نصح السياسي المحنّك تشرشل شاباً يُدعى “أنتوني ناتنغ” قصده لنصيحة في بداية مشواره السياسي فقال له: “استغل كل طاقتك وإرادتك حتى تقوّي جناحك ليحملك إلى الفضاء العالي، إذ تحلّق النسور. هناك الحرية وهناك الخطر. وإذا لم تستطع، فلا تسمح لنفسك تحت أي ظرف بطلب الأمان في قفص ببغاء تنطق برطانة يدرّبونك عليها، ثم يكون دورك أن تكرّرها وتعيدها كلما مرّوا عليك وطلبوا منك أن ترقص وتغنّي حتى يراك السيد”.

بين أن يكون الإنسان نسرًا يحلّق حيث الحرية وحيث الخطر، وبين أن يرضى بأن يكون ببغاء تنطق برطانة مدرّب عليها ثمّة قرار واحد، فثبات عليه، فمصير مرسوم حتى النهاية. هو قرار واحد ولكنه قد يكون قرار العمر وبعدها يرتسم الدرب نحو السماء حيث السمو والوحدة والخطر، أو في القفص حيث الرفاه والقيود والتدجين. قد يستبعد البعض أن يكون للسياسة هذا التأثير على سيرورة الإنسان فتجعل ممن يمكنه أن يكون نسراً ببغاء، ولكن التاريخ والواقع خير شاهد على ذلك فكم من نسور دُجّنت بمجرّد أن أُعطيت بعض المناصب فصارت الناطق الرسمي باسم من كانت تقف مناهضة له في السرّ والعلن، وكم من صقور أصبحت حمائم بعدما لوّحوا لها ببعض الغنائم، ما يدلّ على أن (الصقرية) و(الحمائميّة) أو (النسريّة) و(الببّغائية) ليستا أصليّتين في دخيلة أي فرد بمقدار أصالة رغبته إن تبغبغ أو إرادته إن تنسّر، فالرغبة هي التي تهوي بالإنسان إلى وادي الأنا السحيق بينما الإرادة تسمو به إلى فضاء العطاء الرحب.

إن خطورة تحويل الإنسان من نسر إلى ببغاء تكمن في السياسات التي تُستخدم لإجراء هذا التغيير الجذري في هويّة الإنسان بحيث ينزع جلده ويتنكّر لمبادئه ورغم ذلك يكون راضياً عن نفسه ومبرّراً لأفعاله. هذه السياسات تتنوّع بحسب نوعية الأشخاص ومدى صلابتهم أو مرونتهم في التشكّل، ومستوى التبدّل المطلوب منهم، والمنصب الذي يراد أن يوكل إليهم، وأخيراً وهو الأهم مدى تمسّكهم بقيمهم ووعيهم لرسالتهم ودورهم في الحياة. فكلّما كان الإنسان واعياً، مبدئياً، بصيراً بعواقب الأمور كلما كان عصيّاً على الإذلال والتبدّل القسري أو الإرادي؛ وكلّما قطع طمعه عمّا في أيدي الآخرين كلّما انقطعت أيديهم عن المساس به والنيل من مواقفه، وكلّما كانت ساحته بريئة من أي خيانة، ويده نقية من أي تلوّث كلّما كان أكثر تحرّراً من أي مستمسك يُساوَمُ عليه أو يكون عرضة للابتزاز بسببه. فالبصير بالعواقب-مثلاً-يعلم تماماً أنّه إذا ما خذل رفاقه في يوم ما فلن يكون مصيره أفضل من مصير الثور الأبيض الذي مردّه أن يؤكل، ويعلم أنّ من يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ويعلم أن الطبيعة تردّ على كل فعل إن خيراً فخيرا وإن شرّاً فشرا، فوعيه وبصيرته تجعل بصره اليوم حديداً؛ وأمّا نقي اليدين فليس لديه يدٌ توجعه ليُمسَك منها، فهو متحرّر من أي تهمة تناله، وبالتالي فهو عصيٌّ على التدجين.

هناك استراتيجية تربوية (وبالأصح ترويضية) كان المعلّمون يستخدمونها مع الطلبة المشاكسين في المدرسة فيوكلون إليهم بعض الأدوار القيادية ليحدّوا من تمرّدهم كأن يعيّنوا الطالب المشاكس عرّيفاً للصف أو يكلّفونه بمهمة تسجيل أسماء الطلبة المشاغبين أو ما إلى ذلك، باختصار كانوا يفوّضون إليهم أمر المحافظة على النظام في الصف ليحوّلوهم من مصدر إزعاج وفوضى إلى رقباء على النظام؛ هذه الاستراتيجية نفسها طوّرها المتنفّذون سياسياً واستخدموها مع القادة المشاكسين لهم من المعارضة، فعرضوا عليهم بعض الأدوار القيادية وربما الوزارية ليجعلوا منهم منفّذين للأنظمة التي كانوا يعارضونها في يوم ما. قد يكون هذا الفعل مبرَّراً من الطرفين، وقد يكون حسناً شريطة أن يوضع الشخص المناسب في المكان المناسب بمعنى أن توكل تلك المناصب الحسّاسة لذوي الأهلية لا بقصد شرائهم أو إفساد ذممهم ومبادئهم. هذه الاستراتيجية ستؤتي أُكلها إذا ما حسُنت النوايا (من الطرفين) والتقت على خدمة الوطن والمواطن وسعت لتجنيبه التناحر والصراع المضيّع للطاقات والجهود، وإذا ما أُحسن التعامل معه بحيث يحافظ هذا المعارض على مبادئه فيبقى عيناً رقيبة، وناصحاً أميناً، ومصلحاً من موقعه كمسئول لتحقيق ما كان ينادي به من قيم وطنية وإنسانية وحقوق. ولكن هناك سرّ أو سحر في هذه الاستراتيجية بحيث تجعل من المعارض تلميذاً نجيباً لمن كان مناوئاً له في يوم ما، ويصبح ملكيّاً أكثر من الملك فيكون أداة للقمع بعد أن كان يشكو ألم سياطه، فتفسد اللعبة ويخسر الجميع، يخسر الناس الذين تعشّموا فيه خيراً للمساهمة في تغيير الأوضاع، وتخسر الدولة ناصحاً أمينا، ويكون هو أوّل الخاسرين لأنه خسر نفسه ببيعه مبادئه بثمن بخس وتنكّره لذاته ولمجتمعه.

عملية التدجين هذه لا تنتهي عند المعارضة السياسية (وما تقدّم إن هو إلاّ مثال ليس إلاّ) بل تمتد حتى تطال فئات المجتمع المختلفة من مثقفين وأكاديمين وعلماء ومفكّرين وبرلمانيين ورؤساء بلديّات وغيرهم وأصبحت سياسة متّبعة في الكثير من المؤسسات التجارية والشركات الخاصة والوزارات والمدارس، فكلّما ارتفع صوت للإصلاح أو لنقد وضع فاسد أُلقم صاحبه بطعام شهي تستسيغه نفسه وأُخمد الصوت، أو حُوّل إلى صدى لصوت “السلطة” أياً كانت. وبعيداً عن التعميم والتعويم، هناك معيار لمعرفة ما إذا بقي النسر نسراً أم تحوّل إلى ببغاء وهو أن ينظر المرء إلى أفعاله فإن كان يجهد نفسه لخدمة الآخرين وتحقيقاً لمبادئه التي كان ينادي بها فهو إذاً لازال طائر يحلّق كما النسر، أما إذا وجدته يركض لتحقيق رغباته الشخصية فاعلم أنه دخل قفص الببغاء ورضي أن يكون “شمعة المحفل” لأسياده الذين يرقص ويغنّي لهم كلّما طلبوا منه ذلك طلباً لأمنه وأمانه.

هذا فيمن يُعرَض عليه منصب، ينبغي أن يجعل معيار قبوله أو رفضِه خدمة الناس وخدمة مبادئه، لكي يأمن عدم دخوله قفص التدجين وربّما (التبييض) أيضاً، أمّا من سعى إلى المنصب ونفسه تتوق إليه لا إلى خدمة الآخرين عبره والقيام منه بواجب صلاح الوطن، فربّما كان من المناسب استذكار حكاية الكلب الذي قال للأسد: يا سيد السباع, غير اسمى فإنه قبيح, فقال له أنت خائن، لا يصلح لك غير هذا الإسم, قال: فجرّبني, فأعطاه شقة لحم وقال: احفظ لي هذه إلى الغد وأنا أغيّر اسمك, فجاع الكلب وجعل ينظر إلى اللحم, و يصبر, فلما غلبته نفسه قال: وأيّ شىء باسمي؟ وما كلب إلاّ اسم حسن. فأكل!!

شارك بتعليقك

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني.

عصى آدم..الحقيقة دون قناع
  • معصية آدم، نموذج لمفردة في البناء المعرفي! وحلها سيعيد لإنساننا خارطة نفسه وهويته الضائعة وهدف وجوده
  • معرفة هذه الحقيقة صدمة تعيد الوعي، نعقد بها مصالحة بين التراث والمستقبل لنعيش لحظة الحاضر بيقظة أننا على جسر التحول الإنساني، الذي بدأ في الأرض بالإنسان الهمج ليختتم بالخليفة "الإنسان الإنسان"
مسخ الصورة..سرقة وتحريف تراث الأمة
  • أخذت الحركة الصهيونية على عاتقها غرس دولة لليهود في خاصرة الأمة فزوروا التاريخ العربي ونسبوه لليهود
  • اختلقوا لغة بسرقة إحدى اللهجات القبلية العربية البائدة وأسموها اللغة العبرية
  • أقحم الدين والتاريخ للسيطرة على عقول الناس ونقلت رحلات الأنبياء من مواقعها ليأسسو لاحتلال فلسطين فساهم هذا التزوير في مسخ صورة العربي والمسلم في الثقافة الغربية
مفاتيح القرآن و العقل
  • إذا كان كلام الله واحداً ودقيقاً، كيف حصل له مائة تفسير؟
  • ماذا لو كانت أمتنا تقرأه وتترجمه معكوساً، كلبسها إسلامها مقلوباً؟
  • أصحيح هذا "المجاز" و"التقديرات"،و"النسخ" و"التأويل" و"القراءات"؟
  • هل نحن أحرار في قراءة القرآن وتدبره أم على عقولنا أقفال؟
نداء السراة..اختطاف جغرافيا الأنبياء
  • ماذا يحدث عندما تغيب حضارة عريقة
  • هل تموت الحقيقة أم تتوارى عن الأنظار لتعود .. ولو بعد حين؟
  • هل تقبل بلاد وادي النيل بعودة حضارة القبط الغريبة؟
  • هل تقبل نجد بعودة موطن آباء الخليل إبراهيم وبنيه إسحاق ويعقوب؟
الخلق الأول..كما بدأكم تعودون
  • إن البشر الأوائل خرجوا قبل مئات آلاف السنين من "قوالب" الطين كباراً بالغين تماماً كالبعث
  • جاء آدم في مرحلة متأخرة جداً من سلالة أولئك البشر اللاواعي، فتم إعادة تخليقه في الجنة الأرضية ونفخ الروح فيه
  • آدم أبو الناس ليس هو آدم الرسول الذي أعقبه بمئات القرون
الأسطورة..توثيق حضاري
  • الأساطير وقائع أحداث حصلت إما من صنع الإنسان، أو من صنع الطبيعة، أو من صنع السماء
  • لكل اسطورة قيمة ودلالة وجوهراً وتكمن فيها أسرار ومعاني بحاجة إلى إدراك وفهم
  • من الضروري العودة إلى اللغة العربية القديمة بلهجاتها المختلفة لفك رموز الأساطير التي غيب الكثير من مرادها ومغازيها
التوحيد..عقيدة الأمة منذ آدم
  • لو أنا أعدنا قراءة تراثنا بتجرد لأدركنا حقيقة اليد الربانية التي امتدت لإعداة الانسان منذ خطواته الأولى على الأرض بما خطت له من الهدى
  • التوحيد منذ أن بدأ بآدم استمر في بنيه يخبو حيناً ويزهو حيناً آخر، ولكنه لم ينطفئ
بين آدمين..آدم الإنسان وآدم الرسول
  • هل هما (آدمان) أم (آدم) واحد؟
  • من هو (آدم الانسان) الأول الذي عصى؟
  • من (آدم الرسول) الذي لا يعصي؟
  • ماهي شريعة (عشتار) وارتباطها بسقوط آدم الأول حين قارب شجرة المعصية؟
طوفان نوح..بين الحقيقة و الأوهام
  • ما قاله رجال الدين والمفسرون أعاجيب لا يقبلها المنطق ولا العقل السليم في محاولتهم لإثبات عالمية الطوفان
  • استثمر المستنفعون من اليهود هذه القضية ليبتدعوا القضية السامية ويرجعوا نسبهم إلى سام بن نوح (ع)
  • قضية طوفان نوح (ع) لا تكشف التزوير اليهودي فحسب، بل تضع يدها على موضع الداء في ثقافة هذه الأمة