الوعي ماء حياة الروح

تأمّلت المعادلة الكيميائية التي نعرفها جميعاً؛ أن الماء يتكوّن من اندماج نسب دقيقة من غازيّ الهيدروجين والأكسجين، فأما الأول فغاز شديد الاشتعال، وأما الثاني فوقود النار ولا تتمّ إلا بوجوده، ورغم ذلك فإن الماء لا يحترق، بل يُستخدم لإطفاء النار! ما يعني أنه يمكن المزاوجة والدمج بين عناصر طبيعية يبدو بينها تضارب أو (عداء) – إن صحّ التعبير – لإنتاج عنصر آخر لا يحمل صفات أيٍّ من العنصرين المكوّنَين له، وفي حالة الماء (الخاصة) أنتج هذا الدمج (الحكيم) مادّة حياة الأشياء كلّها “وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ”.

السنن الاجتماعية وسنن التاريخ كقوانين الكيمياء والفيزياء كلّها قوانين كونيّة صارمة تمضي كحدّ السيف ولا تحابي أحداً، مع فارق أن قوانين الكيمياء والفيزياء يمكن التحكّم بمختلف عناصرها ومتغيّراتها ومن ثمّ الإحاطة بتفاصيلها في المختبرات العلمية، بينما قوانين التاريخ والاجتماع يصعب رصد كل متغيّراتها، ويستحيل التحكّم فيها لتشعّبها، ولأن (الإنسان) عنصرها الأهم، و(النفس البشرية) مادّتها الشديدة التعقيد، وبالتالي فمحاولة كتابة قوانينها الحتمية كما تُكتب تركيبة العناصر الكيميائية المختلفة أو معادلات الفيزياء من الصعوبة بمكان.

لهذه الأسباب وغيرها بقيت إدارة النفوس ورقيّها مناطة بأصحابها ليختار كل امرئ (المزيج) المناسب من العقائد والأفكار فيخلطها ليتمخّض منه (خلقاً) آخر يعيش في سلام مع نفسه ومع من حوله ويحمل في ذاته مادّة إصلاح العالم، وأداته الأولى في رحلة العمر هذه (الوعي) الذي اختلفوا على تعريفه بين من يرى أنه أشبه بحال مخمور خرج من سكره فذهل للآثار السلبية التي نجمت عن غياب (عقله) وقرّر أن لا يعود لمثلها أبداً، ومن يرى أنه كحال من استيقظ من نوم عميق خسر من جرّائه الكثير وعليه أن يعوّض ما فقده حال (غفوته)، وقد يكون كلا التشبيهين صحيحاً بالنظر إلى درجة غياب الوعي التي يمرّ بها الأفراد والمجتمعات وحالة اليقظة التي تخلفها، فرُبّ نائم تيقّظ ولكنه بقي بين النوم واليقظة فما نفعته صحوته شيئاً، وربّ مخمور عاد إليه رشده فلم يفارقه أبداً، فتحوّل من حال إلى حال.

يُذكر أن طفلاً ضرب سيارة أحد الأثرياء بحجر كبير، فنزل صاحب السيارة ليرى الضرر الذي أصاب سيارته وليعاقب الفاعل، فوجد طفلاً خائفاً يقف في الزاوية فعنّفه وهدّده بأنه سيُعاقبه على غلطته الشنيعة تلك وسيغرّمه تكاليف الضرر الذي أصاب السيارة، فاعتذر له الطفل وقال أنه كان يحاول أن يلفت انتباه أي شخص في الشارع ليساعده على إخراج أخيه المعاق الذي سقط في حفرة نتيجة اختلال توازن كرسيه المتحرّك، وعندما يئس من أن يلتفت إليه أحد لجأ إلى هذه الطريقة .. هنا تأثر الرجل الثري كثيراً لحالة الطفل، فطمأنه بأنه لن يطالبه بشيء، وأخرج أخاه المعاق من الحفرة، وتعمّد أن لا يصلح الضرر الذي أصاب سيارته لكي يتذكّر الحادثة التي أخرجته من حالة (اللاوعي) بالآخر وحاجته إلى حالة (التعاطف) معه والرحمة به.

بممارسة الوعي لا يتغيّر الفرد فحسب بل يسري التغيير لكلّ ما حوله، فتتحوّل الظلمة إلى نور، والجهل علماً، وينقلب الشرّ خيراً، وتتبدّد المخاوف، ويتحرّر العقل، وتتباعد الجدران المحيطة بالعقل، والقيود المعيقة للحركة، فكلما ازداد الوعي كبر مجال الحركة، وكثر العطاء، وطاب العيش، وهنأ البال، لأنه مزج بين معطيات عالمي الروح والمادّة بنسب حكيمة فلا يرى في العطاء حرمانا، بل يرى في بعض الحرمان سعادة، وبالوعي لا يعود التدين طقوساً وشعائر، ولا الإيمان مظاهر ومواعظ، وربما اكتسب الواعون مهابة في محيطهم وبثّوا يقظة فيمن حولهم بحيث يصبحون مصدر إزعاج وقلق وتهديد لمن يريد للناس أن يبقوا في حالة خدر وسكر وسبات عميق.

وقد يعيش الإنسان الواعي نفسه حالة ذهنية يقظة تكون مصدر إزعاج له كذلك، لأنه يمارس عملية معالجة وتصنيف وتحليل وتفكيك وإعادة ربط لكل ما يصل إليه من معلومات من خلال منافذه المفتوحة على العالم الخارجي – حواسّه الخمس – وتلك التي تطلّ على باطنه – عقله وقلبه – فهو في حالة تفكير دائم، يربط القديم بالجديد، والتاريخ بالجغرافيا، ويقارن بين الماضي والحاضر، ويوظّف ذلك كلّه ليرى الأمور على حقيقتها، فلا يدع نفسه تخادعه؛ يقف لها بالمرصاد، ويتّهمها، ثم يقومّها، وهكذا في حركة تصاعدية دائبة لفهم الحياة والانخراط فيها بتطبيق قواعد الوعي الأعلى التي لا تُعلَّم بل تمارس باستمرار حتى يتعرّف الإنسان على أفضل حالات الوعي التي يمرّ بها ومعطياتها ليمزج – بوعيه – بين عناصر كيمياء حياته، فتتواءم الروح مع النفس ليصل إلى ماء حياته.

شارك بتعليقك

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني.

عصى آدم..الحقيقة دون قناع
  • معصية آدم، نموذج لمفردة في البناء المعرفي! وحلها سيعيد لإنساننا خارطة نفسه وهويته الضائعة وهدف وجوده
  • معرفة هذه الحقيقة صدمة تعيد الوعي، نعقد بها مصالحة بين التراث والمستقبل لنعيش لحظة الحاضر بيقظة أننا على جسر التحول الإنساني، الذي بدأ في الأرض بالإنسان الهمج ليختتم بالخليفة "الإنسان الإنسان"
مسخ الصورة..سرقة وتحريف تراث الأمة
  • أخذت الحركة الصهيونية على عاتقها غرس دولة لليهود في خاصرة الأمة فزوروا التاريخ العربي ونسبوه لليهود
  • اختلقوا لغة بسرقة إحدى اللهجات القبلية العربية البائدة وأسموها اللغة العبرية
  • أقحم الدين والتاريخ للسيطرة على عقول الناس ونقلت رحلات الأنبياء من مواقعها ليأسسو لاحتلال فلسطين فساهم هذا التزوير في مسخ صورة العربي والمسلم في الثقافة الغربية
مفاتيح القرآن و العقل
  • إذا كان كلام الله واحداً ودقيقاً، كيف حصل له مائة تفسير؟
  • ماذا لو كانت أمتنا تقرأه وتترجمه معكوساً، كلبسها إسلامها مقلوباً؟
  • أصحيح هذا "المجاز" و"التقديرات"،و"النسخ" و"التأويل" و"القراءات"؟
  • هل نحن أحرار في قراءة القرآن وتدبره أم على عقولنا أقفال؟
نداء السراة..اختطاف جغرافيا الأنبياء
  • ماذا يحدث عندما تغيب حضارة عريقة
  • هل تموت الحقيقة أم تتوارى عن الأنظار لتعود .. ولو بعد حين؟
  • هل تقبل بلاد وادي النيل بعودة حضارة القبط الغريبة؟
  • هل تقبل نجد بعودة موطن آباء الخليل إبراهيم وبنيه إسحاق ويعقوب؟
الخلق الأول..كما بدأكم تعودون
  • إن البشر الأوائل خرجوا قبل مئات آلاف السنين من "قوالب" الطين كباراً بالغين تماماً كالبعث
  • جاء آدم في مرحلة متأخرة جداً من سلالة أولئك البشر اللاواعي، فتم إعادة تخليقه في الجنة الأرضية ونفخ الروح فيه
  • آدم أبو الناس ليس هو آدم الرسول الذي أعقبه بمئات القرون
الأسطورة..توثيق حضاري
  • الأساطير وقائع أحداث حصلت إما من صنع الإنسان، أو من صنع الطبيعة، أو من صنع السماء
  • لكل اسطورة قيمة ودلالة وجوهراً وتكمن فيها أسرار ومعاني بحاجة إلى إدراك وفهم
  • من الضروري العودة إلى اللغة العربية القديمة بلهجاتها المختلفة لفك رموز الأساطير التي غيب الكثير من مرادها ومغازيها
التوحيد..عقيدة الأمة منذ آدم
  • لو أنا أعدنا قراءة تراثنا بتجرد لأدركنا حقيقة اليد الربانية التي امتدت لإعداة الانسان منذ خطواته الأولى على الأرض بما خطت له من الهدى
  • التوحيد منذ أن بدأ بآدم استمر في بنيه يخبو حيناً ويزهو حيناً آخر، ولكنه لم ينطفئ
بين آدمين..آدم الإنسان وآدم الرسول
  • هل هما (آدمان) أم (آدم) واحد؟
  • من هو (آدم الانسان) الأول الذي عصى؟
  • من (آدم الرسول) الذي لا يعصي؟
  • ماهي شريعة (عشتار) وارتباطها بسقوط آدم الأول حين قارب شجرة المعصية؟
طوفان نوح..بين الحقيقة و الأوهام
  • ما قاله رجال الدين والمفسرون أعاجيب لا يقبلها المنطق ولا العقل السليم في محاولتهم لإثبات عالمية الطوفان
  • استثمر المستنفعون من اليهود هذه القضية ليبتدعوا القضية السامية ويرجعوا نسبهم إلى سام بن نوح (ع)
  • قضية طوفان نوح (ع) لا تكشف التزوير اليهودي فحسب، بل تضع يدها على موضع الداء في ثقافة هذه الأمة