ديمقراطيات من القرآن -1

يمكن رد الشورى إلى أصلين لغويين كل منهما يضيف معنى عمليا لها،فأصل لفظ الشورى الأول من الشّوار، وهو ما يظهر من العورة. ومنها قيل شوَّرت به، أي أظهرتُ معايبه، ويقال شِرتُ الدابة : أظهرت ما بها من قدرة على العدو. كأنما اختبر عيوبها أهي عاجزة أم قادرة ؟

وأصلها الثاني من مشار العسل أي خلية النحل يشتار منها العسل ، ومنها أخذ التشاور والمشاورة استخراج الرأي بمراجعة البعض إلى بعض، فكأنما المستشير يجتني عسل الآخرين ومصفى رأيهم، ولا عجب فاللغة العربية إنما نشأت في الجنة بمعناها الطبيعي. والشورى؛ الأمر الذي يتشاور فيه ومن هنا نفهم أن قاعدة التشاور قائمة على مراجعة البعض إلى البعض لاستخراج معايب الاراء بغرض الوصول إلى أفضلها وأقلّها عيباً .

الشورى في القرآن وردت في آيتين الأولى “فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر . فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين” 159/3 ، والثانية “والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون” 38/42 . ومن الواضح أن الآية الأولى تتحدث عن جانب من الشورى يختلف عن الجانب الذي تتحدث عنه الآية الأخرى، فالأولى تتحدث عن الشورى كأسلوب من أساليب القيادة في استطلاع الرأي قبل العزم، والمشاورة هنا في أمور مما تختص بالقيادة ولهذا أعقبتها بخيار العزم له. فالمشاورة ابتدأت منه والقرار في النهاية له.

لقد فهم البعض من ذلك عدم إلزامية الشورى للقيادة، فقالوا إنها مُعلمة غير مُلزمة، وهذا صحيح في هذا الجانب الذي هو مختصات القيادة، فلابد لكل سلطة من اختصاصات تتصرف فيها وفق ما خولتها الأمة (الدستور) من صلاحيات، وإلاّ لما كانت مستقلة. والقائد على رأس هذه السلطات له صلاحيات تخصه في إدارة شئون الأمة والدولة والحرب والعلاقات الخارجية والداخلية والاقتصادية، إنها في أكثر الدساتير من أوسع الصلاحيات . هذه الجوانب أرشد الله سبحانه رسوله إلى أن لا يستبد فيها برأيه دون رعيته، كلٌ فيما يصلح للمشاورة فيه ولكن القرار الأخير يبقى مسئولية خاصة به، تحتاج إلى عزمه الأخير .

إن الشورى في هذا المجال ليست ملزمة لا في أخذها ولا في الأخذ بها، نعم هي ملزمة للأخذ بها في العموم كخلق للقائد، وليس في كل أمر، إذ بعض الأمور تحتاج إلى الكتمان، وبعضها يحتاج إلى تضييق دائرة التشاور. هذه هي طبيعة الأمور، فهناك الكثير مما كان النبي (القائد) يخفيه عن الناس، لأن في ظهوره مفسدة، وهناك الكثير مما قبل فيه المشورة .

الآية الثانية: “وأمرهم شورى بينهم”: هذه الآية تتحدث عن قسم آخر من الشورى السياسية، ليست بين القائد وأمته. وموضوعها ليس “الأمر” المتعلق بمهمات القائد، إنها تتحدث عن الشورى بين المسلمين أنفسهم كأبناء أمة واحدة، وإن شئت تعميمها على المواطنين فعلت. والأمر الذي جعلته موضوعاً لها هو أمر الناس “أمرهم”، وهو أوسع لفظ في العربية يشمل كل الأقوال والأفعال، ولهذا يعرفونه أحياناً بالشأن . بمعنى وشأنهم أو شئونهم شورى بينهم . ولم تحدد هذه الشئون لأنها بطبيعتها غير محددة، فهي متجدّدة متّسعة نامية بحسب حال المجتمع، فلم تحدد إلاّ بالإضافة إليهم، فما دامت شأناً من شؤنهم فهي موضوع للشورى . وصيغة العموم تشير إلى أن هذه الأمور ليست فردية شخصية، فهي من النوع العام المتعلق بشئون المجتمع بما هو مجتمع، فهي ليست صفة خلقية فردية تشير إلى خلق المشاورة، وإنما هي صفة للمؤمنين بأن من علامات الإيمان بالإضافة إلى الاستقامة والتسامح والاستجابة؛ عدم إهمال الشأن العام وعدم الانفراد والعزلة والاستبداد، بل المشاركة والاهتمام والحفاظ على مصلحة الجماعة . إنها تتصل بالحديث المعروف : “من أصبح ولم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم ” .

ومن المؤسف حقاً أنك لا تجد للأمة فاعلية فيما تُرك لها وأثني عليها فيه ، فلا تجد للأمة جهداً مذكورا في تفعيل الشورى في أمرهم هذا الذي أوكل إليهم . لم يفكر المسلمون بتفعيلها في تنظيم حياتهم العامة ، لم يفكروا كأمة في منهجة تعليم أبنائهم ، أو في منهجة تطوير انتاجهم الزراعي ، لم تبادر أي جماعة مدنية خارج السلطة فتحاول تطوير جانب من حياتها الاقتصادية أو الثقافية مثلا كما نجد في المجتمعات الأوربية الحديثة، لم يكن المجتمع المدني يومها متطورا، ولم يكن يفكر خارج مؤسساته التقليدية الحكومية والقبلية، إذ من طبيعة الأمور أن الناس تبادر إلى استغلال الصلاحيات المخولة لهم ، وقد خوّلت الآية المسلمين أمر شؤنهم العامة، ولكنك لا ترى مبادرات تنسجم مع هذا التخويل .

نعم كان هذا المستوى من التفعيل محتاجا لدرجة أعلى من النضج الاجتماعي والسياسي، وكان لابد أن يبدأ بممارسة سياسية سليمة لينمو بعدها في المجتمع، ولكن لا الدولة تركت للناس فسحة إدارة شؤنهم، ولا القبيلة اضمحل دورها فيهم، فظلت الآية كما كانت سابقة لعصرها، لا يدركها الوعي إلا في حدودها الدنيا من حسن المشاورة قبل الإقدام على الأمور، فكانت ألاية الأولى في حسن خلق القائد بالمشاورة، والآية الثانية في حسن خلق الجمهور بالمشاورة، اختلاف في الجهة ووحدة في الموضوع، فبقيت الشورى “معلمة غير ملزمة” وبطل مفعولها، فكانت كمولود ولد خديجا فلم يلبث أن مات.

شارك بتعليقك

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني.

عصى آدم..الحقيقة دون قناع
  • معصية آدم، نموذج لمفردة في البناء المعرفي! وحلها سيعيد لإنساننا خارطة نفسه وهويته الضائعة وهدف وجوده
  • معرفة هذه الحقيقة صدمة تعيد الوعي، نعقد بها مصالحة بين التراث والمستقبل لنعيش لحظة الحاضر بيقظة أننا على جسر التحول الإنساني، الذي بدأ في الأرض بالإنسان الهمج ليختتم بالخليفة "الإنسان الإنسان"
مسخ الصورة..سرقة وتحريف تراث الأمة
  • أخذت الحركة الصهيونية على عاتقها غرس دولة لليهود في خاصرة الأمة فزوروا التاريخ العربي ونسبوه لليهود
  • اختلقوا لغة بسرقة إحدى اللهجات القبلية العربية البائدة وأسموها اللغة العبرية
  • أقحم الدين والتاريخ للسيطرة على عقول الناس ونقلت رحلات الأنبياء من مواقعها ليأسسو لاحتلال فلسطين فساهم هذا التزوير في مسخ صورة العربي والمسلم في الثقافة الغربية
مفاتيح القرآن و العقل
  • إذا كان كلام الله واحداً ودقيقاً، كيف حصل له مائة تفسير؟
  • ماذا لو كانت أمتنا تقرأه وتترجمه معكوساً، كلبسها إسلامها مقلوباً؟
  • أصحيح هذا "المجاز" و"التقديرات"،و"النسخ" و"التأويل" و"القراءات"؟
  • هل نحن أحرار في قراءة القرآن وتدبره أم على عقولنا أقفال؟
نداء السراة..اختطاف جغرافيا الأنبياء
  • ماذا يحدث عندما تغيب حضارة عريقة
  • هل تموت الحقيقة أم تتوارى عن الأنظار لتعود .. ولو بعد حين؟
  • هل تقبل بلاد وادي النيل بعودة حضارة القبط الغريبة؟
  • هل تقبل نجد بعودة موطن آباء الخليل إبراهيم وبنيه إسحاق ويعقوب؟
الخلق الأول..كما بدأكم تعودون
  • إن البشر الأوائل خرجوا قبل مئات آلاف السنين من "قوالب" الطين كباراً بالغين تماماً كالبعث
  • جاء آدم في مرحلة متأخرة جداً من سلالة أولئك البشر اللاواعي، فتم إعادة تخليقه في الجنة الأرضية ونفخ الروح فيه
  • آدم أبو الناس ليس هو آدم الرسول الذي أعقبه بمئات القرون
الأسطورة..توثيق حضاري
  • الأساطير وقائع أحداث حصلت إما من صنع الإنسان، أو من صنع الطبيعة، أو من صنع السماء
  • لكل اسطورة قيمة ودلالة وجوهراً وتكمن فيها أسرار ومعاني بحاجة إلى إدراك وفهم
  • من الضروري العودة إلى اللغة العربية القديمة بلهجاتها المختلفة لفك رموز الأساطير التي غيب الكثير من مرادها ومغازيها
التوحيد..عقيدة الأمة منذ آدم
  • لو أنا أعدنا قراءة تراثنا بتجرد لأدركنا حقيقة اليد الربانية التي امتدت لإعداة الانسان منذ خطواته الأولى على الأرض بما خطت له من الهدى
  • التوحيد منذ أن بدأ بآدم استمر في بنيه يخبو حيناً ويزهو حيناً آخر، ولكنه لم ينطفئ
بين آدمين..آدم الإنسان وآدم الرسول
  • هل هما (آدمان) أم (آدم) واحد؟
  • من هو (آدم الانسان) الأول الذي عصى؟
  • من (آدم الرسول) الذي لا يعصي؟
  • ماهي شريعة (عشتار) وارتباطها بسقوط آدم الأول حين قارب شجرة المعصية؟
طوفان نوح..بين الحقيقة و الأوهام
  • ما قاله رجال الدين والمفسرون أعاجيب لا يقبلها المنطق ولا العقل السليم في محاولتهم لإثبات عالمية الطوفان
  • استثمر المستنفعون من اليهود هذه القضية ليبتدعوا القضية السامية ويرجعوا نسبهم إلى سام بن نوح (ع)
  • قضية طوفان نوح (ع) لا تكشف التزوير اليهودي فحسب، بل تضع يدها على موضع الداء في ثقافة هذه الأمة