قوله تعالى: “إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ …. التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون … ” (التوبة111-112)
“عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً ” (التحريم-5)
يقال “ساح الماء” أي تحرّك بانسيابية ومرونة من مكانه باحثاً عن مستقر له، لهذا المعنى صورة معنوية، فيقال ساح الناس، أي تحرّكوا وانتقلوا، ومن لازم “السياحة” فهو سائح، فالسياحة هي المرونة في التحرّك والانتقال، ليس مكانياً فقط بل أيضاً فكرياً بانسيابية وإيجابية، مكانياً بهجرة مكانه إلى مكان آخر ونزع العلائق والارتباطات السابقة ثم التكيّف مع الوضع الجديد، وفكرياً بالإقبال والانفتاح على المفاهيم الجديدة وتبنّي الأفكار أو تعديلها، ولفظ “ساح” مثل “سار” كلاهما يعني التحرك والانتقال.
إذن “السائحون” هم الذين يتحلّون بقابلية التحرّك والانتقال بحثاً عن الاستقرار النفسي والروحي، من خلال التكيّف مع الأوضاع الجديدة ومسايرتها وإعادة التموضع، استعداداً لأداء أدوار أو وظائف جديدة، من هنا قيل أنّ السائحين هم المهاجرون، وقيل هم الصائمون، وقيل هم طلبة العلم، وقيل هم المجاهدون، جميعها مصاديق صحيحة لمن يقبل التغيير بمرونة عالية ورغبة صادقة مهما كانت الصعوبات، وقد ورد عن النبي(ص) قوله: سياحة أمتي الجهاد، فالجهاد بطبيعته يستدعي التوثب والحركة والرغبة والإقبال، والمؤمنون الأوائل استجابوا للهجرة إلى الحبشة ثم إلى المدينة، وثبتوا مع النبي(ص) في جميع المحطّات رغم صعوبتها، فلم تقعدهم “مساكن يرضونها” لا عن الجهاد ولا عن الهجرة ولا عن غيرها من التكاليف التي تستدعي منهم التخلّي والانتقال على مستوى الفكر والمكان أو عليهما كليهما.
لذا فإنّ السائحين –بحسب سورة التوبة- هي إحدى صفات المؤمنين الذين باعوا الله أنفسهم وأقبلوا عليه بكلّهم، دونما انزعاج أو تذمّر، بل ونجحوا تماماً في إزاحة العراقيل وبناء واقع آخر جديد.
أما نساء النبي(ص)، اللاتي كُرّمن بالارتباط الميمون به، فلقد كان مطلوباً منهنّ أن يكنّ “سائحات” مع جملة صفات أخرى، منها عابدات وقانتات وتائبات، أي نساء قابلات للتغيير ومستعدات للتأقلم والتكيف مع الأوضاع المختلفة والمتبدلة، والتي قد تحدث باستمرار بحكم صلتهنّ بالنبي(ص)، فعليهنّ أولاً التفاعل إيجابياً، ثمّ توظيف ما يمتلكن باتجاه الاستجابة المرنة لمتطلبات الموقف، مع المحافظة على الثبات والاستقامة، ودون إظهار أي تثاقل يعيق التسليم والرضا، ولن يكون ذلك إلا بتحليهنّ بالأخلاق الروحانية كالمرونة، والصبر، وحسن التدبير، وقوة الانتماء، والمحبة، ونقاء السريرة .. فهل نُكتب في “التائبون.. العابدون.. السائحون..” فيتقبلنا الله مع من يشتري منهم أنفسهم وأموالهم؟