النبي (ص) وتصحيح التاريخ

تعتبر المرحلة التاريخية التي تواجد فيها  الرسول ( ص ) مرحلة مفصلية في تاريخ البشرية إذ اختفى بعدها اتصال السماء بالأرض, وعليه كان على الرسول ( ص ) صياغة أمة تقود البشرية معتمدة على مبادراتها وكان عليه أيضا أن يبين لهم معالم الهداية وأعلامها حين لا وحي يوحى ولا كتاب ينزّل بعد القرآن الكريم. مثل هذه الرؤية أدركها النبي تماما وكانت واضحة عنده حتى في أحلك الظروف, وهي ذاتها الرؤية التي أراها لأصحابه وهم محاصرون والأحزاب يسدّون الآفاق من حولهم, في أجواء رهيبة وصفها القرآن الكريم: (إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا  هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً), في هذه الظلمة الحالكة ينبّئهم بأنّهم سيغنمون أساور كسرى, ملك إمبراطورية فارس العظمى في ذلك الزمان. وما هذه الحادثة إلا معلم واحدٌ من جملة من المعالم التي نستدل بها على وضوح الرؤية عند رسول الله ( ص ) والتي ترجمها إلى عمل جبار متكامل بهدف تأسيس النهضة الحضارية المنشودة للأمة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. وحيث أن للتاريخ اليد الطولى في خلق الواقع الجديد والمستقبل المنشود ، كان لزاما على الرسالة الإسلامية وحاملها مراجعة التاريخ مراجعة جذرية لكشف الزيف وتعديل التحريف وإرجاع الكلم المحرف عن مواضعه, والذي حوّل العزّ إلى ذل, والحرّية إلى عبودية, وعبادة الواحد الأحد إلى الأهواء والأوثان وتجيير الدين في صالح الأشرار والحفاظ على مصالحهم كما قال الإمام علي (ع) في ذلك: “إنّ   هذا الدين كان أسيراً في أيدي الأشرار, يعمل فيه بالهوى ويطلب به الدنيا.

قام الكهنة بنسبة القبائح إلى أنبياء الله لتسويغ امتهانهم المفسد بمثلّث ( المال ـــ السلطة ـــ الجنس)

فقبل بعثة النبي (ص) انتقل الحريف إلى كل مفاصل الدين والإيمان, من المعارف العليا التي تشكل بدء الخلق الإنسان وأخبار السماء, إلى مسخ تاريخ عظماء الأمّة من رسل وأنبياء ومصلحين, إلى تحريف الجغرافيا وتمليك الأرض من لا يملكها, ورفع الوضيع ووضع الرفيع. ولقد بيّن القرآن الكريم التشويه الذي لحق بتاريخ الدين ممن اؤتمنوا على كتابته من أهل الكتاب ونقله إلى الأجيال اللاحقة في آيات عدة حسب تنوع تحريفهم وتفننهم فيه كما في الآتي:( مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ ), و(وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ), بالإضافة إلى العديد من الآيات التي تنقل التفاصيل الحقيقية للأحداث الماضية ضمن عملية دقيقة لرسم صورة المستقبل للأمة.

فما كان من النبّي(ص) إلا أن صدع بالأمر حيث اختار المدخل الصدق ببيان الحقيقة الناصعة بلا مواربة ففضح التحريف وشنّ الحرب عليه بلا هوادة, والآيات تتنزّل عليه داعمة له في تبيين الحقّ وإظهار ما خفي منه, وجعل البديل الصحيح الذي يبّدل ذلّ الأمة عزّا, وضعفها قوّة, وفسادها صلاحاً, قائلا: (وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ  إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ) ( الإسراء 80 – 81 ).

وسنلقي الضوء اختصاراً على أربعة مواطن تصحيحيّة كبرى في سيرة النبي (ص)؛ أولها عقائدية وهي تحويل عبادة الأصنام إلى عبادة الله الأحد, والثانية اقتصادية بمحاربة الربا, والثالثة اجتماعية بوضع النظام العادل, والأخيرة معرفيّة بتصحيح مفهوم (الأمة) التاريخيّ والنظر إلى الأجناس.

أولاً: عبادة الأصنام

القرآن الكريم يؤكّد بأن كثيراً من الانحرافات العقائدية, تُسبّبها الطبقة العليا من المجتمع “الملأ”, “المترفون”، ” المستكبرون”، وعبادة الأصنام لا تخرج من السياق، فلم يعرف المجتمع الإنساني أنّ المترفين حرصوا على الدفاع عن الأديان والإيمان, وما دفاعهم الشرس عن الأصنام وعبادتها إلّا دفاع عن الذّات والنفعيّة، إذ أنّ السلطة والنفوذ مرتبطان ببقائها, فالأوثان جزءٌ من نظام سياسي اقتصادي, وآلة سيطرةٍ يندكّ الفقراء والطبقات الدنيا والمستغفلون بين تروسها, فالسلطة السياسيّة تتّكئ ولابدّ على شرعة دينيّة, وسدانة الأصنام توفّر ذلك, فهي رموز لأحلاف القبائل الوافدة على مكّة, ويعظم الصنم ويجد له موقعاً في الصدارة والمركز من مكّة بعظم القبيلة وقوّة نفوذها, كما يصغر وينأى بصغر القبيلة وقلّة خطرها, كماركات الشركات هذه الأيّام ومساحة احتلالها للمواقع الدعائيّة وواجهات التأثير, فخدمة ثلاثمائة وستّين صنماً بالنسبة لقريش تعني ولاء نفس العدد من القبائل تتوافد من الجزيرة العربيّة وتجلب معها المنافع والتجارات, عبرّ القرآن عن هذا بقوله (وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) (العنكبوت:25), فحينما ارتبطت مصالحهم بهذه الانحرافات, كان تزيين هذا الانحراف وتكريسه يستحقّ بذل الأموال والمنافحة لمردوده المضاعف, عدا عن الملحقات (الدينيّة) الجائرة الممثّلة لاحتكار الدين, التي تستغلّ الموسم في المنافع الشخصية لدرجة أنّهم منعوا الطواف إلا بملابس تُشترى منهم, فصار الفقراء يطوفون بالبيت عراةً مضطرين.

لقد استعاضوا بالأصنام عن عبادة الواحد القهار, لأنّ بغيتهم استعباد الناس بها، فليست هي مظهراً فكريّاً حرّاً بل مظهر استعباد واستغلال واحتكار للسلطة, لذلك كان شعار (لا إله إلا الله) خطيراً تلك الأيّام لأنّه يقوّض مصالح الطغمة المستنفعة ويُحرّر الفقراء من سياسات الظلم ورسوم الاحتكار. ولهذا قام النبّي (ص) بعدئذٍ بدكّ هذه الأصنام, لرفع الطغيان والفساد, وأرسل أصحابه حوالي مكّة ليحطموها لأنّ (توحيد الله) يعني استعادة الحرية والمساواة ورجوع “مكّة” ذات منافع للناس كافّة؛ العاكف فيها والباد, بلا ظلم ولا إلحاد. وكلّ هذا تجد له اليوم شبيهاً في الدين, والسياسة, والاقتصاد, لو فتّحت عينيْك!

ثانياً: الربا

نشأ الربا في عملية طويلة من التشريع والتشريع المضادّ من قبَل اليهود الذين قال الله سبحانه وتعالى عنهم: (وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ) (النساء:161)، وذلك في محاولة السيطرة على المفاصل الحيويّة للقبائل العربية وتحويل النّاس عبيداً لهم لقولهم الباطل وفق اعتقادٍ مادّيٍّ منحرف: ( لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ ) (آل عمران:75)، وذلك كجزء من عملية شاملة تقضي بالتحكّم في مداخل التجمّعات السكنية من القرى والأمصار والتحكّم في صادرات وواردات تلك المناطق وفرض الرسوم والتحكّم في الأسعار وفرض القوانين الجائرة التي تحتكر التجارة ومعايش الناس. فهم عندما قدموا يثرب سكنوا أطرافها وقطعوا سبيل التجارة عن أهلها إلّا عن طريقهم وحسب شروطهم ويقومون بعمليات المعارضة بدلاً عنهم ويجمعون إليهم أفخر أنواع التمور وأجودها ثمّ يعيدون مبادلتها بما هو دونه صاعاً بصاعين أو أكثر وقد فشت عدوى هذه السنن إلى المجتمع وأصبحت قوانين معمولاً بها إلى عهد الرسول (ص)؛ وقد رُوي أنّ النبيّ (ص) بعث أخا بني عدي الأنصاري فاستعمله على خيبر, فقدم بتمرٍ جنيب (جيّد), فقال رسول الله (ص): (أكلّ تمر خيبر هكذا؟ قال: لا والله يا رسول الله, إنا لنشتري الصاع بالصاعين من الجمع (تمر خليط), فقال النبيّ (ص): ( لا تفعلوا ولكن مثلاً بمثل أو بيعوا هذا واشتروا بثمنه من هذا, وكذلك الميزان). وهذا ما كان يسمى بربا الفضل, ومؤداه أن فئة تحتكر السلع وتتحكّم فيها ويبقى البقيّة من المجتمع أجراء لا خيار لهم, وتستمرّ هذه الحالة لأجيال متعاقبة تفصل المجتمع إلى طبقتين؛ طبقة مستكبرة مستأثرة وأخرى كادحة مستعبدة. أما النوع الآخر من الربا وهو ربا النسيئة وهو الدين بزيادة ومضاعفتها كلّ عام، فيستعبد به الأفراد ويثقلّ كاهلهم بما لا طاقة لهم بدفعه. وبهذا يصيرّ الحر أسيراً بيد الدائن ذليلا قباله لا يرفع إليه طرفه, فهو لم يتديّن إلا لحاجة ماسة, ولم يؤجّل الدفع إلا لعدم القدرة, فأنى له دفع الزيادة والزيادة تزداد أضعافا مضاعفة. فكم من حرّ شريف استُرقّ وذاق طعم الذلّ من هذا الباب, وكم من أبناء العزّ أصبحوا أجراء أو عبيدًا في أيدي الجشعين, وكم من حرائر بنات دُسّت تحت التراب لئلا ينتزعهنّ أربابُ الديون من أبيهم المدان المعدم, فُيصيّرنَ سلعاً وبِغاءً للقوافل والتجّار (وكلّ هذا عاد الآن بالمفسدين أنفسهم, عبر البغاء البشري المعولم, وتجارة الرقيق الأبيض).

فليس غريباً على حامل الرسالة (ص) ومعزّ الأمة بعد ذلّها أن ينادي فيها يوم فتح مكة : ( وكلّ ربا في الجاهلية موضع تحت قدمي هاتين), وذلك بعد أن صدح القرآن الكريم بإنكار الربا وبيان تأسيس اليهود لهذه الممارسة الظالمة, والإذن بالحرب على من لم يذر ما بقي من الربا من المؤمنين, وراح جاهداً يزيل آثاره المقيتة على إنسانيّة الإنسان والحطّ من كرامته, وآثار ديونه المجحفة (كالتي يُستعبد بها الدول الآن من البنوك الدوليّة والدول المانحة!)، ففكَّ دين الغارمين ودعا إليه, ودعا بنظرة المدين إلى ميسرته, وحضّ على القرض الحسن، وفكّ رقاب المستعبدين في كلّ بادرة وفرصة مناسبة وفي  كلّ كفّارة شعيرة, ودعا إليها, ومنع إجبار البنات والجواري على البغاء, فمنع بذلك علّة سرقتهنّ واستعبادهنّ, وأكرم المرأة وأعطاها حقوقها لئلاّ تُستذلّ بالحاجة, وشدّد العقوبة على الذين يسرقون الناس فتُعوزهم الحاجة أو يخطفونهم لبيعهم في أسواق النخاسة وجعل حدّ الحرابة حدّهم بتقطيع أوصالهم, وحارب الفقر وقال ليس بمسلم من بات شبعاناً وجاره جائع, وأمر بالصوم وبالتكافل والصدقات, وأوجد من مال الأغنياء والغنائم والأرباح والغلاّت أسهماً وفروضاً تعود على الفقراء والمساكين والغارمين لئلاّ تستعبدهم الحاجة, ومنع الخمر والميسر لأنّهما صناعة يهوديّة وبوّابتا الفقر والاستلاف ثمّ الاستعباد بالربا وبيْع العرض والبنات, وأخبر أنّ الذي يكذّب بالدين هو ذلك الذي يدعّ اليتيم ولا يحضّ على طعام المسكين, وهو كلّ من يستأثر ويمنع المعونة.

ثالثاً: غياب النظام العادل

كان التفرّق وحميّة الجاهليّة من أبرز سمات المجتمع في أمّ القرى وما حولها, حتى بات الحفاظ على نظام العلاقات الأخويّة الجديد من المهمّات الصعبة جدًّا, وقد كان (ص) بالمرصاد لأي عودة للتفرق والتشتت والعدوان والآيات تتنزل للمحافظة على روح الأخوة كما في قوله تعالى: (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً

وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (آل عمران 103). فالمعروف أن مكّة وما حولها كانت دولة تّجار ولم تكن واقعة تحت سلطة عظمى مسيطرة في تلك الفترة كالفرس والروم والأحباش, وبذلك لم تكن خاضعة لنظام حكم ذات مرجعية واحدة تفصل بين المختلفين ويعطي صاحب الحقّ حقّه أو شيء من ذلك, وكان هناك بقية أعراف اجتماعية مّما تركها الأولون من الحنفاء, وكان لدار الندوة دورٌ مهمٌّ في تنظيم وتيسير بعض الشئون المتعلّقة بنظم البيت والحج, وبالتجارة, وبالعلاقات بين القبائل من العهود والأحلاف وغيرها, ولكن كل هذا لم يكن كافياً لإرجاع الحقوق والردع عن الظلم والاعتداء, فقد روي أن إعرابيّاً دخل مع بداية الدعوة مكة والنبيّ (ص) يؤذى, فأخذ ينادي في الناس: من يرجع لي مالي من أبي جهل؟ فقالوا ساخرين: لا يقدر أحدٌ إلّا هذا! وكان النبي (ص) حينها يصلي في الحرم، فلما فرغ أتاه الإعرابيّ وقال له: يزعم هؤلاء أنك تقدر أن تأتيني بمالي, قال (ص): إذن قم معي, فطرق الباب على أبي جهل وهو غاضب, فخرج إليه وسأله: أأخذت من الرجل مالاً؟ قال أبو جهل: نعم, قال: ردّ للرجل ماله, ففزع أبو جهل فدخل ثم عاد ومعه المال فأرجعه. إذن بهذه القيم الزائفة الجاهلية صار مآل الأمّة إلى الشقاق وتحول المجتمع إلى بيئة خصبة لزرع الفتن, وترك العنان أمام الهوى لا يوقفه إلّا قوّة النظام, فقد شارفت شفا حفرة من النار. ففي ظلّ اللانظام, يقوم الظلم على قدم وساق, وتهتك الأعراض وتسفك الدماء, وهذا ما كان, وبرزت ثارات أُضيفت مع الدعوة الجديدة ومع وقوع المعارك وسقوط القتلى من الطرفين.

ولما أسس الرسول (ص) دولة المدينة, أسّس لها نظاماً لدفع المظالم وإرجاع الحقوق وإقامة القسط والعدل وبسطه على الجميع, وحين الفتح أعلن نهاية عهد الظلم والثأر والثأر المضاد قائلاً: (وإنّ دماء الجاهلية موضوعة, وإنّ أوّل دم نبدأ به دم عامر بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب. ألا إنّ كلّ مأثرةٍ كانت في الجاهلية, ودمٍ, تحت قدمي هاتين … ). حيث أبطل (ص) المطالبة بدم عامر بن ربيعة وهو ابن عمه, والذي قتلته في الجاهلية بنو هذيل ليكون بذلك تأسيسًا جديدا لا محاباة فيها لأحد حريّاً بأن تتأسّى به الدول بعد تبدّل أنظمتها البائدة, لتزرع في النفوس السلام.

رابعا: نسب الأمة وتاريخها

ثبّت اليهود بمدوّنتهم التوراتيّة النسب العالي لأنفسهم, ونفي الآخرين (الأغيار) فأفنوا الجميع بخرافة عالميّة طوفان نوح! وأصّلوا للأعراق دونهم في المنازل الدنيا بتلفيقهم فرية على نوح: ( ملعون “كنعان”, عبد العبيد يكون لإخوته, وقال: مبارك الرب إله “سام”، وليكن كنعان عبداً لهم .. ) (تكوين: إصحاح9), وقام الكهنة بنسبة القبائح إلى أنبياء الله لتسويغ امتهانهم المفسد بمثلّث ( المال ــ السلطة ـــ الجنس ), فلم يُنزّهوهم (ع) عن شرب الخمور ولا ارتكاب الزنا ولا جشع تكديس الأموال وبسط السلطان بالقهر, ولا اتّخاذ القينات والسرائر والعبيد, ولا غزو القبائل وإبادتها واسترقاقها وسرقة دوابّها, وعندما وجدوا العرب تتفاخر بمآثر إبراهيم (ع) سرقوا هذا الشرف واحتكروه لأنفسهم, ونزل الكتاب مبيّنا: ( مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) (آل عمران: 67) و (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَٰذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا ) ( آل عمران: 68 ).

ولتصحيح هذا التاريخ وتعديل هذا التحريف ذكر الرسول (ص) جميع الأنبياء كأخوة له, فيقول أخي يونس, وأخي هود وغيرهم, وجاء القرآن ليفضح اليهود بأنهم قتلة الأنبياء مبايناً بين أفعالهم المشينة وبين طهارة هؤلاء الصالحين, وكيف أنهم جمعوا إليهم خبائث المجرمين من أعداء هذه الشجرة الطيّبة. ومن جهة ثانية نسب القرآن الكريم الأمة إلى إبراهيم الخليل قائلاً: (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ) فالتوحيد سمة الأمة على طول الخط, وما الشرك إلا درن طارئ عصف بالأمّة بقوّة الطاغوت وانهيار المناعة والحاجة, فأمّة إبراهيم (ع) ليست أمّة اليهود, وليست أمّة قوميّة, بل ولا دينيّة مستأثرة, بل هي أمّة أتباع الأنبياء جميعاً, هي أمّة الناس التي فطرها الله على توحيده لو كُشف عنهم وتحرّروا أيضاً من طغيان الكُهّان صُنّاع الدين وكُتّاب الشريعة بأيديهم ويقولون هو من عند الله, وتحرّروا أيضاً من طاغوت التجّار الساسة, وقبال العقليّة القبليّة واليهوديّة التي تُعلي بنفسها فوق الشعوب وتميّز عنصرها ومعتنقها, أخبر القرآن أنّ ( الناس أمّة واحدة ) ، وليس لأحد مع الله قرابة ولا نسبٌ, فلا نبيّ قوم هو ابنه ولا الملائكة المعبودون افتراءاً هم بناتُه, وليس اليهود أبناء الله وأحبّاءه, كما تريد ( الساميّة الحديثة المخترعة أن تُؤصّلة بسطوة منظمة الأمم ), فالله سبحانه للجميع ( ربّ العالمين) و ( إله العالمين), و( ربّ الناس, وملك الناس, إله الناس ), وليس إله اليهود فحسب, ولا ربّ العرب دون العجم, بل ( كلّ الناس لآدم ) و ( لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود ) وكلّ الناس ( من ذكرٍ وأنثى ) وغايتهم ( لتعارفوا) لا ليتمايزوا ويتفاضلوا ويتصارعوا.

فهذه أربعة محاور اعوجاج من كثيرٍ غيرها, أقامها النبيّ الخاتم العظيم, ليصلح ما فسد من الدين ومن اجتماع الناس ومن عقولهم, وليرسي قواعد الصلاح, ويقيم بنيان الأمة, ليسّع فيها بلوغ الإنسان إلى كماله المأمول. وحينما نراجع حال الأمة اليوم, نجدها قريباً ممّا كانت عليه قبل بعثة نبيّها (ص) في تفرّقها وتشتّتها وضعفها, ودخول التحريف والتزوير إلى جميع مفاصل تاريخها, وصناعة الجهل وتفشيه في أوساطها, وسيطرة نُظم الصهيونيّة الحديثة والأعداء والمستبدين عليها وعلى شريانات حياتها, وانطفاء جذوة القيم الإنسانية الأصلية بسبب البرامج المضادّة التي تحارب القيم من منافذ السوق والثقافة والإعلام.

( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً ) ( الأحزاب: 21 )

شارك بتعليقك

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني.

عصى آدم..الحقيقة دون قناع
  • معصية آدم، نموذج لمفردة في البناء المعرفي! وحلها سيعيد لإنساننا خارطة نفسه وهويته الضائعة وهدف وجوده
  • معرفة هذه الحقيقة صدمة تعيد الوعي، نعقد بها مصالحة بين التراث والمستقبل لنعيش لحظة الحاضر بيقظة أننا على جسر التحول الإنساني، الذي بدأ في الأرض بالإنسان الهمج ليختتم بالخليفة "الإنسان الإنسان"
مسخ الصورة..سرقة وتحريف تراث الأمة
  • أخذت الحركة الصهيونية على عاتقها غرس دولة لليهود في خاصرة الأمة فزوروا التاريخ العربي ونسبوه لليهود
  • اختلقوا لغة بسرقة إحدى اللهجات القبلية العربية البائدة وأسموها اللغة العبرية
  • أقحم الدين والتاريخ للسيطرة على عقول الناس ونقلت رحلات الأنبياء من مواقعها ليأسسو لاحتلال فلسطين فساهم هذا التزوير في مسخ صورة العربي والمسلم في الثقافة الغربية
مفاتيح القرآن و العقل
  • إذا كان كلام الله واحداً ودقيقاً، كيف حصل له مائة تفسير؟
  • ماذا لو كانت أمتنا تقرأه وتترجمه معكوساً، كلبسها إسلامها مقلوباً؟
  • أصحيح هذا "المجاز" و"التقديرات"،و"النسخ" و"التأويل" و"القراءات"؟
  • هل نحن أحرار في قراءة القرآن وتدبره أم على عقولنا أقفال؟
نداء السراة..اختطاف جغرافيا الأنبياء
  • ماذا يحدث عندما تغيب حضارة عريقة
  • هل تموت الحقيقة أم تتوارى عن الأنظار لتعود .. ولو بعد حين؟
  • هل تقبل بلاد وادي النيل بعودة حضارة القبط الغريبة؟
  • هل تقبل نجد بعودة موطن آباء الخليل إبراهيم وبنيه إسحاق ويعقوب؟
الخلق الأول..كما بدأكم تعودون
  • إن البشر الأوائل خرجوا قبل مئات آلاف السنين من "قوالب" الطين كباراً بالغين تماماً كالبعث
  • جاء آدم في مرحلة متأخرة جداً من سلالة أولئك البشر اللاواعي، فتم إعادة تخليقه في الجنة الأرضية ونفخ الروح فيه
  • آدم أبو الناس ليس هو آدم الرسول الذي أعقبه بمئات القرون
الأسطورة..توثيق حضاري
  • الأساطير وقائع أحداث حصلت إما من صنع الإنسان، أو من صنع الطبيعة، أو من صنع السماء
  • لكل اسطورة قيمة ودلالة وجوهراً وتكمن فيها أسرار ومعاني بحاجة إلى إدراك وفهم
  • من الضروري العودة إلى اللغة العربية القديمة بلهجاتها المختلفة لفك رموز الأساطير التي غيب الكثير من مرادها ومغازيها
التوحيد..عقيدة الأمة منذ آدم
  • لو أنا أعدنا قراءة تراثنا بتجرد لأدركنا حقيقة اليد الربانية التي امتدت لإعداة الانسان منذ خطواته الأولى على الأرض بما خطت له من الهدى
  • التوحيد منذ أن بدأ بآدم استمر في بنيه يخبو حيناً ويزهو حيناً آخر، ولكنه لم ينطفئ
بين آدمين..آدم الإنسان وآدم الرسول
  • هل هما (آدمان) أم (آدم) واحد؟
  • من هو (آدم الانسان) الأول الذي عصى؟
  • من (آدم الرسول) الذي لا يعصي؟
  • ماهي شريعة (عشتار) وارتباطها بسقوط آدم الأول حين قارب شجرة المعصية؟
طوفان نوح..بين الحقيقة و الأوهام
  • ما قاله رجال الدين والمفسرون أعاجيب لا يقبلها المنطق ولا العقل السليم في محاولتهم لإثبات عالمية الطوفان
  • استثمر المستنفعون من اليهود هذه القضية ليبتدعوا القضية السامية ويرجعوا نسبهم إلى سام بن نوح (ع)
  • قضية طوفان نوح (ع) لا تكشف التزوير اليهودي فحسب، بل تضع يدها على موضع الداء في ثقافة هذه الأمة