الصوم وصناعة الإرادة

عندما تتحول العبادات في حياتنا بحكم التكرار إلى عادة، تتعطل وظيفتها، وتفقد مضمونها، ويتلاشى أثرُها في صناعة الإنسان المسلم صناعةً ربانية، وتضيع الأهداف التي من أجله شُرّعت، فلا تعود الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولا الصدقة تطهيراً للمال وتزكيةً للنفس، ولا الصيام سبيلاً لتقوية الإرادة، ولا الحج صياغةً لولادةٍ جديدة، بل تصبح تلك الشعائر طقوساً فارغةً من الجوهر والمضمون.

ولاستعادة جوهر تلك العبادات وتفعيل أثرها في حياتنا، لا بدَّ لنا من وقفة تفكّرٍ لاستجلاء معانيها، ومن ثّم تمثّل تلك المعاني في حياتنا العملية. ونحن نستقبل الشهر الكريم، فإنّا أحوج ما نكون إلى استيعاب معاني الصيام حتى لا نكون ممن يدخل الشهر بالجوع والعطش ولا يخرج منه بغير ذلك.

الصيام لغةًيعني الامتناع عن الفعل، ومثاله الصوم عن الكلام كما قال تعالى في حكاية مريم(ع): (فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً)(مريم:26).

والصيام شرعاًهو الامتناع عن ممارسة بعض الأعمال المباحة في أصلها، والأكثر تعبيراً عن حاجات الجسد، كالأكل والشرب والمعاشرة الزوجية، من الفجر حتى الغروب.

فالصيام فعلٌ سلبي، ذو تأثيرٍ تهذيبي على النفس، يظهر على الجوارح سلوكاً إرادياً واعياً، كما جاء في الحديث الشريف: “من صام صامتْ جوارحُه”، فهو تدريبٌ للنفس على الانضباط والالتزام، وتجاوزٌ لأنانية الذات إلى الغيرية والعطاء وتحسّس آلام الآخرين من الفقراء والمعوزين واستشعار حاجاتهم، وترويضٌ للنفس على التحلّي بمعالي الخصال والاهتمام بجواهر الأمور دون سفاسفها.

الصوم مدرسةٌ لزرع القيم الفاضلة في جنبات النفس الخاوية، تملأها إيماناً واطمئناناً يفيض سلاماً على مَنْ حولها، حتى المسيئين لا تبادلهم الإساءة بمثلها، وإنما بالقول: “اللهم أني صائم”. سمع رسول الله (ص) امرأة تسابّ جاريةً لها وهي صائمة، فدعا بطعام وقال لها: كلي، فقالت: إني صائمة، فقال: كيف تكونين صائمة وقد سببت جاريتك؟ إنّ الصوم ليس من الطعام والشراب.

الصومُ في جوهره مواجهةٌ مع رغبات النفس وطلباتها، وهو الجهاد الأكبر، فلا عجب أن يطال أثره حال الصائم في جميع حركاته وسكناته، فنومه عبادة وأنفاسه تسبيح، وله من الأجر ما لا يحصيه إلا الله سبحانه، كما جاء في الحديث القدسي: (كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبع مائة ضعف إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه من أجلي). فالصائم بمجرد أن ينوي الصيام يمارسه بوعي وإرادة قامعاً نفسه عن شهواتها المباحة، فهو لا يحتاج فيه إلى أداء طقوس معينة أو إجرائه بكيفية محدّدة للدلالة عليه، كالصلاة أو الحج أو غيرها من الشعائر، وإنما هو حضورٌ داخلي واعٍ بما هو عليه من الصيام، والتزامٌ بما يقتضيه، عمل كهذا لا تكاد تجد فيه مكاناً للرياء، ولهذا شرّعه الله تثبيتاً للإخلاص كما ورد عن الزهراء(ع).

ثمرة الصوم تظهر في قوة الإرادة، والقدرة على التحكّم في الشهوات، وتحسّس حاجات الفقراء وأحوالهم، اختصرها القرآن بقوله: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، فمن صام ولم يشهد هذه الآثار أو شيئاً منها في نفسه فليس له من صيامه إلا الجوع والعطش، وما نشهده اليومَ من حال بعض الصائمين لا يعكس حقيقة الصيام، حيث تراه عكر المزاج، ضيّق الصدر، سيء الخُلق، كسولاً، قليل النشاط، كثير النوم، معتقداً أنّ هذا طبيعي لأنّه من إفرازات الصيام! وكأنّه يمنّ على الله عزّ وجلّ بصيامه! وقد كان المسلمون الأوائل يخوضون الحروب في شهر رمضان، ولم يمنعهم ذلك من بذل الجهد وتحمّل الأذى بل وتحقيق انتصارات رائعة في معركة بدر وفتح مكة وغيرها، فهل كانت العلّة في الصيام، أم في نفوسنا الضعيفة التي ترى الصومَ عملاً شاقاً يحتاج إلى استعدادات وترتيبات مسبقة، كالإسراف في شراء أنواع الأطعمة وتخزينها، ثم تعويض النفس عمّا أصابها من لسعة الجوع والعطش في النهار بتناول أشكال من الطعام تصل إلى حدّ التخمة في الليل، وبالترويح عن ضجرها باللهو، وإضاعة الوقت مع التسالي الهابطة، والحرص على متابعة المسلسلات غير الهادفة؟

الإنسان كائنٌ مريد، وهو حينما يمارس إرادته في الاتجاه صحيح فهو إنّما يمارس إنسانيته، وحين يعمل على شحذ إرادته فإنّه يعمل على صقل عنصره الإنساني وإبرازه، فالله سبحانه وهبه الإرادة وطلب منه توظيفها في مواجهة المشكلات والمحبِّطات والمغريات التي تحطّ من كرامته وإنسانيته، ليرتفع بها على نواقصه وعلى كل ما من شأنه الحدّ من قدراته وإمكاناته ليكون جديراً بموقعه كإنسان في هذه الحياة.

ليس أفضل من شهر رمضان دورةً لتقوية الإرادة وإعادة شحنها لمواصلة العروج في سلم الإنسانية صُعداً في عملية تراكمية حثيثة تستغرق العمر كله، فالمعدن الإنساني لا يظهر هكذا دفعة واحدة، وإنّما يحتاج إلى صبر وتجلّد وقوة إرادة ومثابرة، تتكفّل دورةُ الصيام بصناعتها لمن اجتازها بنجاح حتى يُكتب عند الله من الصائمين، جعلنا الله وإيَّاكم منهم.

شارك بتعليقك

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني.

عصى آدم..الحقيقة دون قناع
  • معصية آدم، نموذج لمفردة في البناء المعرفي! وحلها سيعيد لإنساننا خارطة نفسه وهويته الضائعة وهدف وجوده
  • معرفة هذه الحقيقة صدمة تعيد الوعي، نعقد بها مصالحة بين التراث والمستقبل لنعيش لحظة الحاضر بيقظة أننا على جسر التحول الإنساني، الذي بدأ في الأرض بالإنسان الهمج ليختتم بالخليفة "الإنسان الإنسان"
مسخ الصورة..سرقة وتحريف تراث الأمة
  • أخذت الحركة الصهيونية على عاتقها غرس دولة لليهود في خاصرة الأمة فزوروا التاريخ العربي ونسبوه لليهود
  • اختلقوا لغة بسرقة إحدى اللهجات القبلية العربية البائدة وأسموها اللغة العبرية
  • أقحم الدين والتاريخ للسيطرة على عقول الناس ونقلت رحلات الأنبياء من مواقعها ليأسسو لاحتلال فلسطين فساهم هذا التزوير في مسخ صورة العربي والمسلم في الثقافة الغربية
مفاتيح القرآن و العقل
  • إذا كان كلام الله واحداً ودقيقاً، كيف حصل له مائة تفسير؟
  • ماذا لو كانت أمتنا تقرأه وتترجمه معكوساً، كلبسها إسلامها مقلوباً؟
  • أصحيح هذا "المجاز" و"التقديرات"،و"النسخ" و"التأويل" و"القراءات"؟
  • هل نحن أحرار في قراءة القرآن وتدبره أم على عقولنا أقفال؟
نداء السراة..اختطاف جغرافيا الأنبياء
  • ماذا يحدث عندما تغيب حضارة عريقة
  • هل تموت الحقيقة أم تتوارى عن الأنظار لتعود .. ولو بعد حين؟
  • هل تقبل بلاد وادي النيل بعودة حضارة القبط الغريبة؟
  • هل تقبل نجد بعودة موطن آباء الخليل إبراهيم وبنيه إسحاق ويعقوب؟
الخلق الأول..كما بدأكم تعودون
  • إن البشر الأوائل خرجوا قبل مئات آلاف السنين من "قوالب" الطين كباراً بالغين تماماً كالبعث
  • جاء آدم في مرحلة متأخرة جداً من سلالة أولئك البشر اللاواعي، فتم إعادة تخليقه في الجنة الأرضية ونفخ الروح فيه
  • آدم أبو الناس ليس هو آدم الرسول الذي أعقبه بمئات القرون
الأسطورة..توثيق حضاري
  • الأساطير وقائع أحداث حصلت إما من صنع الإنسان، أو من صنع الطبيعة، أو من صنع السماء
  • لكل اسطورة قيمة ودلالة وجوهراً وتكمن فيها أسرار ومعاني بحاجة إلى إدراك وفهم
  • من الضروري العودة إلى اللغة العربية القديمة بلهجاتها المختلفة لفك رموز الأساطير التي غيب الكثير من مرادها ومغازيها
التوحيد..عقيدة الأمة منذ آدم
  • لو أنا أعدنا قراءة تراثنا بتجرد لأدركنا حقيقة اليد الربانية التي امتدت لإعداة الانسان منذ خطواته الأولى على الأرض بما خطت له من الهدى
  • التوحيد منذ أن بدأ بآدم استمر في بنيه يخبو حيناً ويزهو حيناً آخر، ولكنه لم ينطفئ
بين آدمين..آدم الإنسان وآدم الرسول
  • هل هما (آدمان) أم (آدم) واحد؟
  • من هو (آدم الانسان) الأول الذي عصى؟
  • من (آدم الرسول) الذي لا يعصي؟
  • ماهي شريعة (عشتار) وارتباطها بسقوط آدم الأول حين قارب شجرة المعصية؟
طوفان نوح..بين الحقيقة و الأوهام
  • ما قاله رجال الدين والمفسرون أعاجيب لا يقبلها المنطق ولا العقل السليم في محاولتهم لإثبات عالمية الطوفان
  • استثمر المستنفعون من اليهود هذه القضية ليبتدعوا القضية السامية ويرجعوا نسبهم إلى سام بن نوح (ع)
  • قضية طوفان نوح (ع) لا تكشف التزوير اليهودي فحسب، بل تضع يدها على موضع الداء في ثقافة هذه الأمة