عندما تصنعنا مدرسة الحياة

يسعى أكثر الناس للحصول على أفضل المدارس وأقوى الجامعات وبعض أولياء الأمور على أتمّ الاستعداد أن يدفعوا عصارة عمرهم للاستثمار في تعليم أبنائهم، ويتجشّم الأبناء عناء الغربة والسفر لتحصيل الشهادات الأكاديمية، بل ويستمر البعض في الدراسة حتى سنوات متقدّمة من عمره، وتبقى مدرسة الحياة أقوى مدرسة يتعلم منها الإنسان ما لا يمكن أن يتعلّمه على كرسي الدراسة ويكون أكثر تطورا ووعيا وفضيلة.

إن طريقة تحليل كل واحد منا للتجارب التي يمر بها يوميا ـ وما أكثرها ـ والتأمّل في الواقع المحيط به هو الذي يدفع البعض للتقدم في مدرسة الحياة بينما يبقى آخرون على ما هم عليه، عندما يحلّل الفرد ماضيه ويعرف الدوافع التي دفعته لاتخاذ قراراته – وخاصة المصيرية منها – يقوّي وعيه بنفسه فتكون قراراته أكثر حكمة وصوابا في الحاضر والمستقبل.

ولكي يستفيد الإنسان من تجارب الحياة ودروسها، لا بد له من وقفة مع النفس، يراجع فيها شريط يومه وحيثياته ويسترجع سلوكياته، مشاعره، انفعالاته، ما هو المناسب من تصرفاته وما هو الشاذ منها، هل أحسن صنعاً عندما استشاط غضبا على عامله، أو ثار هائجا على طفله وضرب بمشاعره عرض الحائط، أو خان أمانته، أو أخلف وعده، فيتعلّم درساً من الحياة فلا يلدغ من جحر مرّتين، وكفى بها يقظة وحكمة. أما أن نعيش حياتنا بنظام تلقائي وكأننا مبرمجون أوتوماتيكيا تجاه ما نستقبل من أقوال أو أفعال من غير إعادة حساب لردود أفعالنا أو تحكيم عقولنا على مزاجنا أو أهوائنا، فمن يرد على الشتيمة بشتيمة أخرى والعصبية بعصبية تماثلها، لن يُغيّر من حياته شيئًا بل سيرجع القهقرى.

كما أن الاستفادة من تجارب الآخرين وتحليل خبراتهم أمر ضروري يضيف خبرتهم إلى خبراته، ويجنّبه الوقوع في مزالقهم، وقد قيل: “تجريب المجرِّب تضييع” .. تضييع للجهد والأثر والعبرة، كما قيل: “في التجارب علم مستحدث”، سواء كانت تجاربنا أو تجارب من سبقنا شريطة أن نعيها لنستفيد منها.

يقول إبراهيم المازني في وصفه لما استفاده من الكتب: (وأردت أن أعرض على ذهني ما أمدتني به الكتب من الهداية، فإذا الذي في نفسي ضباب، وإذا المُصوَر تتداخل دروبه ومسالكه، وإذا ظاهر التجريب لا يغني عن التجريب، وتوهّم الفهم ليس معناه الفهم الصحيح، وإذا بي قد شارفت الأربعين، وما زلتُ في مبلغ علمي بالدنيا، وفهمي للحياة، وإدراكي لحقائقها طفلا يمد أصابعه إلى الجمرات يحسبها لعبة أو طعاما).

نعم بعد كل هذه السنين وبعد كل هذه القراءات لا يزال الأديب إبراهيم المازني يعدُّ نفسه طفلا في فهمه للحياة وإدراك حقائقها لماذا ؟ لأنه افتقد التجارب الشخصية في الحياة، لم يعرف حقيقة الفزع والهول، ولا السرور واللذة، إلا ما يوصف له من وقعها، فلم يعايش اواقع كما هو، لم يخالط الناس ويعاشرهم كما ينبغي (كما يذكر).

من التجارب التي يعرضها القرآن الكريم في هذا الشأن تجربة العطاء والمنع لدى أصحاب الجنة الذين خرجوا منها بدرس أكثر وعيا، واعترفوا بأنهم كانوا ضالين بمجرد أن رأوا جنّتهم (حديقتهم) محترقة، ثم استغفروا الله على خبث نيتهم وعقدهم العزم على منع المساكين صدقاتهم، عندما قال أوسطهم (لَوْلَا تُسَبِّحُون) ووجهوا اللوم إلى بعضهم البعض، ثم قالوا “إنا إلى ربنا راغبون”.

إن الاستفادة من تجاربنا يقينا من تكرار أخطائنا، وتجنب السقوط في منحدرات الحياة الشائكة، وهذا ما عبرّ عنه الشاعر في قوله:

واصنع كمـــاشٍ فوق أر ض الشوك يحذر ما يرى

لا تحقـــرن صغيــرة إن الجبـال من الحصى

والكون منظومة متكاملة بما فيها الإنسان والحيوان والنبات والمخلوقات جميعها وحدة واحدة، تتأثر من بعضها البعض، والإنسان هو المعنيّ الأول للاستفادة من هذه المنظومة، وهو بحاجة إلى تحليل التجارب اليومية واستلهام الدروس والعبر من أحداث الحياة وتقلباتها وهذا ما يساعده في تطوير ذاته واكتساب المهارات المطلوبة في الحياة بالإضافة إلى ما يكتسبه من علوم ومعارف من الكتب ومصادر المعرفة كالانترنت وغيرها كما أُثر عن الإمام علي (ع) ” أنت تزيد بالعلم والتجارب ” .

لا يمكن لأبنائنا الاستغناء عن فهم الحياة وإدراك حقائقها والقدرة على التعامل معها إلا بجمع تجارب الذين سبقوهم إلى تجاربهم والاستفادة منها، بالإضافة إلى ما يتزودون به من علوم ومعارف كثيرة في مجالات الحياة المختلفة.

وللآباء نصيب في زيادة وعي الأبناء بفتح باب السؤال والاستفسار عن الغامض من الأمور أمامهم، واستثارة عقولهم للتفكير فيما حولهم من مظاهر، ومساعدتهم للانخراط في قضايا مجتمعهم، فبذلك تتوسّع آفاق خبرتهم ويزدادون نضجاً في التعامل مع الآخرين.

ولا ننسى في هذا المجال التأكيد على التمسك بالفضيلة والأخلاق إلى جانب العلوم والمعارف، فبها يتطور الإنسان وتسمو أخلاقه، وتصفو ذاته التي هي القيمة الحقيقية للإنسان.

شارك بتعليقك

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني.

عصى آدم..الحقيقة دون قناع
  • معصية آدم، نموذج لمفردة في البناء المعرفي! وحلها سيعيد لإنساننا خارطة نفسه وهويته الضائعة وهدف وجوده
  • معرفة هذه الحقيقة صدمة تعيد الوعي، نعقد بها مصالحة بين التراث والمستقبل لنعيش لحظة الحاضر بيقظة أننا على جسر التحول الإنساني، الذي بدأ في الأرض بالإنسان الهمج ليختتم بالخليفة "الإنسان الإنسان"
مسخ الصورة..سرقة وتحريف تراث الأمة
  • أخذت الحركة الصهيونية على عاتقها غرس دولة لليهود في خاصرة الأمة فزوروا التاريخ العربي ونسبوه لليهود
  • اختلقوا لغة بسرقة إحدى اللهجات القبلية العربية البائدة وأسموها اللغة العبرية
  • أقحم الدين والتاريخ للسيطرة على عقول الناس ونقلت رحلات الأنبياء من مواقعها ليأسسو لاحتلال فلسطين فساهم هذا التزوير في مسخ صورة العربي والمسلم في الثقافة الغربية
مفاتيح القرآن و العقل
  • إذا كان كلام الله واحداً ودقيقاً، كيف حصل له مائة تفسير؟
  • ماذا لو كانت أمتنا تقرأه وتترجمه معكوساً، كلبسها إسلامها مقلوباً؟
  • أصحيح هذا "المجاز" و"التقديرات"،و"النسخ" و"التأويل" و"القراءات"؟
  • هل نحن أحرار في قراءة القرآن وتدبره أم على عقولنا أقفال؟
نداء السراة..اختطاف جغرافيا الأنبياء
  • ماذا يحدث عندما تغيب حضارة عريقة
  • هل تموت الحقيقة أم تتوارى عن الأنظار لتعود .. ولو بعد حين؟
  • هل تقبل بلاد وادي النيل بعودة حضارة القبط الغريبة؟
  • هل تقبل نجد بعودة موطن آباء الخليل إبراهيم وبنيه إسحاق ويعقوب؟
الخلق الأول..كما بدأكم تعودون
  • إن البشر الأوائل خرجوا قبل مئات آلاف السنين من "قوالب" الطين كباراً بالغين تماماً كالبعث
  • جاء آدم في مرحلة متأخرة جداً من سلالة أولئك البشر اللاواعي، فتم إعادة تخليقه في الجنة الأرضية ونفخ الروح فيه
  • آدم أبو الناس ليس هو آدم الرسول الذي أعقبه بمئات القرون
الأسطورة..توثيق حضاري
  • الأساطير وقائع أحداث حصلت إما من صنع الإنسان، أو من صنع الطبيعة، أو من صنع السماء
  • لكل اسطورة قيمة ودلالة وجوهراً وتكمن فيها أسرار ومعاني بحاجة إلى إدراك وفهم
  • من الضروري العودة إلى اللغة العربية القديمة بلهجاتها المختلفة لفك رموز الأساطير التي غيب الكثير من مرادها ومغازيها
التوحيد..عقيدة الأمة منذ آدم
  • لو أنا أعدنا قراءة تراثنا بتجرد لأدركنا حقيقة اليد الربانية التي امتدت لإعداة الانسان منذ خطواته الأولى على الأرض بما خطت له من الهدى
  • التوحيد منذ أن بدأ بآدم استمر في بنيه يخبو حيناً ويزهو حيناً آخر، ولكنه لم ينطفئ
بين آدمين..آدم الإنسان وآدم الرسول
  • هل هما (آدمان) أم (آدم) واحد؟
  • من هو (آدم الانسان) الأول الذي عصى؟
  • من (آدم الرسول) الذي لا يعصي؟
  • ماهي شريعة (عشتار) وارتباطها بسقوط آدم الأول حين قارب شجرة المعصية؟
طوفان نوح..بين الحقيقة و الأوهام
  • ما قاله رجال الدين والمفسرون أعاجيب لا يقبلها المنطق ولا العقل السليم في محاولتهم لإثبات عالمية الطوفان
  • استثمر المستنفعون من اليهود هذه القضية ليبتدعوا القضية السامية ويرجعوا نسبهم إلى سام بن نوح (ع)
  • قضية طوفان نوح (ع) لا تكشف التزوير اليهودي فحسب، بل تضع يدها على موضع الداء في ثقافة هذه الأمة