البيانات كقاعدة للتشريع

في دساتيرنا تجد أنّالشريعة مصدر أساسي أو المصدر الأساسي أو مصدر التشريع، بحسب درجة الخلوص، ثم لا يهمّ بعد ذلك أن كان المشرّعون يعرفون هذه الشريعة أم لا، يرجعون إليها أم لا، فذلك راجع لموازين القوى السياسية ولظروف السياسيين وحاجتهم.

ولكن هذا يَسلِب نظريًا حقّ التشريع من أيدي المجالس النيابية، ليجعله مفتقرًا لتصديق الفقهاء على الأقلّ، فهم بحكم الواقع أهل الفصل فيما إذا كان هذا التشريع أو ذاك إسلاميًا أم لا، فعلى الرغم من أنّ الفقهاء لا يملكون خبرة في نوعيّة التشريعات التي يتناولها البرلمان عادة؛ لأنّها من نوع التشريع الاجتماعي لا الفردي الذي مارسوه طويلاً، إلا أنّه سيكون لهم الحقّ في القول بأنّهم إن كانت تنقصهم الخبرة؛ فإنّ النواب غير الفقهاء يفتقرون للصلاحية.

إنّ البرلمانات العربية رغم أنّها تشرّع من خلال دساتير تزعم أنّ الشريعة الإسلامية هي مصدر التشريع على تفاوت بينها في الخلوص، إلا أنّها جميعًا تعتمد على خبراء قانونيين من المختصين في القوانين الوضعية لا الإسلامية، وهم يقدّمون لها مشروعات بقوانين على الطريقة القانونية العالمية والتي هي ثمرات تقدّم فنون القانون في الغرب، ولا يوجد برلمان عربي واحد – على حدّ علمي القاصر – خبراؤه القانونيون هم من الفقهاء، ولا نعلم أنّ الفقه الشرعي قد تطوّر لدرجة القدرة على تقديم مثل هذه المشروعات بما يناسب التقدّم الذي طرأ على فنون التشريع في البرلمانات، فأقصى ما يفعله الإسلاميون في البرلمانات هو معارضة المواد التي تخالف شيئًا من الشريعة، ولا شكّ أنّ عدم منافاة الشريعة شيء وأن يكون التشريع قائم على إبداع من الدين

يمكن الجزم بأنّ المشرّع العربي في البرلمانات قد تحرّر من تبعية الفقهاء ليقع في تبعية الخبراء، فالخبير هو من يصوغ المشاريع القانونية من خلال الطرق القانونية الغربية التي درسها وتخصّص فيها، فالقانون الفرنسي تولّد من ثقافة فرنسية تتفق بلا شكّ مع ثقافتنا في نواحٍ كثيرة بما أنّها ثقافة بشرية، وتختلف بلا شكّ مع ثقافتنا بما أنّها ثقافة مغايرة، فالتشريع لنا من خلاله سيبعدنا بدرجة ما عن ثقافتنا، ويقرّبنا بدرجة ما من ثقافتهم، ثم لا نجني بعد القصّ واللصق إلا قوانين هجينة.

إنّ التشريع في برلماناتنا العربية ولعلّه الحال في أغلب برلمانات العالم يقوم على التبعية للنصّ أولا، سواء الديني أو الوضعي، وإن كان الغالب عليه هو النصّ الوضعي أساسًا، ثم على المزاج الظرفي حين التشريع ثانيًا، فإن كان مسترخيًا استرخى، وإن كان مأزومًا تشدّد، فمن أين يا ترى تأخذ الدولة أو النواب آراءهما حينما يقرّرون نظامًا أو عقوبة؛ إلا من مزاجهما وموقفهما الانطباعي لحظة التدوين؟ تمامًا كما لو أنّهم شاعر أو أديب.

يا ترى من أين نعلم أنّ السجن سنة على سبيل المثال هو القدر الكافي للردع دون زيادة؟ أو أنّ الغرامة الكذائية هي الجزاء العادل للخطأ الفلاني؟ أو أنّ كثرة الطلاق راجعة للسبب الفلاني أكثر من غيره؟ من غير أن يكون عندنا قاعدة من البينات نعتمد عليها.

إنّ توفر البينات الدالة على المسببات، والبيّنات المؤشّرة على النتائج، هي من أول الطرق العلمية الكاشفة عن ملائمة التشريع، وهذه البينات لا تتوافر إلا عن طريق وجود إحصائيات علمية سليمة تعطي للمشرّعين دلائل هدى نحو الطريق السليم، ولم نسمع في برلماننا أنّ المجلس يملك جهازًا إحصائيًا، ولم نسمع منهم المطالبة بالأدلّة الإحصائية الدالّة على مناسبة الحكم لموضوعه حال نقاشهم لمسودات القوانين، ولم نسمع منهم المطالبة بإجراء دراسة ميدانية أو بحثية أو إحصائية لرفض أو تأييد تشريع ما، فالمسألة كلّها نصوصية وانطباعية ببهارات مزاجية.

إنّ النصوص الدينية أو غير الدينية هي خطوط هدى لا غنى عنها في التشريع، فهي ثمرات تاريخ طويل للإنسانية في هذا المجال، ومهما كان فستظلّ تمثّل الخطوط العامة لهذا العلم، ولكنّ النصوص وحدها ليست بيّنات علمية كافية، وهي لا تلغي الدور التنزيلي الذي يلعبه المشرّعون في كلّ موقع، فالمشرّع ينبغي عليه القيام بدور الملائمة والاختيار حال قيامه بدور تنزيل النصوص على واقع معين في زمن معين، وهنا لا غنى له عن الاعتماد على البيّنات العلمية التي تكشف له طبيعة الوضع الذي يريد أن يقنّن له في ذلك الحين، بل لا غنى له عن الاستمرار في المتابعة والملاحظة ليتبيّن له أنّ خياره لا زال يمثّل الحلّ الأفضل، وهكذا فلا سكون للتشريع ما دام الواقع الاجتماعي لا سكون له، أما ما نحن عليه من اعتبار النصّ الشرعي أو الوضعي في حدّ ذاته بيّنة كافية فلا يخلو من التقليد والسير على غير هدى من علم.

الدولة حين تشرّع لمجتمعها في ظرفٍ واقعي ما، فهي في حاجة لحلّ مشكلة أو سدّ نقص أو تطوير حالة، وليس لمجرد أداء الواجب ورفع التكليف كما هو الحال عند الأفراد، فما لا يظهر نقصه في الفرد، يظهر حين يتجلّى في الجماعة عبر الإحصاء، فالدولة قد لا تجد حاجتها الملائمة لظرفها الداخلي والدولي في تفاصيل النصوص الشرعية دائمًا، فغالب النصوص التفصيلية تخاطب المكلّف الفرد، وقيلت في ظرف آخر ولمجتمع آخر، ربما تعدّاه العصر أو نريد له أن يتعدّاه لوجود ما هو أحسن منه.

إنّ التشريع الديني يفكّر من خلال النص غالبًا، وغالبًا ما يكون مقلّدًا في فهمه، وقليلاً ما نجد الخروج عن رأي السلف مستحسنًا فيه، فهو لا يزال مرتاحًا لهذه السلفية فخورًا بها، ومن هنا فهو يفتقر لروح المعاصرة اللازمة للدولة، فالكثيرون من رجاله يرون أنّ الحلال والحرام قد خُتما، وأنّه لا يجوز إلا ما كان جائزًا أيام التشريع الأولى، فإذا ما أتى الدهر بعقد في المعاملات جديد كمثل عقد التأمين، ذهبوا يبحثون عن مثله في الشريعة الموروثة عن السلف، فمنهم من يسهّل على الناس بإقحامه مع ضامن الجريرة، ومنهم من يتوقّف فيحرّمه لأنّه لا يشبه العقود المعروفة في الشرع، وهذه أزمةٌ. التشريعُ الإسلامي لا شكّ قادر على تعديها، وعليه أن يتعدّاها من خلال النظر في المقاصد الشرعية واعتماد البيّنات العلمية الإحصائية بدلاً من الالتزام بالحرفية، فإنّما مدار كلّ حكم موضوعه، ومن ضرورات الحكمة في التشريع مناسبة الحكم للموضوع.

شارك بتعليقك

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني.

عصى آدم..الحقيقة دون قناع
  • معصية آدم، نموذج لمفردة في البناء المعرفي! وحلها سيعيد لإنساننا خارطة نفسه وهويته الضائعة وهدف وجوده
  • معرفة هذه الحقيقة صدمة تعيد الوعي، نعقد بها مصالحة بين التراث والمستقبل لنعيش لحظة الحاضر بيقظة أننا على جسر التحول الإنساني، الذي بدأ في الأرض بالإنسان الهمج ليختتم بالخليفة "الإنسان الإنسان"
مسخ الصورة..سرقة وتحريف تراث الأمة
  • أخذت الحركة الصهيونية على عاتقها غرس دولة لليهود في خاصرة الأمة فزوروا التاريخ العربي ونسبوه لليهود
  • اختلقوا لغة بسرقة إحدى اللهجات القبلية العربية البائدة وأسموها اللغة العبرية
  • أقحم الدين والتاريخ للسيطرة على عقول الناس ونقلت رحلات الأنبياء من مواقعها ليأسسو لاحتلال فلسطين فساهم هذا التزوير في مسخ صورة العربي والمسلم في الثقافة الغربية
مفاتيح القرآن و العقل
  • إذا كان كلام الله واحداً ودقيقاً، كيف حصل له مائة تفسير؟
  • ماذا لو كانت أمتنا تقرأه وتترجمه معكوساً، كلبسها إسلامها مقلوباً؟
  • أصحيح هذا "المجاز" و"التقديرات"،و"النسخ" و"التأويل" و"القراءات"؟
  • هل نحن أحرار في قراءة القرآن وتدبره أم على عقولنا أقفال؟
نداء السراة..اختطاف جغرافيا الأنبياء
  • ماذا يحدث عندما تغيب حضارة عريقة
  • هل تموت الحقيقة أم تتوارى عن الأنظار لتعود .. ولو بعد حين؟
  • هل تقبل بلاد وادي النيل بعودة حضارة القبط الغريبة؟
  • هل تقبل نجد بعودة موطن آباء الخليل إبراهيم وبنيه إسحاق ويعقوب؟
الخلق الأول..كما بدأكم تعودون
  • إن البشر الأوائل خرجوا قبل مئات آلاف السنين من "قوالب" الطين كباراً بالغين تماماً كالبعث
  • جاء آدم في مرحلة متأخرة جداً من سلالة أولئك البشر اللاواعي، فتم إعادة تخليقه في الجنة الأرضية ونفخ الروح فيه
  • آدم أبو الناس ليس هو آدم الرسول الذي أعقبه بمئات القرون
الأسطورة..توثيق حضاري
  • الأساطير وقائع أحداث حصلت إما من صنع الإنسان، أو من صنع الطبيعة، أو من صنع السماء
  • لكل اسطورة قيمة ودلالة وجوهراً وتكمن فيها أسرار ومعاني بحاجة إلى إدراك وفهم
  • من الضروري العودة إلى اللغة العربية القديمة بلهجاتها المختلفة لفك رموز الأساطير التي غيب الكثير من مرادها ومغازيها
التوحيد..عقيدة الأمة منذ آدم
  • لو أنا أعدنا قراءة تراثنا بتجرد لأدركنا حقيقة اليد الربانية التي امتدت لإعداة الانسان منذ خطواته الأولى على الأرض بما خطت له من الهدى
  • التوحيد منذ أن بدأ بآدم استمر في بنيه يخبو حيناً ويزهو حيناً آخر، ولكنه لم ينطفئ
بين آدمين..آدم الإنسان وآدم الرسول
  • هل هما (آدمان) أم (آدم) واحد؟
  • من هو (آدم الانسان) الأول الذي عصى؟
  • من (آدم الرسول) الذي لا يعصي؟
  • ماهي شريعة (عشتار) وارتباطها بسقوط آدم الأول حين قارب شجرة المعصية؟
طوفان نوح..بين الحقيقة و الأوهام
  • ما قاله رجال الدين والمفسرون أعاجيب لا يقبلها المنطق ولا العقل السليم في محاولتهم لإثبات عالمية الطوفان
  • استثمر المستنفعون من اليهود هذه القضية ليبتدعوا القضية السامية ويرجعوا نسبهم إلى سام بن نوح (ع)
  • قضية طوفان نوح (ع) لا تكشف التزوير اليهودي فحسب، بل تضع يدها على موضع الداء في ثقافة هذه الأمة