المكي والمدني ، خطاب سائد وآخر متنحي

* ما أبدع أن يكون بين أيدينا فانوساً سحريّاً يبرق كل يوم بكنزٍ جديد، لا تنفد خزائنه ولا تبلى أسراره ومعارفه.

المسلمون بفضل الله قد أُوتوا هذا الفانوس و (جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ)، والله يقول أنّ (ما عندكم ينفد وما عند الله باقٍ)، فأخبر بأنّ ما عنده باق وأن بقاءه يعني حياته ودوامه جديداً، مثلاً: ( أحياء عند ربّهم يرزقون)، هم في عطاء وحياة دائمة، وهذا معنى (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ) أيْ دائم البركة والخير ومتواصلهما، كما أخبر الرسول عليه السلام بذلك، وعلينا قبال ذلك أن نتمسّك به تمسّك من ببيته ذلك الفانوس العجيب الذي ينبغي أن نعرفه ونتعرّف على استعماله حق معرفته لنستضيء به ونغْنَى (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ).

نبذة عن المكيّة والمدنيّة من السّور:

سنتطرّق -ما دمنا في سبيل التعرّف على فانوسنا وناموسنا- على أمر منهجيّ نعتقد أنّ الفهم المنقوص للإسلام قد أغفل ناحيته وأثره المنهجيّ، مع كونه قد أثبته وفصّل فيه ودوّنه، وهو الدور البالغ للمكّي والمدني من آيات كتاب الله.

يُدرك المسلمٍ أنّ السور المكيّة هي التي نزلت قبل هجرة الرسول (ص)، والمدنيّة تلك التي نزلت بعد هجرته الشريفة بدون اعتبار مكان نزولها، ولقد ظلّ الرسول الهادي (ص) 13 سنة يدعو الناس إلى عبادة الله الأحد في مكة، لذا غلبت على هذه الحقبة الآيات التي رسمت معالم التوحيد وأدلّته وسطّرت مواجهات الرسول الفكرية (ص) مع المشركين وردّ حججهم ونسْف أوهامهم، إضافةً إلى دعوة الآيات المؤمنين بالصبر والثبات ضد العنف الفكري أو الجسدي، وانطلقت في الدعوة إلى فتح مناخ عامّ لحرّية العقيدة والتعبير والحوار ونبذ الكبت والظلم، وإلى تأصيل التفكّر والتعقّل والنظر، فبرزت في آياتها قصصُ الأوّلين والسنن التاريخية في زوال الحضارات الرجعية الظالمة، وتناولتْ طبيعة النفس الإنسانية، وبيّنت مسيرة تطوّر الإنسانية في علومها وتشريعاتها، حتى بلغ عدد السور المكية 86 سورة أي ما يعادل ثلاثة أرباع القرآن.

وأما السور المدنيّة فجاءت في ظروف ولادة دولة مسلمة جديدة وتثبيت أركانها من جهة، وانبثاق التشريع المدني والعبادي بما تحتمله ملابسات الدولة الوليدة من إشكاليات داخلية قانونية واجتماعية، ومن صدامات عسكرية مع مناوئيها والمتربّصين بها من المشركين واليهود والدول من جهة أخرى، لذلك غلبت على هذه الحقبة التشريع لآيات تنظيم العلاقات والحدود، كأحكام القتال، والموقف من الكتابـيّين محاربين وغير محاربين، وعلاقات الأفراد بالله (الشعائر) ثمّ ببعضهم البعض، وعلاقتهم بكيان الدولة كمؤسّسات، وبغيرهم كعهود ومواثيق وحروب، وغيرها من أمور فاعلة وناظمة، وبلغ عدد السور المدنيّة 28 سورة نزلت على مدى العشر سنوات الأخيرة من حياة نبيّ الأمّة وقائدها(ص).

المائز بين الفريقين من السور:

أولاً : سمات المكيّة:

إنّ حقبة الدعوة لها ظروفها وظلالها، فالرسول (ص) يريد إثبات صدقه وصدق رسالته وتحرير العقول للنظر في أدلتها، فعلى ضوء هذا:

  • كل استدلال ساقه الله لتوحيده ونفي الآلهة وكونه إلهاً واحداً وأنه هو الرزاق والخالق، وذمّ الأوهام والآلهة والتفكير التقليدي والصنمية والتقديس الأبله وعدم التعقّل والنظر.

كقوله تعالى: (أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ)، وكذلك كل آية تدعوهم إلى نظر واستدلال على النظام الكوني والأنفسي المبدع ذي الشفرة الموحّدة، عبر النظر إلى مخلوقات الكون والتفكّر فيها كقوله تعالى: (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإبل كَيْفَ خُلِقَتْ).

  • كل شكّ في الوحي كمصدر معرفي حقّ إنما كان في مكة لأنها حقبة الكلام عن الشاكّين في الدعوة وفي صدق الرسول والرسالة وفي كون القرآن من عند الله سواء خاطب بها رسوله أم قومه أو من معه (إلاّ إذا كان المخاطب أهل الكتاب)، ويتبع ذلك نقل شكّ الأمم الخالية في دعاوي أنبيائهم مثل (بل هم في شكّ منها ..) أو (في مرية منه ..)… إلخ.
  • كل آيات شُبهة يوم الحساب وعبثيّة الوجود، كالتي تنعى حال الكافرين وعباداتهم وتنذرهم عدم إيمانهم بالبعث واليوم الآخر، والاستدلال على حتميّة ذلك كعقيدة عقلائيّة، وكيفية البعث والإعادة وإبطال استحالته كما يدّعي المشركون، ونقض الصبغة المادّية للوجود أو الدهريّة.
  • سور الأنبياء وقصصهم كلها مكية مثل الواضحة من عنوانها كيوسف .. هود .. يونس .. إبراهيم .. نوح .. الأنبياء .. مريم .. القصص، أو بمضمونها كالشعراء والنمل والأعراف والصافات وطه ويس والقمر، والتي تحكي قصص الأنبياء السابقين مع أقوامهم وتعرض مواجهة كل رسول مع قومه وردّهم عليه ثم إنزال العذاب على الكافرين إن صاروا باطشين ظالمين للمؤمنين، وكان الغرض التاريخي لهذه القصص تثبيت فؤاد الرسول (ص) وأصحابه بالدعم وبالأمل من جهة وإنذار قريش وعتاتها من جهة أخرى، ويلحق بهذه السور تلك السور الدالة على قصة قومٍ أهلكهم الله بسبب عنادهم وفسادهم كسبأ والأحقاف والحجر.
  • كل سورة يقسم فيها الله تعالى بأحد مخلوقاته العجيبة العظيمة ليوصلها بكلامه عن كتابه أو نبيّه، أو لتأصيل حقيقة ثابتة، كسورة التين والفجر والنجم والضحى والشمس والعصر واللّيل … (عدا “العاديات” فقد اختلف فيها)، بل والسور التي تُعظّم شأن القرآن بمستهلّ قسمها مثل ياسين والقرآن الحكيم، صادْ والقرآن ذي الذكر، قافْ والقرآن المجيد.
  • كل اتّهام لشخص الرسول (ص) أو لكتابه سبحانه بأي صيغة سواءً: افتراه، شاعر، أحاديث، أساطير الأوّلين، أو قام الله بنفيها عنه دفاعاً، أو تحدّى بالإتيان بمثل ما افتراه فمكيّة، عدا الآيات التي في البقرة وهي (وإن كنتم في ريب ممّا نزّلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله ..) لأنها تخاطب منافقي المدينة واليهود.
  • كل سورة فيها حوار بين الله والمشركين أو يأمر نبيّه الكريم بأيّ صيغة أن يقول كلاماً لهم سواء بصيغة (قُلْ) أو غيرها مثل (استفتهم) أو (اضرب لهم مثلاً)، بشرط أن يكون هناك حوار بينه وبين الكافرين أي ( قل لهم) وهم معه، وطبعاً ما كانوا معه إلا في مكّة حيث مقام الدعوة والإحتجاج لا مقام القتال أي لا كقوله تعالى : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ) (آل عمران:12) فهذه غير حواريّة، ولكن كمثل قوله تعالى : (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ) يونس، وكقوله: (فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ) الصافات، وكقوله تعالى: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ) النحل والكهف، ويجب هنا الاهتمام بالسياق ومن هو المُحاور فيه، إذ لا يدخل في السور المكيّة الحديث مع المؤمنين أو مع الكتابـيّين أو المنافقين، كقوله تعالى: (قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ) الأحزاب، أو قوله: (قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ ) الجمعة، وقوله : (قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ ) الحجرات.
  • كل سورة فيها ذكر إبليس باعتباره مصدراً للشكّ والوهم والكفر، أو فيها قصة عدم سجوده لآدم تشبيهاً بحال الكافرين الذين لا يريدون أن يعبد الله من حيث يريد بل من حيث يريدون هم فلا ينزلون عمّا هم فيه من غرورهم النفسي أو المعرفي، عدا سورة البقرة لأن المعنيين بالقصة هم أهل الكتاب من يهود المدينة وفيها تذكيرٌ لهم وتنقيح لما جاء عندهم في “سفر الخليقة والتكوين”.
  • غلب على الخطاب المكّي مع (الفكر المختلف، الآخر المغاير) نداءاته ب(يا أيها الناس).
  • فلسفة المعرفة وحقائق الإله والكون والإنسان والتاريخ والزمان والخلق والعلوم العليا في الإلهيات والطبيعيات والحيويّات جُلّها أو كلّها جاءت في مكّة.

ثانياً : سمات المدنيّة :

بمعرفة المكّيّات سهُل معرفة المدنيّات كما قال مولانا عليّ (ع) في وصفه للجاهل “قد فعلت” وكان بعد أن وصف العاقل بخلافه و”أنّه الذي يضع الشيء في موضعه”، لكنْ تتمّةً ومزيد بيان وتمييز نذكر النقاط التالية:

  • آيات الشعائر العبادية (قاموس العبادات): من صلاة وصوم وحجّ وزكاة وتوابع ذلك، سواءً أخذت بُعداً فرديّاً أو جماعيّاً.
  • آيات الأحكام والحدود (القاموس الحقوقي والقانوني): كالطلاق (12آية) والميراث، والحدود.. كالزنا وغيره، والسرقة والقتل بغير حق وأحكامها، وآيات الديْن والبيع، بل والبيْعة والخمس والصدقات واللعان والظهار والنذور والكفّارات والمعاملات القانونية … إلخ.
  • آيات الدفاع والردع (القاموس العسكري): وفيها سُوّغ القتال لدفع الظلم ورفع الاستبداد، على سبيل المثال : (أذن للذين يقاتلون …) – الحج، (وقاتلوا المشركين كافة)- التوبة، (قاتلوهم يعذبهم الله)- الأنفال، (أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد الفتح وقاتلوا)- الحديد ، (فضرب الرقاب) -محمد، (أخذوا وقتلوا تقتيلاً) – الأحزاب، وما يستتبع ذلك من مواضيع وتشريعات، من معاهدات قتال، قروح وهزيمة، الفرار وحكمه، أحكام صلاة الخوف، أخلاقيات الحرب، الاستعداد وشرائط النصر، المغازي والحروب، وجود شهداء، نصر وفتح، تمكين، فيْء، غنائم، غلّ، أسرى، حرب إعلامية وشحذ الصفوف، المثبّطين عن القتال أو المتخلفين أو القاعدين، التهديد للكافرين بالهزيمة والنكير … إذ هو ميدان جديد له موسوعته ومصطلحاته الجديدة التي للتوّ تعرّفوا عليها.
  • ذكر المنافقين (قاموس السلوك الاجتماعي): (وهي فصيل معارض (حزب) لكن بوسائل غير أخلاقيّة وغير مشروعة) فكل سورة بها ذكرهم هي مدنيّة حيث نشأ النفاق، وعملتْ دسائسهم في مجتمع الإيمان ومؤسّسات الصدق والنّزاهة والتعاون والإخاء، مثال: (ولو نشاء لأريناكهم) ، (وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ)، (في قلوبهم مرض)، (المرجفون) ، (الذين جاؤوا بالإفك) ، (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ)، (لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا)، (الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ) .. فكلّ هذه الأمور حدثت في المدينة.
  • مناداة المؤمنين بـ “يا أيها الذين آمنوا”(قاموس السلوك الاجتماعي): فقد ذكرت في القرآن 90 مرة كلها مدنيّة، إذ يعقب النداء أمرٌ أو توجيهٌ أخلاقي أو أو تربويّ وسلوكيّ، مثل: (يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظنّ)، (يا أيها الذين آمنوا لِمَ تقولون ما لا تفعلون)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ)، (يا أيها الذين أمنوا لا يسخر قوم من قوم).

* وكذلك كلّ آية خوطب فيها الرسول بـ ” يا أيّها النبي ” …..

  • ذكر (أهل الكتاب) (قاموس السلوك الاجتماعي): فأي كلام أو دعوة أو مجابهة معهم فمدنيّة، عدا آية (المدّثر) المكّية فهي تتكلّم عن أمر آخر عنهم كشهود صدق على الدعوة، وعدا النهي عن مجادلتهم في العنكبوت المكّية وهي(ولا تجادلوا أهل الكتاب إلاّ بالتي هي أحسن) حيث دعوة الرسول لهم ستتمّ في المدينة من موقع الاستقلال لا الارتهان، وضمن إطار التعايش واحترام قبول الآخر كندٍّ وكواقع مُسلّم به، أي وجود ملّتين أو ثلاث ملل أو أكثر ضمن عقيدة التوحيد، فتمّ ترحيل جانب الدعوة المحمّدية للملل الموّحدة (أهل الكتاب) للحقبة المدنية، لوجود ثوابت مشتركة كثيرة معها، إذ هي مُدرجةٌ ضمن الإسلام بإطاره العامّ، والمراد دعوتها أو حوارها لأجل تصحيح بعض المفاهيم لديها، وهذا لا ينفي قيام بعضهم بالمكايدة والظلم والتحالف مع أعداء النبيّ لاجتثاث دعوته ثمّ دولته (ص).

استفادات وفوارق أخرى:

إذا تكرّرت آيات بنفس السياق فهذا دليل على نزولها في ذات الحقبة وأن طابعها واحد، مثل:

  • الآيات الدالة على التوحيد ومقام الكتاب وأن الخالق هو الله سبحانه، كما في بدايات السور كسورة القصص، النمل، الشعراء، لقمان، السجدة، سبأ، فاطر، الصافات، الزمر، غافر، الشورى، الدخان، الجاثية، الأحقاف، الزخرف.
  • آيات المجادلة والحوار الفكرية مثل:( متى هذا الوعد إن كنتم صادقين) عباراتٌ يعمد لها المشركون حينما يملّون من دعوة الرسول ومناظراته لهم ( فهو كلام في مقام الدعوة والحوار) إذن هو و أشباهه يجب أن يكون مكيّاً، جاءت هذه 6 مرات في يونس، الأنبياء، سبأ، يس، الملك، وأشباهها كثير: (فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين) الأحقاف، الأعراف، هود – (فائت بآية إن كنت من الصادقين) الشعراء – (ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين) العنكبوت – (متى هذا الفتح إن كنتم صادقين) – السجدة.
  • (وما أرسلنا قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم) وأشباه هذه الآية التي تردّ على المطالب التعجيزية كأن يكون الرسول ملائكيًّا أو أنّ طريق وصول الحقائق لا بدّ من خوارق وتعطيل العقل وذائقة الفطرة السليمة، وقد جاءت في يوسف، النحل، الأنبياء، وكلّها مكّية.
  • نسف التعاليم الخادعة والعادات المغلوطة: كقتل الأولاد مثلاً الذي كان من دأب أهل مكة والمشركين فآياتها مكية، وكذلك النظرة للمرأة ووأد الفتاة، والتشريعات الباطلة والخرافية.
  • قد يستخرج (مكّيّتها أو مدنيّتها) من اسم السورة نفسها مثل :

– (المجادلة): المرأة التي تجادل في زوجها وتشتكي … فهي مدنيّة، إذ حدثت في وجود دولة وحاكم وأحوال الأسرة التي تنتظم ضمن قانون تشريعي، وهذا يبيّن حقّ إلهي للمرأة في التقاضي ويبيّن دورها في تعديل موازين العدل بالأساليب المشروعة وأحدها المجادلة والحوار.

– (الأحزاب) و(النصر) و(الفتح): تستدعي قتالاً، والأولى تشير إلى تحزّب القبائل لعدوان عسكري (اعتداء خارجي، وتحالفات) .. فمدنيّة.

– (البلد) : مكّيّة .. لأنّ البلد المُقسم به هو مكّة، الذي استُخدمت فيه وسائل الحصار والمقاطعة بعد الاستعاضة عن لغة الحوار بها، وفي السورة قيم إنسانية كالعتق وإطعام المساكين، وهي مآثر عربية لكنّها هُتكت في البلد الآمن لصالح نهجٍ استئصالي شرس.

– (الروم) : هزيمتهم أحزنت المؤمنين لأنّهم أهل دين توحيد سماوي وأفرحت المشركين لوثنيّتهم كالفرس فتبيّن عالمية دعوة التوحيد وتعاطف الملل التوحيدية (فضلاً أنّها سورة مشحونة بالمعارف في الكونيات والطبيعيات) ..فمكّية.

– (الفيل) و(قريش): تذكّر قريشاً بمنّة الله عليهم فالله يقف مع المظلوم ضدّ الجبروت والظلم الإنساني مهما تدرّع وتذرّع بالدّين .. فمكّيّة.

من الفهم الناقص إلى المقلوب:

بعد أنْ رأيْنا خصائص وسمات الخطابين لا سيّما الخطاب المكّي، ألا نشعر بالخطأ الذي وقعنا فيه طوال التاريخ بإلغائنا الحقبة المكّية من الوجود، واستصحبنا وبطريقة حادّة وأحياناً خاطئة الحقبة المدنية فقط وأصّلناها كاستيعاب شامل وكُلّي لمعنى الدين، مع أنّ الحقبة المكّية هي أصل الإسلام كدعوة توحيدية إنسانية علمية عالمية، أمّا قيام الدولة المدنية وبضمنها التشريعات فأحد ممكنات الدعوة وثمراتها لا أصلها، ونسيْنا أنّ النداء الإلهي قد توّج نبيّنا الأمّي “المكيّ” بتاج (وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ، وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)، في حين أنّ النبيّ الأمّي بمقامه “المدني” قد وسم بوسام (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ )، لكنّا أبيْنا إلاّ أنْ نصطبغ بالحقبة الثانية فقط بلا مبالاة لما قد نجترح من أخطاء أو نقدّم أو نؤخّر من أولويّات، ناهيك عن افتقادنا أيضاً وبالمرّة للغرسة المكّية وأعني بها “خُلُق -إنساني- عظيم”.

– بل والأخطر أنّ تغليب الحقبة المدنيّة قد فتح ثغرة دخول مفهوم السُنّة بالشكل الذي نراه اليوم (وصارتْ تعني المرويّات التي دُوّن معظمها بعد قرنيْن من الزمن ونُسبت للرسول “ص”)، وكيف اجتاحت هذه المرويّات القرآن وحكمتْه بها، مع أنّ الحقبة المكّية تكاد تكون خالية من “السُنّة!”، فتضخّم هذا المفهوم كمصدر معرفي وانبسط على كلّ المساحات وصار لا يمكن فهم حتّى الحقبة المدنيّة إلاّ به ووِفق منظاره بعد إلغاء حقبة مكّة وآياتها طبعاً لندرة وجود “سنّة قوليّة أو فعليّة!” فيها، ومن هذه الثغرة انطمّ وادي الإسلام بعلوم الشريعة وآراء الرجال الشارحة للسنّة والمصحّحة لها ومتواليات ذلك من تفريعات، حتّى انتهيْنا إلى تقديم كلام الجميع على كلام الله، وهجْر قرآنه المبين.

– ولمْ يعدْ غريباً بعدئذٍ، أن يشيع مفهوم نسخ آيات الدعوة والحوار والتعايش والتوادد بآيات القتال “والسيف” بعد أن أُسيء فهمها وفهم مسوّغها، وبهذا الإلغاء للحقبة المكّية من ذاكرتنا ومنهجيّتنا وتعاملنا، وانسلاخنا منها، أزلنا الصبغة الإنسانية والعالمية من الإسلام، ولبسناهُ مقلوباً مِن آخِره، وطوينا دعوات التفكّر والتعقّل والنظر والمسائلة في قضايا الكون والتاريخ والعقيدة والإنسان (المكّية)، أي نزعنا الجانب العلمي من الإسلام وشطبنا تفعيل ثلاثة أرباع القرآن هي مجموع السور المكّية، وتضخّم مفهوم الشريعة الإسلامية والجهاد على حساب عقيدة التوحيد ودين الإسلام ومثُله وأخلاقه ومعارفه.

– بل بهذا الإلغاء انتفى من ذهنيّتنا مفاهيم مِن مثل الحوار والتعايش وقبول الآخر المختلف، وصرْنا وصائيّين نريد أن ننسخ ونزيل جميع المعتقدات ونمتلك بنواصي كلّ تشريع و”أنّ الحكم لله” أيْ هو للمُفتين كمشرّعين وحُكّام!

– هذا الفهم المقلوب هو الذي يجعلنا في حساسيّة وصدام مع كلّ آخر سياسي أو ثقافي، هو الذي يأخذنا اليوم وبعد قرون مديدةٍ إلى نبذ التشريع المدني، ومناهضة التعدّدية، ونبز الديمقراطية، وعدم التسليم بمفردة المواطنة إلاّ تحت لواء عقائديّ أُحاديّ، أو ضمن الاضطرار وتكتيك المرحلة.

وليس أدلّ على لبسنا الإسلام مقلوباً إلاّ أن تُصغي لمسلم حرّ إنْ فكّر بصوتٍ مسموع أو خالف المألوف قوله “أخاف أن يُكفّروني”، فصارت لديْنا الأسلمة والتكفير صكوكاً تُعطى من جهة النّاس بدلَ أنْ يتوجّه المرء إلى قلبه فيما بينه وبين ربّه ليرى هل حقّاً هو كافرٌ أم لا، ثمّ لا يلتفت للعبيد ما دام هو في سلْمٍ مع ربّ العبيد وفي حصْنه.

– إنّ الارتهان بهذه الحقبة الثانية الأحاديّة (المدنيّة) هو الذي يصوغنا مُلزمين إلى تقسيم العالم إلى فسطاطيْن دار حرب ودار سلم، ودار إسلام ودار كفر، وإلى تقسيم الناس إلى كفّار وذمّّيين ومشركين ومنافقين ونصارى، بل وبزيادة المذاهب إلى تقسيمات لا أوّل لها ولا آخر من الفِرق غير الناجية، بل بشطر الإنسان إلى شطرين مسلم وكافر، فريق في الجنّة وفريق في الجحيم، ولْتُلْحقْ أبناء الكافر بأبيهم بلا أيّ سبب سوى صرامة التقسيم المعهود.

– فلنُحاورْ أنفسنا وبصراحة، ألا نشعر كمسلمين باغترابنا وانبتارنا عن الخطاب المكّي، ألسنا نائين جدّاً عن تمثّله معتقدين بأجنبيّته؟ بل ومتوقّعين وجود مآرب خفيّة فيمن أراد أنْ يُسوّق مثله؟ أليست هذه الحقيقة؟

ثُمّ لنتأمّل قارئنا الكريم، ألسْنا نحتمل أنّ الخطاب الإلهي المكّي هو الأليق للعالم كلّه، خطاب السماحة واليسر كان “يا أيّها النّاس”، والعالم اليوم كلّه بمثابة “مكّة” التي هي أمّ القرى، ولا يليق به إلاّ خطابٌ دعويّ علميّ أخلاقيّ عالميّ (في خصوص ما يتعلّق بالدين)، فمتى نقرأ الدين القيّم مِن أوّله؟

مراجعات

– أما آن لنا أن نتساءل الآن، من منّا الذي يأخذ إسلامه من العهد المكّي وآياته وأحداثه؟ لا أحد، مع علمنا أنّ الدولة النبويّة قد سُرقتْ وتحوّلت بعدئذٍ إلى ملكٍ عضوض على يد آل أميّة وآل العبّاس وشُوّهت معالمُها بما افتُري من أحاديث على رسول الله (ص)، إلاّ أنّا ما نزال نُصرّ أنّ هذا السبيل القائم الموصل لدولة المدينة الأولى هو سبيل المسلمين وهو الإسلام كلّه! وطرحنا القسم الأصل والأكبر عنه، والقرآن يصيح علينا من شقّه المهجور (كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ، الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ، فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ)!

– حين خاطب الله سبحانه نبيّه الكريم (ألمْ نشرحْ لك صدرك) وذلك في العهد المكّي فإنّما بشرْح دعوة الإسلام (أفمن شرح الله صدره للإسلام)، ولا يليق بمقام الدعوة والتبليغ غير ذلك، ولذلك سأل هذا الانشراح موسى في مقام الدعوة أيضاً (ربّ اشرحْ لي صدري)، فإذا رأينا انقباضاً في صدورنا وحرجاً فلأنّا ودّعنا روح دعوة الإسلام المنشرحة بالصدور، وأبقينا اشتراطات وإلزامات وطوارئ الحقبة الثانية التاريخية للمجتمع الإيماني “المدني” بكلّ أقضيته واستثناءاته، هذا فيما لو خلصتْ إلينا صحيحة، وقدّمناها على أنّها كلّ الإسلام، أزحنا انشراح الدعوة وخُلقها الرفيع لصالح عصبيّة وصدرٍ مختنق ضاجّ بكلّ مختلف أو مخالف، ووجه عابسٍ عن الأخذ والردّ والحوار والانفتاح والتجديد.

الخُلاصة:

– لو أنّا أصّلنا مرجعية الحقبتيْن في صياغة ثقافتنا وخطابنا لكان أقرب لترشيد وعينا واستقامة أمورنا وتثبيت شرعية وجودنا وخيرنا بين الأمم.

ثِقْ عزيزي القارئ أنّه ما لمْ نقم بمسائلة معرفية لمصادرنا التأسيسية ذاتها، فلن يتسنى لنا استرداد عافيتنا وفاعليتنا الحضارية.

– نحنُ نُسلّم أنّ ممّا ساعد على تغييب دوْر المكوّن المكّي في ذهنيّتنا هو توهّمنا أنّه كان خطاباً ظرفيّاً لمرحلة الضعف والاحتياج الأولى، أي أنّ ثلاثة أرباع القرآن تكتيك!، فالمفاهيم المكّية من الحوار، والصبغة الإنسانية، والإقناع، والمناظرة في الإله وفي فلسفة الوجود، والدعوة إلى التعايش، وحرّية الرأي والاعتقاد، والتسليم بالتعدّدية (لكم دينكم ولي ديني)، كلّ تلك تجلّيات أو إفرازات لحالة الضعف الرساليّة حينها! أمّا بعد التمكّن والعزّة والمنعة، فهذا كلّه تبدّل لصالح السيف والإلزام وعلوّ الإسلام مِنْ قتل مرتدّ وتحطيم أوثان وجزية وغيرها!

وهذه لعمري إشكالية عميقة تنخر في عقل المسلم، ويعسر جدّاً استئصالها، تجعله يعيش تناقضاً في عقيدته وشللاً في أقدس أموره، فينتج أن يكذّب القرآن بعضه بعضاً، وتصير قيم كلام الله المكّية ومبادئها تاريخيّةً ومنسوخة، ويصير بها أشرف الخلْق ومَنْ هو على خُلقٍ عظيم وعلى صراطٍ مستقيم (ص) انتهازياً ووصولياً، سبحانك ربّنا هذا بهتانٌ عظيم، أمّا عدم وعي المسلم لهذا التناقض فمأساةٌ ثانية مركّبة، في حين أنّ تخريجاته وتعليلاته وتعديلاته لهذا التناقض مأساةٌ ثالثة بل هي ضربته القاضية.

– إنّنا اليوم أحوج ما نكون لاستنباط خطابين، خطاباً (مكّياً) على مستوى العالم (النّاس) تكون فيه العلاقة قائمة على الحوار والتعايش وقبول الآخر وعدم الإلزام وليس خطاباً على أساس العقيدة، جامعه القضايا العلمية والمصير المشترك والدعوة إلى التوحيد وإيجاد فلسفة كونية تعطف بالناس على بعضها لتتعاون وتتسالم.

وخطاباً آخر على مستوى التشريع (المدني) وهذا يأخذ بُعديْن:

بعداً عقائدياً، وهو خطاب إيماني بين المؤمنين فيه من الإلزام ما تقتضيه قضايا العقيدة وشعائرها.

بعداً مدنياً: وفيه تأسيس العلاقات الاجتماعية ضمن رقعة جغرافية (الوطن) على قاعدة من المصالح الفطرية المشتركة والعدل وعدم الظلم بتشريعات إنسانية مؤطّرة بحدود الله التي في كتابه، عسى الله أن يُوفّق أمّتنا إلى مثله.

شارك بتعليقك

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني.

عصى آدم..الحقيقة دون قناع
  • معصية آدم، نموذج لمفردة في البناء المعرفي! وحلها سيعيد لإنساننا خارطة نفسه وهويته الضائعة وهدف وجوده
  • معرفة هذه الحقيقة صدمة تعيد الوعي، نعقد بها مصالحة بين التراث والمستقبل لنعيش لحظة الحاضر بيقظة أننا على جسر التحول الإنساني، الذي بدأ في الأرض بالإنسان الهمج ليختتم بالخليفة "الإنسان الإنسان"
مسخ الصورة..سرقة وتحريف تراث الأمة
  • أخذت الحركة الصهيونية على عاتقها غرس دولة لليهود في خاصرة الأمة فزوروا التاريخ العربي ونسبوه لليهود
  • اختلقوا لغة بسرقة إحدى اللهجات القبلية العربية البائدة وأسموها اللغة العبرية
  • أقحم الدين والتاريخ للسيطرة على عقول الناس ونقلت رحلات الأنبياء من مواقعها ليأسسو لاحتلال فلسطين فساهم هذا التزوير في مسخ صورة العربي والمسلم في الثقافة الغربية
مفاتيح القرآن و العقل
  • إذا كان كلام الله واحداً ودقيقاً، كيف حصل له مائة تفسير؟
  • ماذا لو كانت أمتنا تقرأه وتترجمه معكوساً، كلبسها إسلامها مقلوباً؟
  • أصحيح هذا "المجاز" و"التقديرات"،و"النسخ" و"التأويل" و"القراءات"؟
  • هل نحن أحرار في قراءة القرآن وتدبره أم على عقولنا أقفال؟
نداء السراة..اختطاف جغرافيا الأنبياء
  • ماذا يحدث عندما تغيب حضارة عريقة
  • هل تموت الحقيقة أم تتوارى عن الأنظار لتعود .. ولو بعد حين؟
  • هل تقبل بلاد وادي النيل بعودة حضارة القبط الغريبة؟
  • هل تقبل نجد بعودة موطن آباء الخليل إبراهيم وبنيه إسحاق ويعقوب؟
الخلق الأول..كما بدأكم تعودون
  • إن البشر الأوائل خرجوا قبل مئات آلاف السنين من "قوالب" الطين كباراً بالغين تماماً كالبعث
  • جاء آدم في مرحلة متأخرة جداً من سلالة أولئك البشر اللاواعي، فتم إعادة تخليقه في الجنة الأرضية ونفخ الروح فيه
  • آدم أبو الناس ليس هو آدم الرسول الذي أعقبه بمئات القرون
الأسطورة..توثيق حضاري
  • الأساطير وقائع أحداث حصلت إما من صنع الإنسان، أو من صنع الطبيعة، أو من صنع السماء
  • لكل اسطورة قيمة ودلالة وجوهراً وتكمن فيها أسرار ومعاني بحاجة إلى إدراك وفهم
  • من الضروري العودة إلى اللغة العربية القديمة بلهجاتها المختلفة لفك رموز الأساطير التي غيب الكثير من مرادها ومغازيها
التوحيد..عقيدة الأمة منذ آدم
  • لو أنا أعدنا قراءة تراثنا بتجرد لأدركنا حقيقة اليد الربانية التي امتدت لإعداة الانسان منذ خطواته الأولى على الأرض بما خطت له من الهدى
  • التوحيد منذ أن بدأ بآدم استمر في بنيه يخبو حيناً ويزهو حيناً آخر، ولكنه لم ينطفئ
بين آدمين..آدم الإنسان وآدم الرسول
  • هل هما (آدمان) أم (آدم) واحد؟
  • من هو (آدم الانسان) الأول الذي عصى؟
  • من (آدم الرسول) الذي لا يعصي؟
  • ماهي شريعة (عشتار) وارتباطها بسقوط آدم الأول حين قارب شجرة المعصية؟
طوفان نوح..بين الحقيقة و الأوهام
  • ما قاله رجال الدين والمفسرون أعاجيب لا يقبلها المنطق ولا العقل السليم في محاولتهم لإثبات عالمية الطوفان
  • استثمر المستنفعون من اليهود هذه القضية ليبتدعوا القضية السامية ويرجعوا نسبهم إلى سام بن نوح (ع)
  • قضية طوفان نوح (ع) لا تكشف التزوير اليهودي فحسب، بل تضع يدها على موضع الداء في ثقافة هذه الأمة