صلاتنا الخشبيّة.. الاتّصال مقطوع

أوّل ما ظهرت موجةُ الموبايلات.. كان البعضُ يتظاهر مارّاً سيارته ماسكاً “موبايلا” بأنه “يتّصل”.. ليُضفي على نفسه أهمّية و”بريستيج/prestige”، ثم تكتشف زيفه؛ فموبايله معطّل.. لا شحنةَ به ولا “اتّصال”!

انتهتْ فريضةُ الصيام السنويّة بما له مِن دورٍ بتنقيةِ وشحنِ باطننا ليُصبح “مُوصلاً” جيّداً “متّصلاً” بالخالق وبالمخلوقين، وظلّت فريضةُ “الصلاة” اليوميّة كمحطّة “اتّصال” وشحنٍ أبديّة.. لكنّ أكثرنا لا “يُوصلون” “بواطنهم” (بطّاريات هواتفهم) بقابس الشحن حين يقفون “للصلاة”، بل يتظاهرون “بالاتّصال”، فلذلك هم لا “يتّصلون” أبداً بذواتهم (هواتفهم) وبمبدئهم (الطرَف المُهاتَف).. ومحالٌ أن تتفعّل وظائفُهم الإنسانية، همْ شكل “موبايل” فقط.. “أمواتٌ غيرُ أحياء”.

يقول سبحانه: “أمّن يُجيبُ المضطرَ إذا دعاه ويكشفُ السوءَ”، ويهمس بآذاننا بأنفاسِ حديثِه القدسي: “أنا عند المنكسرة قلوبهم”.. أمّا كونفوشيوس فيُخبر تلاميذه: لا أستطيع مساعدة مَن يفقد إيمانه بي.. وبحاجته للتغيير. الإحساس بالحاجة للتغيير، هو أولى خطوات مَن يريد أنْ يتحسّن ويتطوّر، لأنّ الإحساس بالحاجة يضطرّه ليكون “متّصلاً” حقيقيا لا ممثّل “اتّصال”، ولا أعني بحاجة التغيير تغيير الديكور والملابس و”الديزاين” والإكسسوارات المادية لمظاهر الحياة، بل تغيير النفس وسدّ نقائصها.. وتغيير الطبائع والمشاعر والأخلاق والسلوكيات تجاه المُثَل والسموّ واللباقة.

في ميدان الروحانيات.. “كالصلاة”، فإنّ السبيل المنطقي لتطويرها هو الإحساس بحاجتنا لها.. لتكون “صلاة” حقيقيةً بمعنى “صِلَة” بالله، أي أنّ الذي يقف بها كأنّما “اتّصل” بقابس كهربائي ليشحن ذاته، فمن لم يرَ الزيادةَ في نفسه وقفزاً على نقصِه بعد كلّ “صلاة” يعني أنّه آنئذٍ لم يتّصلْ (لم يُصِلِّ)، بل مَثّل وتظاهَر أنّه “يُصلّي”.. قام بجميع حركات “التوصيل” و”التواصل” لكنّ سلْك “الاتّصال” معطوب/مقطوع..

السبيل المنطقي والوحيد لإصلاح هكذا عطب، هو السبيل الوحيد لإصلاح كلّ الأشياء والعلاقات، ويمرّ عبر إيمانيْن: 1- إيمان (أو إحساس فعليّ) بحاجتنا الأكيدة لإصلاحها، ذلك الذي يُولّد الرغبة الحقيقية للتغيير، ويتضمّن معرفتنا وإقرارنا بسوء حالنا وأنّ وضعنا كارثيّ وغير مقبول بالمرّة، وبالتّالي يقيننا بوجوب فعْل شيء، أمّا إن تسلّلتْ قناعةٌ بأنّ حالنا (الروحي/الخُلقي/السلوكي) ليس سيّئًا جدّا، أو مقبولاً.. وربّما كابرنا وقُلنا “ممتازاً”! فهذا لن يُولّد فينا الاستفزاز اللائق لإحراز عزم الإرادة لفعلِ التغيير.

2- إيمان بقدرتنا أو بقدرة مَن “نتّصل” به (سبحانه) على إحداث التغيير المنشود.. إنّهما القناعتان اللتان بهما يتوجّه كلّ مريض متوجّع إلى الطبيب الحاذق ليتحسَّن حالُه: قناعته أنّه مريضٌ سيّء الحال، وقناعته بحاجتِه لطبيبٍ.. أليس هذا ما نقلناه عن كونفوشيوس آنفاً؟! هكذا إصلاحُ أمرِ الشعوب أيضا: قناعةٌ بسوء أوضاعها، وقناعةٌ باقتدارها على تغييره للأحسن لو عزمتْ.

“فالصلاة” منصّةُ إصلاحٍ لأمورنا، و”الصلاة” نفسها بحاجة لإصلاح، فالكثير ممّن “يُصلّي” “الصلاة” قد قتل روح “الصلاة” حين حوّلها لطقسٍ كلاسيكي رياضيّ.. ليس له منها إلا القيام والقعود، وأورادٌ يُوردها بلسانه دون إيرادها على قلبه،.. المخّ في جانب يسرح ويحلّق، والعين في جانب تُبحلق، واللسان في جانب يلقلق، والأذن تُصغي لخرخشةِ كلّ شيء، و”كلٌّ في فلَكٍ يسبحون”..

“الصلاة” توسّل/توصّل أي “تواصل” العبد بسيّده، “اتّصال” هاتفيّ بين الإنسان وخالقه، مناجاة محبّ لمحبوبه، ولا يمكن لمحبّ أن يُهامس محبوبه ويُناجيه ويتوسّله وعينُه تبحلق بشيءٍ آخر، وأذنه مشغوفةٌ بصوتٍ آخر، ولسانه يُردِّد كلاماً محفوظا عن ظهر قلب.. بقلبٍ مشغول لا يدري آنئذ معناه ووقع أثره، ودماغه يفكّر سارحاً بتصاريف وتفاريع وتجارات وسوالف لا علاقة لها بجليسه ومحبوبه، لا عاقلَ محترماً يفعل هذا.. وإنّ فلسفة أن نُصلّي “تكليفاً.. وتبرئةً.. وإفراغاً للذمّة”.. بمعنى أن نصلّيها لنُنهيها وللتخلّص من عبئها.. لا يقودنا إلاّ لتفريغها من محتواها.

الاعتيادُ آفة النّعم، كثيرون ملّوا النّعَم لاعتيادهم استعمالها، لذلك ملّتهم النّعم وأفقدتهم أرواحَها، فما عادوا يسعدون بها، ما عادوا ينظرون إليها كنِعَم، فيقال للواحد: ما رأيك بطبخة دجاج؟ يُجيبك: “عادي”! ما رأيك بسيّارتك “الهوندا” يقول: “عادي”، زوجتك الجميلة كيف حياتك معها؟ :”عاديّة”، أكلٌ دسم، وزوجةٌ جميلة، وسيارةٌ فارهة، لو حظي بها رجلٌ مُعدَم (مِن مليارات المعدمين) لربّما مات لدهشة الفرح وهذا “اللّوح” المتخشِّب الأحاسيس يقول “عادي”!

هذا الاعتياد.. الروتين.. بلَّد إحساسنا بالنِّعَم وحجبنا عن رؤيتها، عن رؤية نعمة أننا نتنفّس.. وأنّا نجد الماء الذي نشرب، فضلا عن ألوان الغذاء.. واللباس.. ووسائل المواصلات والاتّصال.. ومنها نِعمة “الصلاة” كوسيلة “اتّصال” بالملأ الكونيّ الأعلى لتحسين إنسانيّتنا وروحنتها لنُصبح خيّرين أكثر وربّانيّين أكثر.. بإعادة “وصلنا” بالمبدأ الكوني الذي به ولأجله صار لنا وجودٌ هادفٌ لا ينبغي ولا يليق به أن يظلّ عابثاً (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ).

فحين يقف المرء ليتّصل “مُصلِّياً”، ينبغي أن يشعر بحاجتِه لهذه “الصلاة/الصِلة/التواصل”.. كاحتياج معوّق مشلول لفرصةِ مدِّ يده أو مطّ ظهره وقدميه، أنْ يشعر بحاجتِه كمسكينٍ على باب غنيّ يدرأ عنه فقره، كمريضٍ بعيادة طبيب ينتشل عنه سقمه، كضعيف يتوسّل مقتدراً يرفع عنه عجزه، عليه أنْ يلعن حاله الراهن ليتنقشِعَ عنه، ويقول لنفسه “كفى لهذه البلادة” التي لا تشعر بخالقها.. والمشغولة بتفاهاتها، فلا تستطيع أن تركّز “لتتواصل” بضعَ دقائق تتخلّى فيها عن عالمها السُفلي المشحون بالقلق والعبث، لا تستطيع “وصْلَ” إحساسها ودفقَه بالحياء جرّاء أفاعيلها، ولا “وصْلَه” بمشاعر الامتنان لتتابع نِعَم الحِفظ والستر، فتبقى متكلّسةً بليدةً تجاه الذي يراها ويرى مخازيها وموبقاتها التي اجترحَتْ.. ومع ذلك ما زالت حارنةً غيرَ مطواعةِ القلب عن أنْ تعترف لتعيش شعور “التواصل” الحقيقي.. والبثّ الحيّ المتفاعل، ليكون صاحبُ “الصلاة” “مُضطرّاً” لحاجته فيُجاب إذا دعا!

أيّ فقيرٍ ومريضٍ هذا الذي لا يتوجّع ويبثّ مِن قلبه؟ إنّه الكاذب فقط، المحتال المدّعي الفقر والمرض.. لا يُنجَد لتغيير حاله.. إنّه كصاحب الغنم الذي كذب على القرية مستنجِداً من ذئبٍ خياليّ، لذلك قلنا أنّ “إيماننا” بسوء حالنا وبشاعة مآلنا بدايةُ الطريق وشرطُ الإصلاح الأوّل، هذا هو الشرط الجزائي لسنّة التغيير الأبديّة: “إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ”، وفي الدعاء مُثّل هذا المعنى “حتى إذا انفتح له بصرُ الهدى وتقشّعت عنه سحائبُ العمى فرأى كبيرَ عصيانه كبيرًا.. وجليلَ مخالفته جليلا.. أمّك بطمعه يقينًا، وقصدك بخوفه إخلاصًا، واستغاث بك من عظيم ما وقع به”…. ولكن سيظلّ مع الأسف “ما أكثَرُ النّاسِ -ولَوْ حرصْتَ- بِمُؤمنين”!

شارك بتعليقك

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني.

عصى آدم..الحقيقة دون قناع
  • معصية آدم، نموذج لمفردة في البناء المعرفي! وحلها سيعيد لإنساننا خارطة نفسه وهويته الضائعة وهدف وجوده
  • معرفة هذه الحقيقة صدمة تعيد الوعي، نعقد بها مصالحة بين التراث والمستقبل لنعيش لحظة الحاضر بيقظة أننا على جسر التحول الإنساني، الذي بدأ في الأرض بالإنسان الهمج ليختتم بالخليفة "الإنسان الإنسان"
مسخ الصورة..سرقة وتحريف تراث الأمة
  • أخذت الحركة الصهيونية على عاتقها غرس دولة لليهود في خاصرة الأمة فزوروا التاريخ العربي ونسبوه لليهود
  • اختلقوا لغة بسرقة إحدى اللهجات القبلية العربية البائدة وأسموها اللغة العبرية
  • أقحم الدين والتاريخ للسيطرة على عقول الناس ونقلت رحلات الأنبياء من مواقعها ليأسسو لاحتلال فلسطين فساهم هذا التزوير في مسخ صورة العربي والمسلم في الثقافة الغربية
مفاتيح القرآن و العقل
  • إذا كان كلام الله واحداً ودقيقاً، كيف حصل له مائة تفسير؟
  • ماذا لو كانت أمتنا تقرأه وتترجمه معكوساً، كلبسها إسلامها مقلوباً؟
  • أصحيح هذا "المجاز" و"التقديرات"،و"النسخ" و"التأويل" و"القراءات"؟
  • هل نحن أحرار في قراءة القرآن وتدبره أم على عقولنا أقفال؟
نداء السراة..اختطاف جغرافيا الأنبياء
  • ماذا يحدث عندما تغيب حضارة عريقة
  • هل تموت الحقيقة أم تتوارى عن الأنظار لتعود .. ولو بعد حين؟
  • هل تقبل بلاد وادي النيل بعودة حضارة القبط الغريبة؟
  • هل تقبل نجد بعودة موطن آباء الخليل إبراهيم وبنيه إسحاق ويعقوب؟
الخلق الأول..كما بدأكم تعودون
  • إن البشر الأوائل خرجوا قبل مئات آلاف السنين من "قوالب" الطين كباراً بالغين تماماً كالبعث
  • جاء آدم في مرحلة متأخرة جداً من سلالة أولئك البشر اللاواعي، فتم إعادة تخليقه في الجنة الأرضية ونفخ الروح فيه
  • آدم أبو الناس ليس هو آدم الرسول الذي أعقبه بمئات القرون
الأسطورة..توثيق حضاري
  • الأساطير وقائع أحداث حصلت إما من صنع الإنسان، أو من صنع الطبيعة، أو من صنع السماء
  • لكل اسطورة قيمة ودلالة وجوهراً وتكمن فيها أسرار ومعاني بحاجة إلى إدراك وفهم
  • من الضروري العودة إلى اللغة العربية القديمة بلهجاتها المختلفة لفك رموز الأساطير التي غيب الكثير من مرادها ومغازيها
التوحيد..عقيدة الأمة منذ آدم
  • لو أنا أعدنا قراءة تراثنا بتجرد لأدركنا حقيقة اليد الربانية التي امتدت لإعداة الانسان منذ خطواته الأولى على الأرض بما خطت له من الهدى
  • التوحيد منذ أن بدأ بآدم استمر في بنيه يخبو حيناً ويزهو حيناً آخر، ولكنه لم ينطفئ
بين آدمين..آدم الإنسان وآدم الرسول
  • هل هما (آدمان) أم (آدم) واحد؟
  • من هو (آدم الانسان) الأول الذي عصى؟
  • من (آدم الرسول) الذي لا يعصي؟
  • ماهي شريعة (عشتار) وارتباطها بسقوط آدم الأول حين قارب شجرة المعصية؟
طوفان نوح..بين الحقيقة و الأوهام
  • ما قاله رجال الدين والمفسرون أعاجيب لا يقبلها المنطق ولا العقل السليم في محاولتهم لإثبات عالمية الطوفان
  • استثمر المستنفعون من اليهود هذه القضية ليبتدعوا القضية السامية ويرجعوا نسبهم إلى سام بن نوح (ع)
  • قضية طوفان نوح (ع) لا تكشف التزوير اليهودي فحسب، بل تضع يدها على موضع الداء في ثقافة هذه الأمة