة الماديين (يحوطونه ما درت معايشهم فإذا محصوا بالبلاء قلّ الديانون)، فويلٌ لمن يطلب الدنيا بالدين، ويلٌ له.

شارك بتعليقك

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني.

عصى آدم..الحقيقة دون قناع
  • معصية آدم، نموذج لمفردة في البناء المعرفي! وحلها سيعيد لإنساننا خارطة نفسه وهويته الضائعة وهدف وجوده
  • معرفة هذه الحقيقة صدمة تعيد الوعي، نعقد بها مصالحة بين التراث والمستقبل لنعيش لحظة الحاضر بيقظة أننا على جسر التحول الإنساني، الذي بدأ في الأرض بالإنسان الهمج ليختتم بالخليفة "الإنسان الإنسان"
مسخ الصورة..سرقة وتحريف تراث الأمة
  • أخذت الحركة الصهيونية على عاتقها غرس دولة لليهود في خاصرة الأمة فزوروا التاريخ العربي ونسبوه لليهود
  • اختلقوا لغة بسرقة إحدى اللهجات القبلية العربية البائدة وأسموها اللغة العبرية
  • أقحم الدين والتاريخ للسيطرة على عقول الناس ونقلت رحلات الأنبياء من مواقعها ليأسسو لاحتلال فلسطين فساهم هذا التزوير في مسخ صورة العربي والمسلم في الثقافة الغربية
مفاتيح القرآن و العقل
  • إذا كان كلام الله واحداً ودقيقاً، كيف حصل له مائة تفسير؟
  • ماذا لو كانت أمتنا تقرأه وتترجمه معكوساً، كلبسها إسلامها مقلوباً؟
  • أصحيح هذا "المجاز" و"التقديرات"،و"النسخ" و"التأويل" و"القراءات"؟
  • هل نحن أحرار في قراءة القرآن وتدبره أم على عقولنا أقفال؟
نداء السراة..اختطاف جغرافيا الأنبياء
  • ماذا يحدث عندما تغيب حضارة عريقة
  • هل تموت الحقيقة أم تتوارى عن الأنظار لتعود .. ولو بعد حين؟
  • هل تقبل بلاد وادي النيل بعودة حضارة القبط الغريبة؟
  • هل تقبل نجد بعودة موطن آباء الخليل إبراهيم وبنيه إسحاق ويعقوب؟
الخلق الأول..كما بدأكم تعودون
  • إن البشر الأوائل خرجوا قبل مئات آلاف السنين من "قوالب" الطين كباراً بالغين تماماً كالبعث
  • جاء آدم في مرحلة متأخرة جداً من سلالة أولئك البشر اللاواعي، فتم إعادة تخليقه في الجنة الأرضية ونفخ الروح فيه
  • آدم أبو الناس ليس هو آدم الرسول الذي أعقبه بمئات القرون
الأسطورة..توثيق حضاري
  • الأساطير وقائع أحداث حصلت إما من صنع الإنسان، أو من صنع الطبيعة، أو من صنع السماء
  • لكل اسطورة قيمة ودلالة وجوهراً وتكمن فيها أسرار ومعاني بحاجة إلى إدراك وفهم
  • من الضروري العودة إلى اللغة العربية القديمة بلهجاتها المختلفة لفك رموز الأساطير التي غيب الكثير من مرادها ومغازيها
التوحيد..عقيدة الأمة منذ آدم
  • لو أنا أعدنا قراءة تراثنا بتجرد لأدركنا حقيقة اليد الربانية التي امتدت لإعداة الانسان منذ خطواته الأولى على الأرض بما خطت له من الهدى
  • التوحيد منذ أن بدأ بآدم استمر في بنيه يخبو حيناً ويزهو حيناً آخر، ولكنه لم ينطفئ
بين آدمين..آدم الإنسان وآدم الرسول
  • هل هما (آدمان) أم (آدم) واحد؟
  • من هو (آدم الانسان) الأول الذي عصى؟
  • من (آدم الرسول) الذي لا يعصي؟
  • ماهي شريعة (عشتار) وارتباطها بسقوط آدم الأول حين قارب شجرة المعصية؟
طوفان نوح..بين الحقيقة و الأوهام
  • ما قاله رجال الدين والمفسرون أعاجيب لا يقبلها المنطق ولا العقل السليم في محاولتهم لإثبات عالمية الطوفان
  • استثمر المستنفعون من اليهود هذه القضية ليبتدعوا القضية السامية ويرجعوا نسبهم إلى سام بن نوح (ع)
  • قضية طوفان نوح (ع) لا تكشف التزوير اليهودي فحسب، بل تضع يدها على موضع الداء في ثقافة هذه الأمة