بين ديناميكية الاجتهاد وميكانيكيته

في فترة الاستعمار البريطاني في الهند تعرّف الإنجليز على أحكام لا قبل لهم بها في العلاقات الزوجية والأحوال الشخصية بحسب الشريعة الإسلامية وخاصة فيما له علاقة بقضايا الطلاق وأسبابه وأنواعه كطلاق الخلع، أو التفويض، أو ما اصطُلح عليه بطلاق بينونة صغرى وأخرى كبرى، وغير ذلك، فتذكر كتب التاريخ أنه لما علم أحد القساوسة بأنّ المرأة المسلمة إذا بدّلت دينها فإنّ زواجها يصبح باطلاً، وينفسخ عقد النكاح تلقائياً (أي تعتبر طالقاً وإن لم يطلّقها القاضي)، ووجد فيها طريقة سهلة للتشجيع على تنصير المسلمين الذي كان يسعى له الإنجليز آنذاك، فأعجبته الفكرة وأخذ المبادرة في الموافقة السريعة على تطليق النساء اللاتي يبدّلن دينهنّ إلى المسيحية، حتى أنّ بعض النساء المتضرّرات كنّ يكذبن على القاضي بهدف تسريع إجراءات الطلاق المستعصية ما اضطرّ القضاة بعد ذلك إجراء اختبارات احترازية لكي لا يُخدعوا، كأن يقدّموا للمرأة خمراً لتشربه، أو لحم خنزير لتأكله، أو أن يطلبوا منها أن تسيء إلى رسول الله (ص)، فإذا اجتازت تلك الامتحانات وتأكّدوا من تنصّرها أصدروا وثيقة طلاقها.. ما يعني أنّ بعض النساء كانت مستعدة أن تكذب وترتكب الحرام وتفارق دينها لأجل خلاصها من ظلم زوج مستبدّ طالما لم يترك لها الفقهاء سوى هذا المخرج.

هذه المعلومة، وحقائق وحوادث أخرى كثيرة صادمة تصفع المرء كلما قرأ وتبحّر فيما له علاقة بتنظيم العلاقات الأسرية، وتدعو لإعادة طرح هذا الموضوع مراراً وتكراراً لقرع جرس الإنذار وإزعاج القائمين على سنّ أو البتّ في قوانين الأحوال الشخصية من قضاة ومشرّعين ونوّاب لعلّ ذلك يخلق حالة من الشعور بالأزمة أو الخطر المحدق بالأسرة وبالمجتمع، بل وبالدين وعدالة أحكامه، وبهم كسلطة قضائية أو تشريعية، فمهما تصبر النساء على الظلم الواقع عليهنّ من جرّاء الأحكام الجائرة في قضايا الأحوال الشخصية، وتجاهل المعنيين لمشاعرهنّ ومشاعر أطفالهنّ والآثار السلبية المترتّبة على تلك الأحكام، فلابدّ لقيدهنّ أن ينكسر يوماً.

ليس هناك أحكام أسرة موحّدة في الدول الإسلامية، بل هناك تفاوت وتباين كبير بينها اعتماداً على عقلية المشرّعين و(ميكانيكيتهم) في إصدار الأحكام حسب قوالبهم الجامدة والبالية، أو بناء على تفتّح عقولهم وانفتاحهم على الواقع وقدرتهم على مواكبة العصر استناداً على مقاصد الشريعة وبتفعيل الاجتهاد (الديناميكي) والفقه النابض بالحياة مع كلّ قضية وملابساتها وكلّ حكم وظروفه، فعلى سبيل المثال لازال هناك بعض القضاة يفرضون على الزوجة انتظار الزوج المفقود أو الغائب تسعين عاماً (إذاً يتحتّم عليها أن تستلف عمراً إضافياً لتفي بحقّ الزوج الغائب!) ثم خفّفوها إلى خمسين عاماً (يا للحكمة والإنصاف!)، بينما تطوّرت أحكام بعض الدول وقلّصت فترة الانتظار تلك إلى أربع سنوات، ثم إلى سنة واحدة، ثم إلى ستة أشهر بناء على أسباب الغياب أو الفقد.

فالاجتهاد الديناميكي (المتحرّك) مثله مثل الجهاز الذي يعمل بمحركاته الخاصة وليس بحاجة إلى أسباب من خارج النصّ أو الشريعة ليأتي بقانون يحقّق العدالة ويحفظ الحقوق وإنما هناك مساحة شاسعة من اليسر والسعة والرحابة التي بإمكانه أن يتحرّك فيها فلا يتعدّى حدود الله ولا يضيّق على عباد الله، وبإمكانه أن يقلّص تسعين عاماً من الانتظار إلى ستة أشهر بقواعد فقهية صحيحة، منطلقاً من وصايا قرآنية عامة كما في قوله تعالى: “فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ” وقوله: ” وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ”، و”فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ”، وغيرها، بينما الاجتهاد الميكانيكي (الجامد) يشبه العربة التي لا يمكنها أن تتحرّك إلا بمحرّك من خارجها أحصاناً كان أو حماراً (كرّمكم الله).

فوجئت بتصريح أحد نوّاب أحد الكتل البرلمانية في البحرين حين صرّح بأن “‘قانون أحكام الأسرة في شقه الشيعي لن يرى النور طالما يرى البعض صعوبة تحقيق مطلب العلماء المتمثل في الضمانة الدستورية”، وأضاف ”إنّ الأمة ليست متعطّلة على قانون أحكام الأسرة، فهي سارت لأكثر من 1400 سنة من دون وجود تقنين لأحكام الأسرة، وممكن أن تستمر أيضا 1400 سنة أخرى من غير تقنين للأحكام الأسرية، فنحن مستعدون أن ننتظر 2800 سنة”!!

لا أدري عن أيّ أمّة يتحدّث، فالأمة الإسلامية في مناطق مختلفة من إيران، إلى تونس، إلى الجزائر، والمغرب، ومصر، والأردن، واندونيسيا، وماليزيا، وباكستان، وبنغلادش، وحتى الهند ذات الأقلية المسلمة، والمسلمين المهاجرين إلى البلاد الأوروبية أسّسوا لأنفسهم كيانات قانونية، ومراكز بحثية، ومجالس شرعية ليطبّقوا أحكام الأسرة فيما بينهم بحسب الشريعة الإسلامية بما لا يتنافى وقوانين الدولة المضيفة، بينما يريد البعض هنا أن نبقى أربعة عشر قرناً أخرى بلا قانون لأحكام الأسرة ليخفّف من معاناة تلك الأسر المتضرّرة – رجالاً ونساء وأطفالاً – كرامة لعيون بضعة من رجال الدين الذين لا يكترثون لما يجري على تلك الأسر المفكّكة والتي تعاني من استحالة استمرار الحياة بين زوجين متباغضين وأطفال مشتّتين، وعجباً لآلاف النساء اللاتي لم تأخذهنّ الحمية على حقوقهن ولم نسمع منهن أية ردّ فعل على تصريحات غير مسئولة كهذه.

قد يغيب عن المتغافلين عن حقوق الأسرة والرافضين لتقنين أحكامها أنّ “طلاقاً بائناً بينونة كبرى” سيقع بينهم وبين قاعدتهم الشعبية من النساء بالذات إذا تمادوا في التعامل معهنّ كنعاج تائهة، فإن لم تتحرّك تلك النساء اليوم خوفاً أو لبقية احترام لازالت تكنّه لرموزها الدينية، فإنّ موجة غضب النساء العالمية لن تخطئ ظالميها وهي تتقدّم بإصرار لانتزاع حقوقها.

شارك بتعليقك

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني.

عصى آدم..الحقيقة دون قناع
  • معصية آدم، نموذج لمفردة في البناء المعرفي! وحلها سيعيد لإنساننا خارطة نفسه وهويته الضائعة وهدف وجوده
  • معرفة هذه الحقيقة صدمة تعيد الوعي، نعقد بها مصالحة بين التراث والمستقبل لنعيش لحظة الحاضر بيقظة أننا على جسر التحول الإنساني، الذي بدأ في الأرض بالإنسان الهمج ليختتم بالخليفة "الإنسان الإنسان"
مسخ الصورة..سرقة وتحريف تراث الأمة
  • أخذت الحركة الصهيونية على عاتقها غرس دولة لليهود في خاصرة الأمة فزوروا التاريخ العربي ونسبوه لليهود
  • اختلقوا لغة بسرقة إحدى اللهجات القبلية العربية البائدة وأسموها اللغة العبرية
  • أقحم الدين والتاريخ للسيطرة على عقول الناس ونقلت رحلات الأنبياء من مواقعها ليأسسو لاحتلال فلسطين فساهم هذا التزوير في مسخ صورة العربي والمسلم في الثقافة الغربية
مفاتيح القرآن و العقل
  • إذا كان كلام الله واحداً ودقيقاً، كيف حصل له مائة تفسير؟
  • ماذا لو كانت أمتنا تقرأه وتترجمه معكوساً، كلبسها إسلامها مقلوباً؟
  • أصحيح هذا "المجاز" و"التقديرات"،و"النسخ" و"التأويل" و"القراءات"؟
  • هل نحن أحرار في قراءة القرآن وتدبره أم على عقولنا أقفال؟
نداء السراة..اختطاف جغرافيا الأنبياء
  • ماذا يحدث عندما تغيب حضارة عريقة
  • هل تموت الحقيقة أم تتوارى عن الأنظار لتعود .. ولو بعد حين؟
  • هل تقبل بلاد وادي النيل بعودة حضارة القبط الغريبة؟
  • هل تقبل نجد بعودة موطن آباء الخليل إبراهيم وبنيه إسحاق ويعقوب؟
الخلق الأول..كما بدأكم تعودون
  • إن البشر الأوائل خرجوا قبل مئات آلاف السنين من "قوالب" الطين كباراً بالغين تماماً كالبعث
  • جاء آدم في مرحلة متأخرة جداً من سلالة أولئك البشر اللاواعي، فتم إعادة تخليقه في الجنة الأرضية ونفخ الروح فيه
  • آدم أبو الناس ليس هو آدم الرسول الذي أعقبه بمئات القرون
الأسطورة..توثيق حضاري
  • الأساطير وقائع أحداث حصلت إما من صنع الإنسان، أو من صنع الطبيعة، أو من صنع السماء
  • لكل اسطورة قيمة ودلالة وجوهراً وتكمن فيها أسرار ومعاني بحاجة إلى إدراك وفهم
  • من الضروري العودة إلى اللغة العربية القديمة بلهجاتها المختلفة لفك رموز الأساطير التي غيب الكثير من مرادها ومغازيها
التوحيد..عقيدة الأمة منذ آدم
  • لو أنا أعدنا قراءة تراثنا بتجرد لأدركنا حقيقة اليد الربانية التي امتدت لإعداة الانسان منذ خطواته الأولى على الأرض بما خطت له من الهدى
  • التوحيد منذ أن بدأ بآدم استمر في بنيه يخبو حيناً ويزهو حيناً آخر، ولكنه لم ينطفئ
بين آدمين..آدم الإنسان وآدم الرسول
  • هل هما (آدمان) أم (آدم) واحد؟
  • من هو (آدم الانسان) الأول الذي عصى؟
  • من (آدم الرسول) الذي لا يعصي؟
  • ماهي شريعة (عشتار) وارتباطها بسقوط آدم الأول حين قارب شجرة المعصية؟
طوفان نوح..بين الحقيقة و الأوهام
  • ما قاله رجال الدين والمفسرون أعاجيب لا يقبلها المنطق ولا العقل السليم في محاولتهم لإثبات عالمية الطوفان
  • استثمر المستنفعون من اليهود هذه القضية ليبتدعوا القضية السامية ويرجعوا نسبهم إلى سام بن نوح (ع)
  • قضية طوفان نوح (ع) لا تكشف التزوير اليهودي فحسب، بل تضع يدها على موضع الداء في ثقافة هذه الأمة