“.. فأوغلوا فيه برفق”

النطق بالشهادتين هي جواز المرور للدخول في الإسلام، فإذا قال إنسان: “أشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمداً رسول الله” فقد أسلم، وأصبح من زمرة المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم من الحقوق والواجبات، ولكن السؤال الذي يتبادر إلى الذهن هنا: هل كلُ مَنْ نطق بتلك الكلمات “شهد” حقاً لله بالإلوهية ولمحمد(ص) بالرسالة؟ بمعنى هل عرف الله سبحانه فشهد بأن لا إله إلا هو، وعرف محمداً(ص) فشهد بأنه رسول الله؟ لأنّ الشهادة لا تكون إلا عن معرفة، ومجرد النطق بالشهادتين لا يكفي لإثباتها.

ولكن الرسول الأعظم(ص) اكتفى من أصحابه في بداية الدعوة بالتلفظ بشهادة التوحيد، بل كان مطلبه مقتصراً حينها على ذلك، فكان يقول(ص): “قولوا لا إله إلا الله تفلحوا”، ولم تُفرضْ بعدُ الصلاة ولا الزكاة ولا الصيام ولا الجهاد، كما لم تبدأ قائمة المحرّمات بالنزول بعد، بل جاء الأمر والنهي متأخراً قليلاً ومتدرجاً لدرجة أن المسلمين كانوا يؤدون الصلاة وبعضهم لازال يشرب الخمر، حتى نزل قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ)(النساء:43)، وكانت الأولوية القصوى في برنامجه حينذاك هي إعلان الرفض لعقيدة الشرك السائدة واستبدالها بعقيدة التوحيد، الذي تجسّد حينها في النطق بالشهادتين، وكان ذلك يعني تحوّلاً جذرياً في طريقة التفكير والتعاطي مع مسلمات المجتمع وعاداته وتقاليده وأعرافه، وهي أهم عقبة يقتحمها الإنسان.. أن يُفعّل عقله، أن يتحرّر من نير أغلاله الفكرية، فأنْ يقولَ أحدُهم: “لا إله إلا الله” في مجتمع يعجّ بعبادة الأصنام ويستنكر أهله جعل الآلهة إلهاً واحدا، فتلك سباحةٌ ضد التيار، تحتاج إلى قناعة وإرادة قويتين، فهما أساس البناء لما يأتي، والذي يجب أن يكون قوياً وإلا انهار البناء.

نعود إلى التدرّج، قد يقول قائلٌ: تلك كانت البداية ولكن الدين بعد ذلك اكتمل وليس لمسلم بعد اكتمال الدين أن يأخذ بعضه ويدع بعضه، وهذا صحيح في نفسه بمعنى أن الدين كعقيدة وعبادات وأخلاق ومنظومة قيم وتعاليم قد اكتمل في نفسه، ولكنه ليس بالضرورة قد اكتمل في نفوس المسلمين كاستيعاب وتطبيق وممارسة لأن ذلك مرهون بظروف الأفراد وقدراتهم فلا يكلّف الله نفسا إلا وسعها، إنه يشبه تماماً تعليم الطفل المسلم الصلاة وتدريبه على الصيام، فإنّ ذلك لا يتم دفعة واحدة وإنما لكي يقوى على الصيام لابد من تدريبه على الامتناع عن الأكل والشرب ساعات من النهار تزيد أو تنقص حسب استعداده الجسمي والنفسي وبالطبع العقلي، فلا يُحمّل الطفل من مسائل العقيدة والفكر ما لا طاقة لعقله الطري بها. ما يصدق على الطفل المسلم يصدق أيضاً على معتنق الإسلام حديثاً فهو حَدَث في إسلامه، ينبغي لنا أن نقبل منه التدرّج في فهمه الإسلامَ وتطبيقه، وأن لا نكون حدّيين في الحكم عليه وعلى أمثاله، كالتائب الراجع إلى الله بعد طول انقطاع، خصوصا فيما يتعلق بعلاقتهم الخاصة مع الله سبحانه التي يحكمها حال القلب أكثر من القالب، فضلاً عن أن نحقنهم بداء العصبية المذهبية منذ البداية، فتلك جريمة بحقهم تلبّس عليهم دينهم.

لا يخلو أيُّ مسلم منا في وقت من الأوقات من نقص في التزامه بالإسلام فلسنا بمعصومين، إنْ لمْ يكنْ في الممارسة والتطبيق ففي مستوى الفهم والوعي والمعرفة بذلك التطبيق، وهو لعمري الأهم، كما أشار إلى ذلك نبينا الأكرم(ص) بقوله: (ما قسم الله للعباد شيئاً أفضل من العقل، فنوم العاقل أفضل من سهر الجاهل، وإفطار العاقل أفضل من صوم الجاهل، وإقامة العاقل أفضل من شخوص الجاهل..)، فليس المطلوب أداء العمل فقط بل أداؤه بوعي، وإلا صار جهلاً ومنفذاً للشيطان يتسلل منه إلى تخريب العقول، كاعتبار البعض تفجير نفسه وسط الأبرياء من المصلين أو المعزين أو مرتادي الأسواق للتبضع جهاداً في سبيل الله!

حين يتحدث البعض أو يتصرف وكأنه لم يقترف معصية في حياته قط فهو لا يعكس الحقيقة، والأدهى من ذلك حين يطالب الآخرين بأن يكونوا معصومين وفق منظوره وفهمه للإسلام، فهو إذن يُصادر عليهم عقولهم في الفهم وحرياتهم في الاختيار، وهو خلاف ما جاءت به شرائع السماء، ألم يقلْ المسيح(ع) لأصحابه حين أرادوا رجم الزانية: “من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر”؟ وكأنّه أراد أن يقول لهم بمنطق القرآن: (كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ..)(النساء: الآية94)

إن الدعوة إلى الله عز وجل تحتاج إلى الكثير من المعرفة بالنفس البشرية وأحوالها حتى تكون على بصيرة من نهجها الذي لن يجافي المنطق والرحمة مسلكاً في التعامل مع الآخر المختلف مهما كانت درجات الاختلاف معه، فالرسول الأعظم(ص) ما جاء إلا رحمة للعالمين، وهو القائل(ص): (إنّ هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق، ولا تكرّهوا عبادة الله إلى عباد الله، فتكونوا كالراكب المنبت الذي لا سفراً قطع، ولا ظهراً أبقى)، فاللهَ اللهَ في دينكم يا أيّها المسلمون.

شارك بتعليقك

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني.

عصى آدم..الحقيقة دون قناع
  • معصية آدم، نموذج لمفردة في البناء المعرفي! وحلها سيعيد لإنساننا خارطة نفسه وهويته الضائعة وهدف وجوده
  • معرفة هذه الحقيقة صدمة تعيد الوعي، نعقد بها مصالحة بين التراث والمستقبل لنعيش لحظة الحاضر بيقظة أننا على جسر التحول الإنساني، الذي بدأ في الأرض بالإنسان الهمج ليختتم بالخليفة "الإنسان الإنسان"
مسخ الصورة..سرقة وتحريف تراث الأمة
  • أخذت الحركة الصهيونية على عاتقها غرس دولة لليهود في خاصرة الأمة فزوروا التاريخ العربي ونسبوه لليهود
  • اختلقوا لغة بسرقة إحدى اللهجات القبلية العربية البائدة وأسموها اللغة العبرية
  • أقحم الدين والتاريخ للسيطرة على عقول الناس ونقلت رحلات الأنبياء من مواقعها ليأسسو لاحتلال فلسطين فساهم هذا التزوير في مسخ صورة العربي والمسلم في الثقافة الغربية
مفاتيح القرآن و العقل
  • إذا كان كلام الله واحداً ودقيقاً، كيف حصل له مائة تفسير؟
  • ماذا لو كانت أمتنا تقرأه وتترجمه معكوساً، كلبسها إسلامها مقلوباً؟
  • أصحيح هذا "المجاز" و"التقديرات"،و"النسخ" و"التأويل" و"القراءات"؟
  • هل نحن أحرار في قراءة القرآن وتدبره أم على عقولنا أقفال؟
نداء السراة..اختطاف جغرافيا الأنبياء
  • ماذا يحدث عندما تغيب حضارة عريقة
  • هل تموت الحقيقة أم تتوارى عن الأنظار لتعود .. ولو بعد حين؟
  • هل تقبل بلاد وادي النيل بعودة حضارة القبط الغريبة؟
  • هل تقبل نجد بعودة موطن آباء الخليل إبراهيم وبنيه إسحاق ويعقوب؟
الخلق الأول..كما بدأكم تعودون
  • إن البشر الأوائل خرجوا قبل مئات آلاف السنين من "قوالب" الطين كباراً بالغين تماماً كالبعث
  • جاء آدم في مرحلة متأخرة جداً من سلالة أولئك البشر اللاواعي، فتم إعادة تخليقه في الجنة الأرضية ونفخ الروح فيه
  • آدم أبو الناس ليس هو آدم الرسول الذي أعقبه بمئات القرون
الأسطورة..توثيق حضاري
  • الأساطير وقائع أحداث حصلت إما من صنع الإنسان، أو من صنع الطبيعة، أو من صنع السماء
  • لكل اسطورة قيمة ودلالة وجوهراً وتكمن فيها أسرار ومعاني بحاجة إلى إدراك وفهم
  • من الضروري العودة إلى اللغة العربية القديمة بلهجاتها المختلفة لفك رموز الأساطير التي غيب الكثير من مرادها ومغازيها
التوحيد..عقيدة الأمة منذ آدم
  • لو أنا أعدنا قراءة تراثنا بتجرد لأدركنا حقيقة اليد الربانية التي امتدت لإعداة الانسان منذ خطواته الأولى على الأرض بما خطت له من الهدى
  • التوحيد منذ أن بدأ بآدم استمر في بنيه يخبو حيناً ويزهو حيناً آخر، ولكنه لم ينطفئ
بين آدمين..آدم الإنسان وآدم الرسول
  • هل هما (آدمان) أم (آدم) واحد؟
  • من هو (آدم الانسان) الأول الذي عصى؟
  • من (آدم الرسول) الذي لا يعصي؟
  • ماهي شريعة (عشتار) وارتباطها بسقوط آدم الأول حين قارب شجرة المعصية؟
طوفان نوح..بين الحقيقة و الأوهام
  • ما قاله رجال الدين والمفسرون أعاجيب لا يقبلها المنطق ولا العقل السليم في محاولتهم لإثبات عالمية الطوفان
  • استثمر المستنفعون من اليهود هذه القضية ليبتدعوا القضية السامية ويرجعوا نسبهم إلى سام بن نوح (ع)
  • قضية طوفان نوح (ع) لا تكشف التزوير اليهودي فحسب، بل تضع يدها على موضع الداء في ثقافة هذه الأمة