أقام أحد المعارض مسابقةً للرسم لاختيار أفضل الرسومات التي تعبّر عن الشعور بالسلام وترمز له، وشارك فيه العديد من الرسّامين من مختلف الأعمار، وقدّموا أعمالاً متنوّعة تمحورت أكثرها حول الشعور بالسلام حين يعمّ في البيئة المعاشة، كهدوء بجْعٍ على بحيرة، وبستان ربيعيّ مزدهر، وعلاقة مُحبّين في جوّ هادىء، وطفل نائم بعمق، وأناس مبتسمين يتسامرون، وغيرها من التعابير التي تعكس أيضاً الهدوء والطمأنينة في الأجواء، ومع جمال تلك الصور، إلا أنّ الرسمتيْن الفائزتيْن كانتا ذات طابع مختلف، فالأولى صورّت عاصفة شديدة ودمارا شامل في الأجواء، ووسط كلّ ذلك، هناك شجرة عليها عشّ يرقد فيه طائر على بيضه بهدوء، والرسمة الثانية كانت لطوفان وأمطار غزيرة عصفت بمدينة وتسبّبت في عزلها وقطع الكهرباء والإمدادات عنها، ومن مدفأة أحد البيوت البعيدة، يخرج بخار يدلّ على أنّ هناك وجبةً ساخنة في حال الإعداد.
السلام ضرورة للحياة المدنيّة والإنسانيّة السويّة، وترتفع مستوياته بالتآلف التي تعيش به الدول والمجتمعات، وسيادة القانون والقيم والأخلاق فيها، وتقلّ بالحروب والخلافات والجهل والفقر وتبعاته، وهو يتأثّر بالظروف الآنيّة والمستقبليّة والمخاوف المحيطة، فنشرات الأخبار المحايدة عادة ما تعطينا تصوّراً، ولو منقوصاً عن نسبة السلام التي تعيشها المجتمعات والدول والعالم أجمع.
والسلام الداخلي هو صورة مصغّرة عن ذلك السلام، ترتفع مستوياته بالتآلف مع الذات وسيادة القيم والأخلاق فيه، وتقلّ بالحروب الصامتة التي قد يعيشها الإنسان مع نفسه ومع الآخرين كالحسد والحقد والجشع والتكبّر والغرور، ومصدر هذا السلام هو الإنسان ذاته ومخرجات تفاعل عقله وقلبه ومخاوفه وآماله، فحين يعيش الفرد السلام الداخلي، فإنّ كلّ ما يجري خارج منظومة الإنسان الفرديّة يدخل إليه من خلال مرشِّح يستخلص منه ما يُعرّفه على واقعه ويساعده على فهم العوامل المؤثّرة المختلفة في حياته ومن حوله، ويقيّم ما عليه فعله لتحسين أوضاعه وتجنّب المخاطر المحتملة وجلب المنافع الممكنة، ثمّ يراقب النتائج، وفي عملية المراقبة تلك أيضاً، يقيّم دوره في كلّ وقت وآن.
إنّ الاعتقاد السائد لدى شريحة غير قليلة من الناس من مختلف الأعراق، هو أنّ السلام الداخلي يأتي حين يكون السلام عامّا وتكون الظروف مواتية وتزول موانع القلق والخطر، ومع أنّ ذلك قد يكون عاملاً مساعداً، إلا إنّه ليس العامل الرئيسي المحفّز له ولاستدامته، فحتى لو كانت الظروف الخارجية تنعم بالهدوء والسلام، لا يستطيع الإنسان أن يستشعر السلام بداخله ما لم يتحمّل هو مسؤولية حياته ويكون واعياً لما يدور حوله ويعمل ما يتوجّب عليه أن يقوم به بجدّ وانتباه وتركيز، ويعزّز هذا السلام لديه ويعمّقه إذا ما أرفق ذلك بدعاء وتوكّل، فحينها يصعب على الخوف والقلق المزمن النفوذ بداخله، وهما من أشرس آفات السلام الداخلي.
فسيرة النبيّ الأكرم (ص) والأنبياء والصالحين والمصلحين على مرّ العصور تعطينا تصوّراً عميقاً للسلام الداخلي، فهم كانوا يمرّون بظروف صعبة تكاد تكون استثنائيّة لأغلبهم، إلا أنّهم وفي أصعب المواقف كانوا يعيشون السلام بداخلهم، وكانت قلوبهم مطمئنّة مستبشرة، ولا يكلّون ولا يملّون من العمل، ولم يكن الجزع والتوتّر والقلق جزءًا من حياتهم، ولأنّ ذلك السلام كان حقيقة وليس تصنّعاً، استطاعوا أن يلهموا من معهم به أيضاً.
إنّ السلام اسمٌ من أسماء الله الحسنى، وحين نستشعره بداخلنا، قد يكون لكلماتنا حين نلقي تحيّة السلام على الآخرين مفعولٌ مختلف، يساهم في نقل روح السلام منّا إليهم، ويكون لتلك التحيّة دورٌ في نشر السلام بشكل أوسع وأعمق، فالسلام الذي يرسله شخص يستشعره ويعيشه لا يشبه سلام مَن يفتقر إليه!!