في ليلة من ليالي الشتاء الباردة، حيث الثلوج تملأ الشوارع، وقف فتى حافي القدمين أمام نافذة إحدى المحال التجارية وقد ألصق وجهه المحتقن من شدّة البرد لينظر من خلالها إلى الأحذية المنوّعة والجميلة المعروضة فيه، وكانت تموج في عينيه نظرات حيرة وحاجة .. وكأنه يحكي بها آلامه، ولله يشكو حاجته.
في هذه الأثناء، مرّت سيّدة كانت تقصد هذا المحلّ، فلفت نظرها منظر الفتى وهو ينظر بحسرة إلى ما هو معروض في محلّ الأحذية هذا، فدخلت المحلّ ثم خرجت بعد دقائق وفي يدها زوج من الأحذية، فنادت على الفتى: يا فتى! تفضّل هذا الحذاء هدية لك، فالتفت إليها فرحاً، ومشى نحوها مسرعاً، وقد اغرورقت عيناه بالدموع، فسألها بصوت مرتعش والسعادة تملأ كلّ ذرّة من كيانه: سيدتي، هل أنتِ الله؟! فقالت: “لا يا بنيّ، إنما أنا إحدى عباد الله”!! فردّ عليها ببراءة الطفولة: “نعم .. طبعاً .. كنت أعلم أنه لابد أن يكون بينك وبين الله صلة قربى”.
اشتبه الفتى المعوز بين فاعلة الخير هذه وبين الله ربما لأنه كان يدعو الله ويطلب حاجته منه (وحده) فجاءت هي لتلبّي هذه الحاجة بعينها، أو ربما لأنه لمس فيها ما اعتاد أن يلقاه من عناية (ربّانية) خاصة تحلّ عليه في أحلك ساعات الشدّة من حيث لا يحتسب، أو لوجود خصال مشتركة بينهما، كالرحمة والحب والعطاء .. وعندما نفت أن تكون هي الله – كما ظنّ – لم يشكّ ببساطة فطرته، وسلامة قلبه ومنطقه في وجود قرابة بينها وبين الله .. ومهما يكن فقد استطاعت هذه السيدة طيبة القلب أن تكون مثيلاً لله في عيون أحد عيال الله دون أن يكلّفها الكثير سوى لحظة وعي ويقظة تبعها قرار إنساني حكيم.
الحياة كلها فرص مفتوحة لنا لنمارس “آدميّتنا” حيث أنّ اسم “آدم” – أول اسم أُطلق على الإنسان بعد أن نُفخ فيه من روح الله وأُعطي الوعي – يعني “المثيل” أو “الشبيه” ويعبّر عن هذه الفكرة، ومنه جاءت كلمة “دمو” أي “الدمية” وهي عبارة عن نسخ صورة شيء عن شيء، لنكون “على صورة الربّ” كما خُلقنا أوّل الأمر- بحسب تعبير بعض النصوص الدينية – ولكن “ابن آدم” غفل عن اسمه الأوّل وعن دوره الأهم فقلّما يتصيّد الفرص ليتشبّه بالله ولو مرّة في العمر حين تأتيه الفرصة، أو مرّة في كل يوم إن شاء هو وقرّر بوعي وإرادة.
ربما لأنّ هذه الفكرة لم تُعطَ حقّها من التداول والتقريب للأذهان، مع أنها أيسر بكثير من تمثّل صفة “خلافة الله” التي نظّر لها المتقدّمون والمتأخّرون كثيراً، ولكن، ولعلّ ما تحمله كلمة الخلافة من شعور بالمسئولية ثقيل تجعلها غير قابلة أو صعبة التطبيق في الحياة اليومية، بينما موارد التشبّه بالله لا حدّ لها ولا حصر، فما أكثر صفات جمال الله التي يمكننا أن نجد لها مصاديق في زحمة مشاغلنا اليومية، ما أكثرها.
وحده “الإحسان” لو اتُّخذ عنواناً ليوم من أيام حياتنا لاقتربنا من مثالنا “الله” درجات، فكل ما حولنا من مخلوقات بحاجة إلى من يُحسن إليها، ومعاني الإحسان تتنوّع وتتّسع لتبدأ من إلقاء كسرة خبز لحيوان جائع وتنتهي بتلمّس حاجة المعدمين وقضائها، وهذه أصبحت نادرة بسبب انشغال أكثر الناس بأنفسهم وانغماسهم في ذواتهم ليعيشوا حالة سكر لن ينتبهوا منها إلاّ على وقع كارثة كونية أو مصيبة شخصية، حينها قد يرجع البعض إلى الله إن كان لازال يحتفظ ببقية من “آدميّته”، وإذا أمهلته المصيبة أو الكارثة، وقد يتراجع البعض القهقرى فيكفرون بمن أنعم عليهم عند أوّل حرمان في حياتهم، لأنهم أدمنوا حالة إشباع الرغبات الدائم فأيّ حرمان يعني نهاية العالم بالنسبة له.
الأفراح والأعياد، كما الكوارث الطبيعية والمصائب، والمناسبات الدينية وغير الدينية، السنوية منها والفصلية، كلّها مناسبات ليعبّر فيها “بنو آدم” عن تمسّكه بصفته الأولى واعتداده بآدميّته التي شُرِّف بها دون بقية خلق الله، وبعضها رسائل تطرق أبوابنا بين الفينة والأخرى لتنبّهنا من غفلتنا – كالبركان الثائر في أندونيسيا في وجه كل من حوله، والرماد الحارق الذي يحوّل من يهبّ عليه إلى تمثال متفحّم لا حراك له – وبعضها الآخر محطّات ثابتة ومستقرة في عقائدنا وعرفنا تحفّزنا على الرجوع إلى الله والتشبّه به، لكي نعيد صلة القرابة بيننا وبينه، فنكون مرآته العاكسة لجمال صفاته حتى ليحسبنا الطفل البريء أننا الله أو أحد أقربائه، فمن منّا لا يريد أن يكون مثيلاً لمثاله البديع ولو لمرّة في تاريخ حياته، فيجعل لنفسه قدم صدق عند مليك مقتدر؟
يُذكر في طرفة ذات مغزى، أنّ أحد الصالحين المصلحين أُرسل إلى النار عن طريق الخطأ، وبعد فترة وجيزة ضجّ الشيطان من وجوده، وصرخ على الملائكة غاضباً: لماذا أرسلتم لي جاسوساً إلى جهنم، فمنذ اليوم الأول الذي أتى “ابن آدم” هذا إلى النار لم تنته المناقشات بينه وبين أهل النار وفي كل يوم يزداد عدد الأوّابين والتائبين إلى الله وبالتالي فإنه يصعّب المهمة عليّ .. خذوه، فليس هذا مكانه الصحيح! ولسان حال المصلح يقول: “عشْ بعشق ومحبّة صادقة بحيث لو أُلقي بك في جهنم عن طريق الخطأ فسوف تعاد إلى الجنّة بطلب من الشيطان نفسه!”.