بنو إسرائيل في جزيرة العرب

هل كان بنو إسرائيل طارئين على جزيرة العرب من الشام؟ انتظارا؛ كما يقول المؤرخون العرب، أو هروبا من غزاة فلسطين كما يقول غيرهم، أم إنهم من سكانها الأصليين؟ وأنّ إبراهيم وبنيه كانوا من أبناء الجزيرة كما يقول آخرون، هاتان نظريتان في تفسير وجود بني إسرائيل في الجزيرة العربية.

قد لا تكون الأدلة التاريخية حاسمة بين الفريقين، فالتاريخ حينما يكون فعل غائبين لا شاهد منهم أو عليهم، يسهل القول فيه بغير حرج، ويمكّن من التزوير عليهم من دون ردّ، خاصة إذا ما أجمعت قوى نافذة على التواطؤ في الكذب لمصالح سياسية كبرى، وتفاديا لهذا لجأ علم التاريخ لعلم الآثار وللمخطوطات القديمة يستنطق دلالاتها، فهي أوثق من القول لا ندري مدى صدقه؛ إلا ثقة في قائله، ومع هذا فقد تكون الآثار والوثائق أوغل في تعميق الكذبة التاريخية، لأنها تعطيها طابعا علميا بينما هي مجرد أكذوبة، فيزعم عالم الآثار المروّج للأكذوبة أن هذا حجر عمره كذا وأن ترجمة هذا السند هي كذا، متعمّدا تحريف الكلم عن موضعه لغايات دينية وسياسية حاضرة.

من هنا فقد يكون من المفيد محاكمة الآراء بمقتضاها، بمعنى أنه لو كان كذا لوجب وفاقا للعلم والمنطق أن يكون كذا، فإذا كانت الوقائع متفقة مع مقتضى العلوم ومقتضى المنطق، عزّز هذا التوافق الدليل التاريخي ودلائل الآثار.

من هنا فإنه يمكن مناقشة الآراء حول وجود بني إسرائيل في الجزيرة العربية من خلال منطق العمران البشري، فطبيعة العمران تقتضي أن يتمركز السكان الأصليون في مواطن الزراعة والمياه ومواقع التجارة والفرص الاقتصادية، ما لم يدفعهم عنها عدو، فأين قطن بنو إسرائيل في الجزيرة؟ أفي مواطن الوفرة أم في مواطن القحط؟

على أساس من النظرية الأولى فإن بني إسرائيل طارئون على الجزيرة العربية، قدموا فارين أو مهاجرين من خارجها، وهذا يقتضي أنهم لينالوا مواضع الخصب والمياه في جزيرة جرداء قليلة العطاء، إما أن يقاتلوا أهلها ليجلوهم عن مواضعهم، أو أنهم جاءوا أرضا خالية فاستكشفوها وسكنوا مواضع المياه فيها، وكل هذا لم يحدث.

لقد سكن بنو إسرائيل اليمن ونجران ويثرب وخيبر وتيماء وفدك والعوالي وهي كلها مواضع خصيبة، فاعتمدوا على الزراعة وبخاصة زراعة النخيل، ونعموا بوفرة من الماء ، وكانت مساكنهم إضافة إلى ذلك تقع على خط التجارة الدولي القديم من جنوب الجزيرة حتى شمالها، فقاموا بالتجارة وتقديم الخدمات المالية والترفيهية للقوافل، واتّجروا في العبيد والنساء والتمور والخدمات، وبنو الحصون والأطم، وامتلكوا القوة والمنعة.

لو كان بنو إسرائيل طارئين من الشام لما أمكنهم فعل ذلك في بلد أهلها معروفون بشدة البأس وغواية الغزو والسلب، وكانت مصادر الماء الشحيحة هي المال الأعظم ثم الكلأ، فالعرب كانت تحتجز الآبار وتتقاتل عليها، فكيف يغضّون الطرف عن قوم طارئين يحوزون أفضل منابعهم وأخصب أراضيهم ويتوطنوها مدّة مديدة لا ينازعون عليها؟

تيماء وخيبر وفدك ووادي القرى ويثرب وبلاد من اليمن ونجران هي من أخصب بلاد العرب وأوفرها ماء في ذلك الزمان، وليس من شيمة العربي ولا الإعرابي أن يتنازل عن حقه، بل عن حق غيره، فلو كان بنو إسرائيل طارئين لما وجدوا لهم إلا العراء والموطن الجديب الوعر، هذا إذا لم تسرق أموالهم وتخطف ذراريهم، وحتى لو قلنا بأن العرب قبلت بوجودهم بينها فليس من المنطقي أن يؤثروهم بصوافي أرضهم الشحيحة أصلا، بينما نجد أن منازعات كثيرة بينهم حول آبار الماء.

إن توطن بنو إسرائيل في مواطن الخصب من المنطقة الغربية من الجزيرة – ويومها لم تكن الجزيرة إلا المنطقة الغربية – من شمالها إلى جنوبها يدلّ على أنّهم من أهل الأرض من قديم الزمان، وربما قبل أن تتصحر الأرض، وأنهم كانوا أهل قوّة ومنعة بحيث لم تنتهبهم القبائل، ففي الجزيرة حيث لا دولة ولا نظام إلا الأعراف والقوّة المانعة، لابد لك أن تكون قويا مهابا لتحفظ مالك وبلادك من الغزاة، فما الذي أمكن بني إسرائيل من الاستيلاء على أكثر المناطق خصوبة ومياها وهم طارئون؟ لو كانت الحرب، وهذا ما لا يذكره التاريخ ، لما هدأت عنهم الحرب، فالعرب لا يسكن ثأرها بالهزيمة بل تتوارى نارها، وتاريخهم ناطق بذلك، فلربما دامت الحرب عقودا بينهم لما هو أقل من ذلك، ولسطّر شعرا.

نعم لابد أن بني إسرائيل تعرضوا في مواطنهم للحروب والنزوح داخل الجزيرة فهكذا كانت طبيعة الصراع بين القبائل فيها، وكثيرة هي القبائل التي نزحت بسبب الجدب أو بسبب مزاحمة قبيلة أخرى أكثر عددا وعدّة ، ولا نتوقع أنهم تمكنوا من الاستقرار في أفضل المواقع منذ أول يوم، ولكن بعد أن أثبتوا أنفسهم وقوتهم.

إن بني إسرائيل هم أولاد يعقوب بن إبراهيم عليهما السلام، وهم أبناء عمّ لقريش، وكما سادت قريش العرب برفعة مقامها فيهم وسدانتها للبيت، وإن كانت هذه الرفعة لم تمنع القبائل من العدوان عليهم حتى أخذوا منهم الكعبة، فكذلك نال بنو إسرائيل فرصتهم، فقد كانوا أوفر حظّا من بقية القبائل بما نالوه من تعاليم الدين وقوّة العصبية وتتابع وجود القيادات فيهم، تماما كما حدث لقريش وبقية القبائل بدين الإسلام وقيادة محمد ( ص)، ولا شك أن هذا مكّنهم من إقامة ممالك قويّة في مراحل من التاريخ أشهرها مملكة داوود وسليمان، وهذا كله نقل بني إسرائيل نقلة حضارية عالية قياسا لغيرهم من العرب والأعراب، فقد أصبح لهم شريعة ونظام وقادة ورابطة.

إلا أن قريشا كانت أشد حفاظا على قيم إبراهيم من بني إسرائيل، فقد ظلت أسلافها موحدة مجاورة للبيت حتى أفسد توحيدها سيطرة خزاعة وعمرو بن لحي النازحين من اليمن، ومع ذلك الفساد الذي دبّ فيها فقد بقيت فيهم من قيم دين إبراهيم بقية مكنتهم من إنشاء حلف الفضول، ونظام الجوار، و مراقبة حال فقرائهم بإشراكهم في أرباح التجارة، وإنشاء دار الندوة للتشارك في القرار، ولقد تدارك بقيتهم هذه النبي محمد ( ص).

وأما بنو إسرائيل فقد أسرع إليهم الفساد بالجشع في حب المال، وباستباحتهم لحقوق الأميين بعدما شرّعوا لأنفسهم أنهم ليس عليهم في الأميين سبيل، وذلك لما نظروا لأنفسهم نظرة العصبية والاستعلاء، فقالوا نحن أبناء الله وأحباؤه، فعاشوا يخالطون الناس ولكن من معزل، فبنو إسرائيل وبنو إسماعيل هم أهل مكة وما حولها، وفي الجزيرة عاشوا وتنقلوا، ومنها هاجروا، فمن مهاجر للشام ومن مهاجر لليمن ومن مهاجر لغيرها من بلاد الدنيا، تماما كسائر العرب، الجزيرة موطنهم ثم لهم هجرات، والهجرة من الجزيرة لما حولها من البلدان كانت سنة جارية في أهلها منذ زمن سحيق.

شارك بتعليقك

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني.

عصى آدم..الحقيقة دون قناع
  • معصية آدم، نموذج لمفردة في البناء المعرفي! وحلها سيعيد لإنساننا خارطة نفسه وهويته الضائعة وهدف وجوده
  • معرفة هذه الحقيقة صدمة تعيد الوعي، نعقد بها مصالحة بين التراث والمستقبل لنعيش لحظة الحاضر بيقظة أننا على جسر التحول الإنساني، الذي بدأ في الأرض بالإنسان الهمج ليختتم بالخليفة "الإنسان الإنسان"
مسخ الصورة..سرقة وتحريف تراث الأمة
  • أخذت الحركة الصهيونية على عاتقها غرس دولة لليهود في خاصرة الأمة فزوروا التاريخ العربي ونسبوه لليهود
  • اختلقوا لغة بسرقة إحدى اللهجات القبلية العربية البائدة وأسموها اللغة العبرية
  • أقحم الدين والتاريخ للسيطرة على عقول الناس ونقلت رحلات الأنبياء من مواقعها ليأسسو لاحتلال فلسطين فساهم هذا التزوير في مسخ صورة العربي والمسلم في الثقافة الغربية
مفاتيح القرآن و العقل
  • إذا كان كلام الله واحداً ودقيقاً، كيف حصل له مائة تفسير؟
  • ماذا لو كانت أمتنا تقرأه وتترجمه معكوساً، كلبسها إسلامها مقلوباً؟
  • أصحيح هذا "المجاز" و"التقديرات"،و"النسخ" و"التأويل" و"القراءات"؟
  • هل نحن أحرار في قراءة القرآن وتدبره أم على عقولنا أقفال؟
نداء السراة..اختطاف جغرافيا الأنبياء
  • ماذا يحدث عندما تغيب حضارة عريقة
  • هل تموت الحقيقة أم تتوارى عن الأنظار لتعود .. ولو بعد حين؟
  • هل تقبل بلاد وادي النيل بعودة حضارة القبط الغريبة؟
  • هل تقبل نجد بعودة موطن آباء الخليل إبراهيم وبنيه إسحاق ويعقوب؟
الخلق الأول..كما بدأكم تعودون
  • إن البشر الأوائل خرجوا قبل مئات آلاف السنين من "قوالب" الطين كباراً بالغين تماماً كالبعث
  • جاء آدم في مرحلة متأخرة جداً من سلالة أولئك البشر اللاواعي، فتم إعادة تخليقه في الجنة الأرضية ونفخ الروح فيه
  • آدم أبو الناس ليس هو آدم الرسول الذي أعقبه بمئات القرون
الأسطورة..توثيق حضاري
  • الأساطير وقائع أحداث حصلت إما من صنع الإنسان، أو من صنع الطبيعة، أو من صنع السماء
  • لكل اسطورة قيمة ودلالة وجوهراً وتكمن فيها أسرار ومعاني بحاجة إلى إدراك وفهم
  • من الضروري العودة إلى اللغة العربية القديمة بلهجاتها المختلفة لفك رموز الأساطير التي غيب الكثير من مرادها ومغازيها
التوحيد..عقيدة الأمة منذ آدم
  • لو أنا أعدنا قراءة تراثنا بتجرد لأدركنا حقيقة اليد الربانية التي امتدت لإعداة الانسان منذ خطواته الأولى على الأرض بما خطت له من الهدى
  • التوحيد منذ أن بدأ بآدم استمر في بنيه يخبو حيناً ويزهو حيناً آخر، ولكنه لم ينطفئ
بين آدمين..آدم الإنسان وآدم الرسول
  • هل هما (آدمان) أم (آدم) واحد؟
  • من هو (آدم الانسان) الأول الذي عصى؟
  • من (آدم الرسول) الذي لا يعصي؟
  • ماهي شريعة (عشتار) وارتباطها بسقوط آدم الأول حين قارب شجرة المعصية؟
طوفان نوح..بين الحقيقة و الأوهام
  • ما قاله رجال الدين والمفسرون أعاجيب لا يقبلها المنطق ولا العقل السليم في محاولتهم لإثبات عالمية الطوفان
  • استثمر المستنفعون من اليهود هذه القضية ليبتدعوا القضية السامية ويرجعوا نسبهم إلى سام بن نوح (ع)
  • قضية طوفان نوح (ع) لا تكشف التزوير اليهودي فحسب، بل تضع يدها على موضع الداء في ثقافة هذه الأمة