الرحمة الواسعة المفتوحة.. لا مُمْسكَ لها..

قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ..) يقول الإمام أحمد بن حنبل: “كنت أسير في طريقي، فإذا بقاطع طريق يسرق الناس، وبعدها بأيام رأيت نفس الشخص يصلّي في المسجد، فذهبت إليه وقلت: هذه المعاملة لا تليق بالمولى تبارك وتعالى، ولن يقبل الله منك هذه الصلاة وتلك أعمالك، فقال السارق: يا إمام، بيني وبين الله أبواب كثيرة مغلقة، فأحببت أن أترك باباً واحداً مفتوحاً … وبعدها بأشهر قليلة ذهبت لأداء فريضة الحج، وفي أثناء طوافي رأيت رجلاً متعلّقاً بأستار الكعبة يتوب من معاصيه ويعد الله بعدم العودة إليها، فتأملت هذا الأوّاه المنيب الذي يناجي ربّه، فوجدتُه لصّ الأمس، فقلت في نفسي: ترك باباً مفتوحاً ففتح الله له كلّ الأبواب”.

عندما نحاول أن نصوّر “الله” للآخرين بحسب اعتقاداتنا المغلوطة، وثقافتنا الضيّقة، وتجاربنا القاصرة، فإننا بذلك نرسم صورة مشوّهة عن “الله” لدى الخلق بعد تحجيمه – سبحانه – بمستوى عقولنا البشرية، وحساباتنا المادّية، ومعاييرنا الظاهر-دينيّة، فنَتوه ونُتوّه، ونُسيء إلى جمال عزّته، ونوصد أبواب رحمته، في حين أنه يتعامل مع عياله بما “هو” لا بالصورة التي تشكّلت في أذهاننا، فتعاملْنا مع سرّ أسرار الوجود.. بمحض مادّيتنا البشريّة، وأطّرنا علاقتنا الروحية بأطر دنيّة، ونسينا أنّ الله كما تصفه -مُقربةً للأذهان- بعضُ الروايات: “يبسط كفّه في الليل ليتوب مُسيء النهار، ويبسط كفّه في النهار ليتوب مُسيء الليل”.

وقد كان رسول الله (ص) مصداقاً للرحمة الإلهية، فقد آمن كثيرٌ من المشركين بالله بعدما لمسوا جمال خُلقه (ص) معهم، فأسلم الأسير اليهودي السخي عندما أعلمه (ص) بأنّ الله أوحى إليه أن يعفو عنه لأنّ الله يحبّ خصلة سخائه، وأحبّ الصلاة وانتظم على أدائها ذاك الشاب الحديث العهد بالإسلام الذي طلب من رسول الله (ص) إعفاءه من الصلوات الخمس لأنه لا يطيق الالتزام إلاّ بصلاة واحدة فقبل منه، واطمأنّ قلبُ المؤمن الذي هرع إلى رسول الله (ص) يشكو غزو إبليس الخبيث لذهنه بالتساؤلات: مَن خَلَق الله؟ ليزلزل إيمانه، فأخبره (ص) أنّ هذا هو محض الإيمان، وغيرها الكثير…

فوجئت برسم بياني على أحد المواقع الالكترونية المعادية للأديان، يحاول إثبات أنّ عدد الذين سيدخلون الجنة حسب عقيدة المسلمين لا يزيد عن واحد في المائة من سكّان العالم، مستشهداً بحدي ورد في صحيح البخاري عن أبي هريرة أنّ النبي (ص) قال: “أوّل من يُدعى يوم القيامة آدم، فتراءى ذريته، فيقال: هذا أبوكم آدم، فيقول: لبيك وسعديك، فيقول: أخرج بعْث جهنّم من ذريتك، فيقول: ياربّ، كم أُخرج؟ فيقول: أخرج من كل مائة تسعة وتسعين، فقالوا: يا رسول الله، إذا أخذ منا من كلّ مائة تسعة وتسعون فماذا يبقى منّا؟ قال: إنّ أمتي في الأمم كالشعرة البيضاء في الثور الأسود”، ليتمّ الطعن بعرض مثل هذه الروايات المنسوبة بسعة رحمة الله وعدالته!

لقد نُسب إلى حبيبنا المصطفى(ص) عددٌ هائل من الأحاديث، ولكن بعد تطبيق آلية الجرح والتعديل لفرزها لم يُقبل منها إلا نسبة قليلة، فقد جمع الإمام مالك في الموطأ تسعمائة حديث تقريباً انتقاهم من مئة ألف حديث، وجمع الإمام أحمد في مسنده قريباً من ثلاثين ألف حديث اختارهم من سبعمائة وخمسين ألف، واختار البخاري في صحيحه ثلاثة آلاف حديث من ستمائة ألف تقريباً، وانتقى مسلم في صحيحه أربعة آلاف من مجموع ثلاثمائة ألف حديث!! ورغم ما بُذلت من جهود للتحقّق من صحّة النصوص النبوية الشريفة، إلاّ أن تلك الجهود لم تؤدِّ بعد إلى غربلة التراث بصورة صحيحة ومؤكّدة لتعيد للدين يسره وللمتدينين سماحتهم.

يحكى أنّ أحد العرفاء فرّ من بطش السلطان فلجأ إلى البرّية يبحث عن مأوى، فالتقى براعٍ فرجاه أن يمضي الليل عنده، فاستضافه الراعي مسروراً، وعند المساء أخذ الراعي إناء وملأه باللبن، وسار بعيداً حتى غاب عن الأنظار، ثم عاد بعد فترة من دون الإناء، وجلس يسامر ضيفه، فسأله عما فعل، فأجاب: “إني أقدّم لله يومياً إناء مملوءً باللبن لأشكر له ما أنعم به عليّ طوال النهار، فضلاً عن حمايته لي أثناء الليل، وهو يقبل مني هذه الهدية، لأني أجد الإناء فارغاً كل صباح”، فتعجب الضيف من هذا الكلام، وأخبر الراعي بأنّ الله ليس بشراً يأكل ويشرب مثله، وأنّ الاعتقاد بالله على هذا النحو ليس صحيحاً .. ولكي يؤكد صحة كلامه طلب من الراعي أن يقوده إلى حيث وضع الإناء، فذهبا إلى المكان واختبآ خلف صخرة، وبعد برهة، أقبل ذئب وشرب اللبن، فعاد الراعي حزيناً، والضيف فرحاً لأنه قوّم إيمان هذا العبد، فأوحى الله إليه: ماذا فعلت بعبدي، ومن قال أني غير راضٍ عن الطريقة التي يعبّر فيها الراعي عن شكره لي؟! رحمة الله يا إخوتي أوسع من ضيق عقولنا، وحتماً هي أوسع من ضيق صدورنا.. (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا)..

شارك بتعليقك

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني.

عصى آدم..الحقيقة دون قناع
  • معصية آدم، نموذج لمفردة في البناء المعرفي! وحلها سيعيد لإنساننا خارطة نفسه وهويته الضائعة وهدف وجوده
  • معرفة هذه الحقيقة صدمة تعيد الوعي، نعقد بها مصالحة بين التراث والمستقبل لنعيش لحظة الحاضر بيقظة أننا على جسر التحول الإنساني، الذي بدأ في الأرض بالإنسان الهمج ليختتم بالخليفة "الإنسان الإنسان"
مسخ الصورة..سرقة وتحريف تراث الأمة
  • أخذت الحركة الصهيونية على عاتقها غرس دولة لليهود في خاصرة الأمة فزوروا التاريخ العربي ونسبوه لليهود
  • اختلقوا لغة بسرقة إحدى اللهجات القبلية العربية البائدة وأسموها اللغة العبرية
  • أقحم الدين والتاريخ للسيطرة على عقول الناس ونقلت رحلات الأنبياء من مواقعها ليأسسو لاحتلال فلسطين فساهم هذا التزوير في مسخ صورة العربي والمسلم في الثقافة الغربية
مفاتيح القرآن و العقل
  • إذا كان كلام الله واحداً ودقيقاً، كيف حصل له مائة تفسير؟
  • ماذا لو كانت أمتنا تقرأه وتترجمه معكوساً، كلبسها إسلامها مقلوباً؟
  • أصحيح هذا "المجاز" و"التقديرات"،و"النسخ" و"التأويل" و"القراءات"؟
  • هل نحن أحرار في قراءة القرآن وتدبره أم على عقولنا أقفال؟
نداء السراة..اختطاف جغرافيا الأنبياء
  • ماذا يحدث عندما تغيب حضارة عريقة
  • هل تموت الحقيقة أم تتوارى عن الأنظار لتعود .. ولو بعد حين؟
  • هل تقبل بلاد وادي النيل بعودة حضارة القبط الغريبة؟
  • هل تقبل نجد بعودة موطن آباء الخليل إبراهيم وبنيه إسحاق ويعقوب؟
الخلق الأول..كما بدأكم تعودون
  • إن البشر الأوائل خرجوا قبل مئات آلاف السنين من "قوالب" الطين كباراً بالغين تماماً كالبعث
  • جاء آدم في مرحلة متأخرة جداً من سلالة أولئك البشر اللاواعي، فتم إعادة تخليقه في الجنة الأرضية ونفخ الروح فيه
  • آدم أبو الناس ليس هو آدم الرسول الذي أعقبه بمئات القرون
الأسطورة..توثيق حضاري
  • الأساطير وقائع أحداث حصلت إما من صنع الإنسان، أو من صنع الطبيعة، أو من صنع السماء
  • لكل اسطورة قيمة ودلالة وجوهراً وتكمن فيها أسرار ومعاني بحاجة إلى إدراك وفهم
  • من الضروري العودة إلى اللغة العربية القديمة بلهجاتها المختلفة لفك رموز الأساطير التي غيب الكثير من مرادها ومغازيها
التوحيد..عقيدة الأمة منذ آدم
  • لو أنا أعدنا قراءة تراثنا بتجرد لأدركنا حقيقة اليد الربانية التي امتدت لإعداة الانسان منذ خطواته الأولى على الأرض بما خطت له من الهدى
  • التوحيد منذ أن بدأ بآدم استمر في بنيه يخبو حيناً ويزهو حيناً آخر، ولكنه لم ينطفئ
بين آدمين..آدم الإنسان وآدم الرسول
  • هل هما (آدمان) أم (آدم) واحد؟
  • من هو (آدم الانسان) الأول الذي عصى؟
  • من (آدم الرسول) الذي لا يعصي؟
  • ماهي شريعة (عشتار) وارتباطها بسقوط آدم الأول حين قارب شجرة المعصية؟
طوفان نوح..بين الحقيقة و الأوهام
  • ما قاله رجال الدين والمفسرون أعاجيب لا يقبلها المنطق ولا العقل السليم في محاولتهم لإثبات عالمية الطوفان
  • استثمر المستنفعون من اليهود هذه القضية ليبتدعوا القضية السامية ويرجعوا نسبهم إلى سام بن نوح (ع)
  • قضية طوفان نوح (ع) لا تكشف التزوير اليهودي فحسب، بل تضع يدها على موضع الداء في ثقافة هذه الأمة