قيل: (شرور الرجال أضرّ من الدجّال)، فاستثناءً لقدواتٍ دينيةٍ صالحةٍ مثّلتْ الدين بشرفٍ وإباءٍ، أفزعني مؤخَّراً مجموعةُ قضايا أخلاقيّة مخزية، لرجال دينٍ بلا مروءة، فتمنّيت لو المنابرُ كراسي كهربيّة تصعق الكاذب منهم فتخلصنا من شروره وضلالاته، لأنّه (إذا فسد العالِم فسد العالَم).
(مصاص الدماء) شخصية خرافية لكائن بشريّ شيطانيّ يعيش مخلَّداً على دماء الأبرياء، ويحتفظ حولَه ببعضِ الأتباع الخواصّ حوّلَهم مثلَه، يُدافعون عنه، لأنّ مخاوفهم ومصالحهم وعقائدهم تجاه الآخرين اتفّقت معه وتناغمتْ.
إنّ من يمتصّ عقول الناس وأموالهم وإعجابهم وأرواحهم باسم الدين والمذهب، أسوأ من (دراكولا).
كم من شابٍ اختطفوه فتحوّل إلى وحشٍ أو ضحيّة، وحشٍ يُمارس أبشع الانتهاكات باسم الدين المزيّف، أو ضحيةٍ تكفر بالدين بعد أن تلقّتْ الغدرَ وصُدمت ببشاعة الزيف.
لقد تنهّد عليٌّ(ع) مرّةً فقال: (إنّ هذا الدين كان أسيراً في أيدي الأشرار، يُعمَل فيه بالهوى، ويُطلَب به الدُنيا) فلقد صار الدينُ غريبًا اليوم بعد أن لوّثته أيدي الأشرار، وبعد أنْ عادتْ أقدسُ الأمور معبرًا لأدنس الأمور وأنجس النفوس، فكم سرقة للفقراء تتمّ بأكمام دينية، وكم استعباد للإناث وتلاعبٍ بهنّ، كم انتهاك للأعراض وإتيان للفواحش، تتنكّر بأثواب دينية، (لا يدعون شيئا نظيفًا ممّا يجب أن يظلّ نظيفا، المقدساتُ كلّها تلوّث، والعظائمُ كلّها تصغر، والحرمات كلّها تهان)، فبعضهم بخَّر روحَ الدين في “نُزهته” بالحج، وآخرون يتلون ويحجّون ويصلّون وقد يبكون لكنّهم ضيّعوا أعظم جواهر الدين، وهو (الرحمة).
(الرحمة) التي بها يحيا القلب ولا يكون قاسيًا، (الرحمة) تحرّم استغلالهم الآخرين وانتهاكهم، وتستدعي العطف والحبّ، تكره الشرّ للآخر، وتحرّم الطعنَ والخداع والاستغفال والسرقة والكذب والاحتيال على الضعيف، (الرحمة) تفيض عطاء وإيثاراً ومعونةً، (الرحمة) بها استعرض الربُّ نفسه للخلائق، فقال (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)، فلا شأنَ لربٍّ بلا رحمة، لا يشفي مريضاً ولا يُجيب محروماً ولا يُعطي محتاجاً، واستهلّ بها سبحانه سوَرَه (بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ)، وقال (ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ) سيّان، فأقرب أسمائه وأولاها بنا (الرّحمن) بها تراحمنا وتواصلنا وصرنا أولي أرحام، ولكنْ (مصّاصو الدماء) فقدوا (الرحمة)، واستبْقوا قشْر الدّين، همّهم الابتلاع والمصّ والأخذ وتحويل الآخرين إلى ضحايا وجودهم.
نبيّنا (نبيّ الرحمة) و(الرّحمةُ المُهْداةُ) وما أرسل (إِلاّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) و(بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ)، وهؤلاء سُرّاق الدين، أولو القسوة، والرحمة المنزوعة، ونقمة للعالمين.
أشرف جواهر الدين (الرحمة) سرقوها، وسوّقوا القشور، صلاةً بلا صلاتٍ، صياماً بلا تراحم، حجّاً بلا تآلف، عزاءً للتكسّب والوجاهة والمظاهر.
لعقود الزواج يأخذون مالاً، لقراءةٍ على ميّتٍ يأخذون، لإقامة الشعائر والمنابر والمآثر يقبضون ويشترطون، يأكلون أموال الناس ظلماً بكلّ معاملةٍ ومحاضرة وترنيمة، تحوّل الدين بشعائره إلى تجارة.
دفنوا معالِم (الرحمة)، وبآرائهم يُحشّدون النفوس ويُوسوسون في الصدور ويُضيّقونها، يمقّتون الآخر، يفرّقون بين المرء وزوجه، يدعون للكراهية، أكثرُهم مصداقُ (الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ)، (يَدُعُّ الْيَتِيمَ، وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ) إلاّ ربّما الموافق المذهبيّ الطائفي المحلّي وتابعَه المُوالي! آراءُ معظهم طائفية، وتحريضية، وتكفيرية، تطالب بأقصى العقوبة لمخالفيها، لم يستشعروا قطّ معنى نداء نبيّهم (اللهمّ اغفرْ لقومي فإنّهم لا يعلمون) فلا يعرفون التسامح، بعضُهم يدّعي الفقاهة والاستنباط حسب أعراف دين القشور، ولقد سقط بامتحان جوهر الدين لجهامته ونضوب روحه، سقط وفق أبجديّات مقولة عليٍّ(ع) (الفقيه كلّ الفقيه من لم يقنّط الناس من رحمة الله)، وهم قنّطوا الكثير من شبّاننا، ممّن يفتّش عن دين سماحة وتقوى وإخاءٍ وانطلاق.
(رحمة الله) آخرُ همِّهم، بل الاستمتاع (بالمال)، (بالوجاهة)، (بالأتباع)، (بهوى الطائفة)، (بنكاية الخصم والمخالف)، وبالشهوات الخفيّة .. دراكولا بعباءةٍ دينية، (رحمة الله) تحثّهم بحرمةِ أخذ أجرٍ على خدمةٍ دينيّةٍ كحال الأنبياء، لا التحايل بذرائع (زكاة/خمس/تبرّع/هديّة/أجر/إكراميّة..)، تحثّهم ليتركوا سلطانهم المادّي وقداستهم المخترعة، ليتمحّض الفقيهُ (للرحمة) -كما قال عليٌّ- وللتيسير، والإلفة، وللتوحيد، ونزع فتائل الشرّ، ولوقاية إيمان الناس، وتدعيمه بالأمل والتعقّل، والخير والتفاؤل.
حُشِرْنا اليومَ بين فتنتيْ (الدجال) و(الرجال)، فوقع محذورُ نبيِّنا(ص): (غير الدجّال أخوف على أمّتي من الدجّال ..الأئمّة المُضلّون).
(اللهمّ إليك نشكو سطوةَ “دجّال” الغرب ودسائسه لتسْعير بلداننا، وسطوةَ “رجال” دينٍ ودسائسهم، الغرب الذي يخدعنا ويستعبدنا بعناوين “دمقرطة” و”وصاية” الأسرة الدولية ومجلس الأمن، ورجال الدين الذين يلحسون عقولنا وجيوبنا باسمك اللهمّ “كأوصياء”، فيا جبّارَ الجبّارين، ويا كاشفَ زيف “الرجالِ الدجّالين”، هبْ لنا القوّةَ والبصيرة لنُفهِمَ أمريكا -شعوبًا وحكومات ومجتمعات مدنية- أنّ قوّتها ليست قوّتك العُليا، وأنّ عشقنا العدالة والحرّيات الحقيقيّة والكرامة والسلام تغلب سلطات القهر بالعسكر والمال وتزييفِ الإعلام، وألهمنا شعوباً أن نميّز عالِمَ دينك الحقيقيّ من ذئابٍ لبستْ ثيابَه لتستأكل به، نميّز (رحمتك المهداة) من نقماتٍ متستّرة بعباءاته تُقسّي قلوبنا، وتُيبّس عقولنا، وتُفرّقنا عنك وعن بعضنا، فنلفظهم عنّا متحرّرين لأنّهم أكبرُ أسباب بلايانا، وضعفِنا، وجهالاتنا، وضياعِنا، ولولاهم لما استقوت أعداءٌ علينا، ولما ضاع شُبّاننا بين تزمّتٍ وانحلالٍ، سلبوهم “الرحمة” إلهي، سلبوهم سماحةَ دينك الحقّ، وأبقونا قشوراً نترنّح كلّما عصَف هواء، اللّهمّ آمين).