يقال أنّ أصل السبحة يرجع إلى عصور ما قبل التاريخ، وأنهّا وجدت في العراق كما عثر عليها في الآثار الفينيقية، وقد كانت تستخدم بشكل كبير كتعويذة وتميمة، بالإضافة إلى استخدامها للمقايضة في المعاملات التجارية، ووُجِد لها استخدام كهنوتي وتسبيحيّ -قديم وما يزال- بالديانات المختلفة سواء الهندوسية أو اليهودية أو المسيحية، أما في صدر الإسلام، فلم تكن السبحة معروفة أو مستخدمة، وقد شوهد النبي(ص) يعقد التسبيح بيديه، لكن الصحابة بعد ذلك استعانوا بالسبحة للمساعدة على ضبط عدد الأذكار أثناء التسبيح، وكانوا يصنعون مسابحهم من نواة البلح، وهكذا ارتبطت السبحة مذاك بالعبادة والأذكار، إلا أنّ السبحة أصبحت عادة تلازم الرجل الشرقي –دون المرأة-عبر الأزمنة، يقلبها الرجل بين يديه في ذهابه وإيابه، ليبدو للرائي أنّه ذاكر لله مسبّح له، وفي مجتمعات أخرى كالخليجية تعدّ السبحة جزءا من الكشخة والوجاهة، ينفق أحياناً لشرائها آلاف الدنانير.
لكن للسبحة في أيامنا الحالية عند المتدينين شأنٌ عظيم، لم تعد وظائفها كما السابق، فلا هي عادة اعتادوها ولا وجاهة يطلبونها، أصبحت السبحة وسيلة لا غنى عنها، ليس للرجل فقط كما كان سابقا، بل للرجل وللمرأة المتدينة على حدّ سواء، علما أنّ ارتباطها بالمتدينين لم يخلها من قدر التجارة ومطالبها، فثقافة السبحة والحديث عن نوعية أحجارها منتشرة بينهم، وكذلك التفنن في اختيارها والاعتناء بانتقائها، والتسابق في شراء أجودها، السبحة في مجتمعاتنا اليوم صارت مادة أساسية تعقد عليها مجالس ويقضى باسمها الأوقات، هي موضوع العاملين والموظفين في أعمالهم ومكاتبهم، ومادة سمرهم وأنسهم وصرف جهودهم في أوقات العمل والدوام الرسمي، ويا ليت خيرها وقف عند مستوى الحدّ من مجالس الغيبة والنميمة والقص واللصق، أو ظلّت شكلا للكشخة والوجاهة.
إليكم صورة رصدتها بنفسي، في إحدى الغرف المكتظة بالموظفات في أحد وزارات الدولة، في أيام تخفّ فيها أعباء العمل، تتقابل الموظفات في تلك الأيام وفي يد كلّ واحدة منهنّ سبحة، يقضين ساعات العمل لتنفيذ اتفاق يُعقد بينهنّ منذ الصباح لإنجاز عدد هائل (بالآلاف وربما الملايين) من الأذكار يتم توزيعه بالتساوي عليهنّ، على أن يُهدى ثواب ذلك الذكر إلى روح أحد الصالحين أو الصالحات، فيشرعن بتطبيق الاتفاق طوال اليوم وهنّ في منتهى السعادة والنشوة، والإحساس بالرضا، إذ أنّ اللسان يذكر، واليد تسبح، والقلب يقدّس، أعمال هي لعمري من أفضل الأعمال، وهكذا يستنفذ وقت العمل، لا في تطويره ولا في حلّ مشكلاته العالقة، ولا في عقد جلسات العصف الذهني أو اللاذهني لتناول نقاط ضعفه وقوته، أو تحدّياته وفرصه، ولا في أي شيء يرتبط بالمهنة أو مسئولياتها، سوى التسلّي بالسبحة وشغل الذهن واللسان بترددات ولقلقات لا تكاد تصل إلى أطراف اللهاة ناهيك عن سويداء القلب، ناهيك عن روح ذلك الصالح أو الصالحة!
تلك الصورة لها أخوات مثيلات، فمثلها من الصور قابلة للانتشار في مجتمعاتنا انتشار النار في الهشيم، نرى أشباهها في المنتديات الإلكترونية، وفي ساحات التواصل الاجتماعي الإلكتروني (الفيسبوك)، طاقات وأوقات تصرف بهذا الشكل، بضاعتها اسم الله، محتواها ذكره، أما محصلتها فلا تكاد تحسّ لها أثرا، فلا تحسّن في خلق، أو تطوّر في عمل، أو تحدّى لإرادة، أو انجاز في معرفة، أو ابتكار في علم.
بالله عليكم، أليس ذلك الفعل هروباً من العمل والجد وإعمال الفكر إلى الفراغ والهزل والتشتت، أليس هو صورة من صور التخلّي عن المسئولية والشعور بالواجب، أليس من الأجدى لتلك الموظفات لو خصّصن أوقاتهنّ للمراجعة والتطوير والتفكير في بدائل تحسّن الأداء وتطوّر الأساليب، وتقدّم الحلول للمشكلات والصعوبات، ترى ما مؤشّر مسارعة هؤلاء -بعد أن يفرغوا من بعض أعمالهم- إلى السبحة وتشغيل العدادات وتوزيع المهام وإدارة العمليات باسم الذكر والتسبيح وتقدير الصالحين؟ ألا يستدعي هذا المشهد وقفة أسف وحسرة على واقع مؤلم نتحمّل جزءا كبيرا من بقائه جاثما على صدورنا، ثم نتباكى على نتائجه، التي هي ثمرة أورادنا وتسبيحاتنا الجوفاء!!
بالله عليكم، ألا يكشف لنا ذلك واقعا مأساويا، ومغالطات واختلاطات وتشابكات وانحدارات في كل شيء، في المفاهيم، في الدين، في الأجر، في الآخرة، في الدنيا، في العمل، في الذكر، في السعي، وفي كل شيء، فحين يتجرّد الذكر عن معناه الحقيقي وقيمته الأصيلة، الذكر الذي يبدأ من القلب ويترجم باللسان، ليكون وسيلة فاعلة محفّزة على تزكية النفس لنيل الفلاح، وباعثة على التغيير والإصلاح، إلى أداة فارغة لشغل الوقت والتسلية مع البعض، والرضا عن النفس، والاعتقاد بصلاحها وتقواها وحسنها، إنّه بالفعل حال مزرٍ ومؤسف ينادي بالويل والثبور!!
بالله عليكم، ما الفائدة التي نجنيها من إنجازاتنا المشهودة في عالم الذكر، وفي تحقيقنا الأرقام القياسية، ودخولنا في الموسوعات الجينيسية، وفي تفعيل المسابيح وتنشيط تجارتها، إنّه وهم الذكر ووهم الإنجاز، وإنّ المصيبة لتشتد حين تلبس تلك الأفعال لبوس العقائد، وتصبح روح الإيمان وعلامته، من يخالفها يوصم بالجهل والتخلّف وربما الإلحاد، المشكلة توجع القلب، خاصة حين ترى أفواجا من الناس تحشر حشرا في ذلك الموضوع دونما تعقّل أو تفكير أو حتى سؤال، يخطفهم رونق الوهلة الأولى لمثل تلك الأفكار، فلا يكلفون أنفسهم مؤونة الاستفسار عن جدواها، فحشرٌ مع الناس عيد!
بالله عليكم، ألم يفكر أحد من هؤلاء يوما بالمقلوب، وأنّ ذلك الوليّ الصالح أو الصالحة الذي سيهديه آلاف الكلمات إنّما سيسرّ فعلا حين تصله هدية مقدّمة من محبّ مخلص.. محتواها عمل جيّد متقن حقّق به خيرا أو أفاد به علما أو إصلاحا بين الناس، أو رعاية لرياحين الفتيات الصغيرة التي هي أمانات تائهة، عزّ في هذا الزمان من يراعيها أو يحفظها أو يطعمها ما ينفعها، لكنه التعلٌق بالقشور والتزيّن بالمظاهر الذي غلب العقول وغشى القلوب، فما عادت تتذوق غيرها، ففطمت عن طيب الجوهر وجمال اللب.