المشاعر الفيّاضة التي تتملك الإنسان وتغمر وجدانه وينبض بها قلبه طيباً.. وحباً، حزناً.. أو فرحاً، والتي تعتبر أساساً من أساساتِ التواصل مع الآخر والعلاقة مع الذات، هي التي تشكّل بناء الإنسان الداخلي وتبلور شخصيته الخارجية الظاهرة أمام العيان، وتصوغ الفرق في ردود أفعاله تجاه مواقف الحياة فهي إذاً دافع فعلي للإقدام على أمر ما والخوض فيه أو الإحجام عنه، ومحركٌ لصناعة موقف التأييد أو الرفض.
ونحن إذ يعود إلينا محرمٌ الحرام مرة أخرى.. عاماً تلو عام.. تتجدد في قلوبنا مشاعر الحزن العميق، لفقد من هو ليس بمفقود .. للمأساة.. للمكان الذي يضمّ الأجساد الطاهرة.. للأرض التي ارتوت بدم سُفك ظلماً.. والتي تبقى شاهداً على قصة الفداء.
نحن في موعدٍ سنوي في أيام الله هذه مع الحزن، مع الألم، وفي موعدٍ لمراجعة الحسابات والأمنيات أيضاً، هو موعدٌ لتذكر المبادئ الأسمى للحياة، والتفكّر في رقيّ الهدفِ وعظيم الرسالة عندما يكونان الدافع كي يخطط الإنسان لمقتله، ويحل إحرامه، ويخرج لييتّم عياله، ويثكل النساء.. فيسطّر بذلك ملحمة خالدة تتوارثها الأجيال.
في مدرسة الحسين (ع) نتوقف لنعيد بلورة مفاهيمنا حول الحب، وكُنه الوجود، والموت والبقاء، وجوهر النصر والهزيمة. أوليس الفناء إلا فيما اقترف يزيد، وهل البقاء إلا فيما استشهد لأجله الحسين؟ وليس أدلّ على ذلك من بقاء ذكراه (ع) وملحمته ورقة نورانية في صفحات التاريخ، يعود لها الناس أفواجاً كل عام قارئين، معزين، نادبين، ومحيّين.. فشتان بين الموت الذي يراه الحسين سعادة ويقبل عليه إقبال المشتاق للقاء محبوبه، وبين بقاء يزيد الذليل وجلوسه على عرشه، وبين معنى النصر الذي خطه الحسين بدمه وفناء جسده، وهزيمة يزيد الذي قالت فيه زينب بنت علي (ع) وهي الصادقة العارفة العالمة: (وهل رأيك إلا فند وأيامك إلا عدد، وجمعك إلا بدد، يوم ينادي المنادي ألا لعنة الله على الظالمين).
في مثل هذه المناسبة تثار في بعض أقطار العالم الإسلامي نعرات طائفية وصيحات تكفيرية أبعد ما تكون الأمة في حاجة إليها، فتتبادل المذاهب المختلفة التهم وتتسابق في طرح الأدلة لإثبات بطلان المذهب الآخر، وإنه لمحزنٌ أن لا تستوعب الأمة الإسلامية القضية بعد كل هذه السنين، وألا تعي أن الحسين ليس مذهباً ولا طائفة.. بل ثورة مبادئ استوعبها أحرار العالم فانتصروا وارتقت أممهم، في حين بقيت أمتنا خائرة الإرادة، مكبلة بقيود الجهل والتفرقة.
لننطلق من أحزاننا لتغيير العالم إلى عالم آخر أكثر عدالة وعزّة، لنتحرك مسترشدين بهدي مدرسة الإمام الحسين (ع) نستشعر ألم كل محزون، وغضب كل مظلوم، وظلامة كل مسلوب حقٍ، منتصرين لقيم السماء، ومتسلّحين بالحب الخالد لله وللعدل والحق والإنسانية هذا الحب الذي من أجله خرج الحسين (ع) ليقدم أغلى ما يملك فداءً وبكل شوق.. وهو يقول:
تركت الخلق طراً في هواك .. وأيتمت العيال لكي أراك
فلو قطعتني فـي الحب إربـاً .. لما مـال الفؤاد إلى سواك
يموت أحبتي وجميع قومي .. ويبقى الدين يرفل في هداك
هذا الحزن الذي نعيشه في أيام عاشوراء الحسين (ع) وتنتعش فيه أمنيات (يا ليتنا كنـا معكم) هو حزنٌ من نوعٍ آخر، هذا الألم العميق الذي يسكن أرواحنا ويحرك أحاسيسنا والدموع، لا ييئّس القلوب ولا يبدّد العواطف، بل هو الحزن الذي يحيينا، والذي ينبهنا أن لعمرنا القصير لابد من غاية .. فالقضية لم تنته بعد.