الصراع .. صراع ثقافَتَين

كشفت الأزمة الأخيرة في الجنوب اللبناني، أنّ جوهر الاختلاف بين الفرقاء في ذلك البلد، بل وفي العالم الإسلامي برمته، هو اختلاف بين ثقافتين، هذا الخلاف بدا واضحا بعد أن سكتت أصوات المدافع ووضعت الحرب أوزارها، وهو وإن لم يكن خافيا قبل الحرب، إلا أن التصريحات والمقالات والمؤتمرات الصحفية بعد الحرب كشفت القناع عن هذين الفريقين بصورة أكثر وضوحا، ففريق راح يتغنى بالنصر ويعيش نشوة الانجاز ويتحدّث عن نتائج مهمة للغاية في تاريخ الصراع مع العدو الصهيوني، فأصبح يشعر بصلاح قوة ساعده ويصرّح أنّ هذه المواجهة ما زادته إلا عزيمة واستبشارا، وفريق آخر عمد إلى التركيز على قائمة الويلات والنكبات لأجل التقليل من هذا الانتصار، والترويج أنّ ما خسره لبنان أكثر بكثير مما كسبه، حتى لكأنك تقول أن الذي يردّده الإسرائيليون أخف وأرحم وأصدق من موقف وكلام ونفس هؤلاء.

الفريق الثاني، أصحاب ثقافة الحداثة السياسية أو ثقافة الاستسلام أو المهادنة، هم نفر يؤمن حتى النخاع بالأفكار والمشاريع الأمريكية فيما يتعلّق بالسلام والديمقراطية والسيادة وغيرها، لا يراهنون إلا على القدرات الأمريكية، ولا يثقون إلا بالوعود الأمريكية، ولا يتحرّكون إلا وفق الأجندات الأمريكية، وعلى ذلك فإنّ أدبياتهم تقوم على مبدأ التشكيك بالآخر وعدم الوثوق بقدراته ولا التصديق بوعوده، فهم مثلا في لبنان لا يريدون للبلاد أن ترتبط بما يسمى قضية العرب الأولى وهي القضية الفلسطينية، فما شأنهم وفلسطين، بل وما شأنهم والمحيط العربي، ولماذا تبقى وشائج القربى ووصلة العقيدة ومفهوم القضية الواحدة، فلبنان بلد يمكنه أن يعيش سالما معافى كجنة الله في هذه الأرض إن هو تعايش مع غيره بسلم وسلام بما فيهم إسرائيل التي هي بلد جدير بالاحترام تماما كغيرها من الجيران، لذا وفي أثناء الحرب رأيناهم يكادون يصفّقون لقصف بيروت الغربية، إذ لا قيمة للصراع لاعتبارات الكرامة والعزة وقوة الردع، ولا معنى لتلقين العدو الصهيوني درسا أو للمواجهة أصلا مع العدو الصهيوني، فإسرائيل هي أقوى وأحدث دولة في المنطقة، ومن الأولى التسليم لهذه الحقيقة والجنوح للسلام والتعايش معها.

هذه الثقافة إذن تدعو إلى التخلي عن العروبة والالتزام القومي، والتوجّه بقوة نحو التطبيع مع العدو الإسرائيلي، فإسرائيل يجب أن ينظر إليها كأمر واقع، لها حق في الوجود على هذه الأرض تماما كحق غيرها من أبناء المنطقة، لأنّها جزء من مكوّنات التاريخ والتراث والأرض والمستقبل، وعلى ذلك فإسرائيل يمكن أن تكون دولة صديقة لو تغيرت مفاهيمنا، ومن المهم نسيان الماضي ولا بدّ من غضّ النظر عن التاريخ مهما كان هذا التاريخ مرّا أو قاسيا، وإن كنا حقا نريد ازدهارا وتقدما فعلينا أن نتخذ إسرائيل قدوة ومثلا نحتذي به، لأنّها الدولة الأكثر تطوّرا في المنطقة، وبدلا من معاداتها علينا محاكاتها في ديمقراطيتها وفي أنظمتها الاقتصادية والسياسية وفي نهضتها العلمية والصناعية، فالتحالف مع إسرائيل هو السبيل المضمون للدخول في عالم الحداثة والنهضة، وأنّ أحد أهم أسباب التخلف والفشل والاستبداد الذي يعيشها العرب ناتجة عن عدم تسليمها بوجود إسرائيل التي كان من الممكن أن تكون مصدر إلهام في هذا المجال، كما تؤكّد نصائح الصديق الوفي الأمريكي ذي الخبرة والتجربة، خاصة وأنّ الأهم في هذه الفترة بالنسبة لنا هو الالتفات للمستقبل والتخطيط للنهوض والسعي لمواكبة تحدّيات العصر واللحاق بركب الدول المتقدمة.

من أولويات هذه الثقافة أيضا العمل على تحويل الوطن إلى سوق تجارية وبوابة للسياحة، فإدرار الأموال وجلب الاستثمارات أولى من صرف الأموال على توفير حماية عسكرية، إذ الحماية يمكن أن تأتي من توقيع المعاهدات والاتفاقات وتوفير القواعد العسكرية مع الأطراف المعنية، وعبر التراضي مع الآخرين، وبذلك تتوجه كل الجهود نحو العمل من أجل تحقيق الازدهار الاقتصادي.

على الطرف الآخر، هناك ثقافة تعتقد أن كل مصائبها وراءها أمريكا وربيبتها إسرائيل، فأمريكا هي عدوة الشعوب وإسرائيل شر مطلق، والصراع بدأه الغرب منذ أكثر من مائة عام، عبر سلسلة طويلة من المؤامرات والخذلان والانحياز الصريح لعدوّها المزروع في خاصرتها بقصد تأمين مصالحها في هذه البقعة المهمة من العالم، هؤلاء يصرخون بأنّ إسرائيل عدو قومي للعرب والمسلمين، والصراع معها ليس صراعا طائفيا أو عقائديا، بل هو صراع ينطلق من مبادئ إنسانية أساسها الحق في الحرية والاستقلال، وأن المقاومة حق مشروع مادام هذا الاحتلال مستمرا في إقامة كيانه على جثث الأبرياء وسرقة الأموال واغتصاب الأرض، لا اعتراف لدولة اسمها إسرائيل، فتلك الأرض لا اسم لها سوى فلسطين، وهي اليوم فلسطين المحتلة، في مثل هذه الظروف لا مكان للمساومة بتلك القضية أو الاستهانة بها، ومن المحرّم الإقرار بوجود هذا الكيان أو قبول خيار السلام معه لأنّها دولة أسّست على الغدر وعيونها لا تزال تتطلّع إلى المزيد من التوسّع والهيمنة.

أما النهوض وتحقيق التقدم فلا يمر إلا عبر مقاومة هذه الغدة السرطانية والعزة لا تنال إلا على سلّم البندقية، وأنّ قوة الأمة بمقدار ما تمتلكه من عناصر القوة والمكنة أمام التعنّت والأطماع الصهيونية، ولا سبيل إلا بالمجابهة بعتاد يضاهي عتاد العدو، مبدأ المقاومة هذا ليس مبدأ طارئا بل هو مبدأ مرتبط بعقيدة وإيمان الإنسان الحرّ وبمعاني العزة والكرامة وبطريق عشق الشهادة والاستعداد للتضحية وبذل الغالي والرخيص في سبيل هذه القضية الحقّة، وكل ذلك جزء أصيل من هوية وثقافة ومكوّنات الشعوب العربية والإسلامية ولا بدّ أن تشكّل أساس عقيدة أبناء الشعوب إن أرادت أن تمضي في أي مشروع حضاري واعد.

وعلى ذلك تؤكد ثقافة المقاومة على وحدة الأراضي العربية ووحدة مصيرها، وهي تساند الحقّ أينما كان، وترى أنّ ثقافة المقاومة ترتبط ارتباطا وثيقاً بوجود هذه الأمة وتطورها، وترى أيضا أنّه حيثما بقيت ثقافة المقاومة والممانعة والرفض فإن هذا سيفرز المزيد من إبداع المواجهة مع هذا العدو وكسر شوكته بما يحفظ لهذه الأمة وجودها وكرامتها.

أمام هاتين الثقافتين، تنقسم الشعوب العربية والإسلامية، إلا أنك لا تعجب إن وجدت أنّ أصحاب ثقافة المهادنة أو الاستسلام يمثّلون فئة أقل واضحة المعالم تتشدق بالغرب في قيامها وقعودها، وأن أصحاب ثقافة المقاومة أو الممانعة تمثّل فئات تعيش السياسة وتفهمها وتمارسها بمفردات تتراوح بين البسيطة والمعقّدة، إلا أنّ صوتها أثبت قوته وفاعليته، كما أنّ قاعدتها أصبحت تتسع يوما بعد يوم، وباتت تعي أنّها من الممكن في يوم ما أن تمسك الزمام وتغيّر المسار.

شارك بتعليقك

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني.

عصى آدم..الحقيقة دون قناع
  • معصية آدم، نموذج لمفردة في البناء المعرفي! وحلها سيعيد لإنساننا خارطة نفسه وهويته الضائعة وهدف وجوده
  • معرفة هذه الحقيقة صدمة تعيد الوعي، نعقد بها مصالحة بين التراث والمستقبل لنعيش لحظة الحاضر بيقظة أننا على جسر التحول الإنساني، الذي بدأ في الأرض بالإنسان الهمج ليختتم بالخليفة "الإنسان الإنسان"
مسخ الصورة..سرقة وتحريف تراث الأمة
  • أخذت الحركة الصهيونية على عاتقها غرس دولة لليهود في خاصرة الأمة فزوروا التاريخ العربي ونسبوه لليهود
  • اختلقوا لغة بسرقة إحدى اللهجات القبلية العربية البائدة وأسموها اللغة العبرية
  • أقحم الدين والتاريخ للسيطرة على عقول الناس ونقلت رحلات الأنبياء من مواقعها ليأسسو لاحتلال فلسطين فساهم هذا التزوير في مسخ صورة العربي والمسلم في الثقافة الغربية
مفاتيح القرآن و العقل
  • إذا كان كلام الله واحداً ودقيقاً، كيف حصل له مائة تفسير؟
  • ماذا لو كانت أمتنا تقرأه وتترجمه معكوساً، كلبسها إسلامها مقلوباً؟
  • أصحيح هذا "المجاز" و"التقديرات"،و"النسخ" و"التأويل" و"القراءات"؟
  • هل نحن أحرار في قراءة القرآن وتدبره أم على عقولنا أقفال؟
نداء السراة..اختطاف جغرافيا الأنبياء
  • ماذا يحدث عندما تغيب حضارة عريقة
  • هل تموت الحقيقة أم تتوارى عن الأنظار لتعود .. ولو بعد حين؟
  • هل تقبل بلاد وادي النيل بعودة حضارة القبط الغريبة؟
  • هل تقبل نجد بعودة موطن آباء الخليل إبراهيم وبنيه إسحاق ويعقوب؟
الخلق الأول..كما بدأكم تعودون
  • إن البشر الأوائل خرجوا قبل مئات آلاف السنين من "قوالب" الطين كباراً بالغين تماماً كالبعث
  • جاء آدم في مرحلة متأخرة جداً من سلالة أولئك البشر اللاواعي، فتم إعادة تخليقه في الجنة الأرضية ونفخ الروح فيه
  • آدم أبو الناس ليس هو آدم الرسول الذي أعقبه بمئات القرون
الأسطورة..توثيق حضاري
  • الأساطير وقائع أحداث حصلت إما من صنع الإنسان، أو من صنع الطبيعة، أو من صنع السماء
  • لكل اسطورة قيمة ودلالة وجوهراً وتكمن فيها أسرار ومعاني بحاجة إلى إدراك وفهم
  • من الضروري العودة إلى اللغة العربية القديمة بلهجاتها المختلفة لفك رموز الأساطير التي غيب الكثير من مرادها ومغازيها
التوحيد..عقيدة الأمة منذ آدم
  • لو أنا أعدنا قراءة تراثنا بتجرد لأدركنا حقيقة اليد الربانية التي امتدت لإعداة الانسان منذ خطواته الأولى على الأرض بما خطت له من الهدى
  • التوحيد منذ أن بدأ بآدم استمر في بنيه يخبو حيناً ويزهو حيناً آخر، ولكنه لم ينطفئ
بين آدمين..آدم الإنسان وآدم الرسول
  • هل هما (آدمان) أم (آدم) واحد؟
  • من هو (آدم الانسان) الأول الذي عصى؟
  • من (آدم الرسول) الذي لا يعصي؟
  • ماهي شريعة (عشتار) وارتباطها بسقوط آدم الأول حين قارب شجرة المعصية؟
طوفان نوح..بين الحقيقة و الأوهام
  • ما قاله رجال الدين والمفسرون أعاجيب لا يقبلها المنطق ولا العقل السليم في محاولتهم لإثبات عالمية الطوفان
  • استثمر المستنفعون من اليهود هذه القضية ليبتدعوا القضية السامية ويرجعوا نسبهم إلى سام بن نوح (ع)
  • قضية طوفان نوح (ع) لا تكشف التزوير اليهودي فحسب، بل تضع يدها على موضع الداء في ثقافة هذه الأمة