من أروع ما قرأت فيما قيل عن رسول الله (ص) أنه (لو لم يكن محمد رسولاً لكان إنساناً في مستوى رسول، ولو لم يتلقَ الأمر من ربه “يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ”، لتلقّاه من ذات نفسه “يا أيها الإنسان بلّغ ما يعتمل في ضميرك”)، فمحمّد (الإنسان) هذا الذي اعتملت في ضميره أسمى قيم الروحانية لتتجلّى خُلُقاً في أرقى نموذج إنساني، هو ضالّتنا التي نبحث عنها في سعينا اليومي كادحين بحثاً عن صفاء النفس وإحياء مروءتها، ونعلم يقيناً أنه كدحٌ لن ينتهي إلى سراب بل إلى نبع زمزمي ينبض بجمال خُلُق محمد (ص) ليجعل لنا قدم صدق معه حيث قال: “أقربكم مني منزلاً يوم القيامة أحسنكم خلقاً”.
حسن خُلُق رسول الله (ص) أبوابه كثيرة ومتداخلة، ورغم ذلك يبدو لنا أننا ختمنا فصوله كلها، فنحاول في كل مرّة نريد إحياء ذكره (ص) أن نبحث عن جديد في سيرته، وكأنّنا وفّينا قديمه حقّه، أو كأننا قد سبرنا أغوار كماله، فينكشف لنا مدى بساطتنا في فهم رسائله الكثيرة التي تركها لنا عبر ممارسته لأدواره الجمّة، فلكل منها مدرسة ومنهاج تُقرّبنا منه إذ وعينا فلسفتها وعملنا بروحها.
فعلى سبيل المثال، عمد رسول الله (ص) إلى رابطة الزواج ووظّفها كخطة علاجية ووقائية مدروسة لربط نسيج مجتمع الجزيرة آنذاك، فعدى عن السيدة خديجة (ع) التي تزوّجها قبل البعثة، فقد كانت معظم زيجاته بهدف توطيد أواصر العلائق بينه وبين قومه لعلمه بأنّ العرب يحترمون المصاهرة ويعتبرونها باباً من أبواب التقرّب والنصرة والسلام بين البطون المختلفة، وكانت مناوأة الأصهار سبّة وعاراً عليهم، فأراد (ص) ببعض زيجاته أن يكسر عداء القبائل ويخفف من حدّة بغضائها.
فقد تزوّج بنات أبي بكر، وعمر، وأبي سفيان، وزوّج ابنتيه رقية ثم أم كلثوم بعثمان بن عفان، وزوّج فاطمة لعلي بن أبي طالب (ع)، وتزوّج جويربة بنت الحارث من بني المصطلق، وقيل أنها كانت أعظم النساء بركة على قومها لأنّ المسلمين أطلقوا أسر مائة من قومها بعد زواجه (ص) منها، وتزوّج أم سلمة التي كانت من بني مخزوم – قومِ أبي جهل وخالد بن الوليد – حتى أنه لما تزوجها (ص) لم يقف خالد من المسلمين موقفه الشديد كما في أحُد، بل أسلم بعد مدة غير طويلة.
ويجدر بالذكر أيضاً زواجه من مارية القبطية النصرانية، إلاّ أنّ إحدى أغرب زيجاته زواجه من صفية بنت حُيي بن أخطب زعيم يهود بني النضير حيث وقعت سبياً فتزوجها رسول الله (ص) وهو في عرف ذلك الزمان ترضية عظيمة للمغلوب أن تؤخذ ابنته زوجاً لا سبياً، حتى أنّ المسلمين خشوا على رسول الله (ص) من كيد امرأة كان أبوها أوّل مقتول، وقومها صرعى بسيوف المسلمين، فتساءلوا كيف يمكن أن تنمو المودة والمحبة عبر هذه المواجد والأضغان، وكيف استطاع محمد (ص) بنبله ومروءته أن يمحي كلّ أثر لكراهية أو حقد من قلبها، ويدرأ بذلك شرور من يضمر شراً به أو بقومه.
هذا الخلق الحسن الذي اتّسع لليهودي والمسيحيّ والمحارب والمتربّص والمخالف كما للصديق والحبيب، استطاع أن يجعل من الذين بينهم وبينه عداوة كأنه وليّ حميم، لهو أكثر ما تحتاج إليه الأمة من أخلاق رسول الله (ص) في هذا المفصل التاريخي الحرج الذي تعيشه وقد تكالبت عليها قوى الشرّ من الخارج، وتكاد أن تفتك بنفسها جرّاء عداواتها المصطنعة من الداخل، حتى باتت قضية الوحدة أقدس قضية بعد توحيد الله، بل إن لم توحّدنا كلمة التوحيد فلن نعدو أن نكون قد أشركنا بالله مذاهبنا، وطوائفنا، وعبدنا انتماءتنا الحزبية، وألّهنا زعاماتنا من دون الله.
لقد جعل من خطواته الشريفة (ص) خطوات مباركة، وكان غرض توحيد الأمّة يتبدّى في كلّ تلك الخطوات، حتى بقضاياه الخاصّة، كاختيار زوجة العمر وشريكة الحياة، فقد خالف هواه لرضا ربّه ومصلحة أمّته، فكان العادّة بزوجاته أن تكون كبيرة السنّ، مطلّقة، أرملة، كان غرضه بالزواج ليس كما تغرض الناس، بل لتوحيد أمّته ولإزاحة ما بقي من علائق أضغانها، حيث تحوّل البيت النبويّ بما ضمّ من أزواج إلى مصهر حقيقي يذيب الأحقاد والثارات، وهو مجمع عُقََد التلاحم، وكلّ الأمّة إليه تنتسب بالإيمان وبالمصاهرة، هكذا كان (ص) في القضايا الخاصّة سيّرها في سكّة توحيد الأمّة، فكيف بالحريّ كان في قضايا الأمّة العامّة أساساً؟! فهل نستطيع تمثّله أوّلاً بأن نتوحّد في قضايا الأمّة والوطن؟ وهل نستطيع تمثّله ثانياً أن نتجاوز هوانا الضيّق واهتماماتنا الخاصّة لنجعلها تصبّ في صالح عموم الناس، والوطن، والأمّة؟ المفروض، نعم، و(لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ).