بعد شجار حاد بينه وبين شريكة حياته كاد يودي إلى انفصال وطلاق لا رجعة بعده، رجع إلى نفسه وقال: فلنطو الصفحة، ولنبدأ صفحة جديدة، لا شجار فيها، ولا أنانية، ولا تحكمات سلطوية، ولا ابتزاز عاطفي، ولا تهديد ووعيد، ولا نكث بالعهود، ولا كذب، ولا خيانة، بل صدق وشفافية، وشراكة وحوار، واحترام متبادل، وتواصٍ بالحق … أطرقت وهي تسترجع شريط الأحداث الأليمة التي مرّت بها، وأردفت: ولكن طيّ الصفحة مرّة بعد مرّة يرهق، فكم قضينا من وقت ونحن نملأ تلك الصفحة بالعهود والمواثيق، بما يليق وما لا يليق، وما لنا وما علينا، ثم محونا، ثم صحّحنا، ثم بدّلنا، ثم اختلفنا، ثم غيّرنا، ثم أعدنا الكتابة، حتى تشوّهت الصفحة وكادت تتمزّق لكثرة ما أجرينا عليها من تغيير وتصحيح، وقد شهد أبناؤنا شجاراتنا ودبّ الخلاف بينهم وكادوا يتقاتلون بسبب أنانيتنا، فما الذي يضمن استمرار الوئام بيننا؟
ما جرى بين شركاء الوطن في المرحلة الفائتة شبيه بخلافات بين شريكي حياة تربطهما وشائج العيش المشترك والمصالح المتداخلة، ولابدّ لهما من بعض، لا كشركاء التجارة الذين يمكنهم الاحتكام إلى القضاء، أو الانفصال متى شاءوا ليأخذ كلّ نصيبه ويمضي، فهناك علاقة قدرية قائمة بين أبناء الوطن الواحد – حكّاما ومحكومين – فإما أن يحكّموا العقل ويتوصلوا بالحكمة إلى حلول للمشاكل الطبيعية التي تحدث بين أي شريكين، أو يعيش الجميع في تباغض وشقاء.
“عدلُ السلطان خيرٌ من خصب الزمان”، و”العدل جُنّة الدول”، و”يدوم الملكُ بالكفر ولا يدوم بالظلم”، مأثورات شريفة كثيرة قيلت تحفيزاً على العدل وتنفيراً من الظلم، وبما أنّ الناس تردّدها دون يقين فإنها لا تعدو أن تكون حكمة قيّمة تُفتتح بها خطبة أو يُزيّن بها جدار، ولكن لا تطبيق لها على أرض الواقع وخاصة أنّ شواهد كثيرة تثبت أنّ حكومات ظالمة عاشت طويلاً، ويغيب عنّا بأنّ ثمة فرق بين دوام الملك وأن يعيش طويلاً، ولعلّه لم يفكّر حاكم قط، ولم تنصحه بطانته أن يعدل ليرى أنه فعلاً “خيرٌ من خصب الزمان” على مملكته، لا بهدف تمحيص صحّة الحديث أو عدم صحّته بل بيقين وقناعة تامة بأنّ العدل يثمر أمناً ورفاهاً وسعة وحبوراً من حيث لا يحتسب.
من أبلغ ما قيل في العدل والظلم أنّ “في العدل سعة، ومن ضاق عليه العدل فالجور أضيق”، كلمة قالها الإمام علي (ع) حين ضاق المرفّهون من عدله في توزيع الثروات ليساوي بين الفقراء والأغنياء بعد تولّيه الخلافة ليسود العدل بين الناس، فأخذ من المُتخَم ليعطي المعوز، وعزل غير الكفؤ وعيّن مكانه المؤهل الكفؤ دون النظر إلى وجاهته الاجتماعية أو مستواه الاقتصادي، سياسة لو تنتهجها الحكومات المتأزّمة مع شعوبها، ويستوعب آثارها الإيجابية الناس حُلّت جُلّ قضاياهم، سياسة قد تغضب أقلية مفسدة وطاغية، ولكنها تتّسع لأكثرية ساحقة مستحقّة ومسحوقة، فبها سيُطبّق مبدأ تكافؤ الفرص صدقاً، ويوضع الشخص المناسب في المكان المناسب، وتُكتشف الطاقات الكامنة وتُستثمر لإنعاش الاقتصاد، ويقلّ الاحتقان الناتج عن الشعور بالغبن والظلم، وينشغل الجميع بالتنمية عوضاً عن الانشغال بمناكفة بعضهم بعضاً، ويعيش الكل في سعة العدل وإن ضاق على البعض بدئاً فمردّه أن يعلم أن “الجور أضيق”.
يُثمن الجميعُ الخطوة التي قام بها جلالة الملك بتبييض السجون لطيّ صفحة من صفحات العنف المتبادل، وعدم الثقة بين شركاء الوطن، وبما أنّ طيّ الصفحة في كل مرّة يرهق، فلابدّ للجميع من تحمّل مسئولية المرحلة القادمة وأخذ العبرة من الدرس السابق، فلا تكفي الوعود إذا لم يَفِ بها أصحابها، وحذار من اللعب بالنار باستخدام سياسة “فرّق تسد” بين فرقاء الوطن، ولا لركوب موجة الدين والطائفية لتحقيق الأهداف الشخصية على حساب السلم الاجتماعي، وكفى للمتاجرة بمستقبل الشباب والأطفال واستخدامهم وقود نار لا ناقة لهم فيها ولا جمل، ألا فليُبثّ فيهم حبّ العمل والإخلاص للوطن، وليُحرَّضوا على تلقي شتّى أنواع العلوم ليتأهلوا للمشاركة والفوز في المسابقات العلمية العالمية، ادفعوهم نحو الاطمئنان لمستقبلهم وفُرَص التميّز، افسحوا لهم مجال الاختراع والابتكار، افتحوا أبواب المنافسة فيما هو خير لمستقبل أوطانهم وأمّتهم من فكر وثقافة وفنّ وخدمة، حرّروهم من التبعية، واضمنوا شعباً واعياً يتحرّك كلّ فرد فيه بمحض إرادته الواعية ودافعه الداخلي لصالح الوطن لا الطائفة ولا الحزب.
العبء الأكبر هنا رُبّما يُلقى على عاتق وزارة التربية والتعليم، ووسائل الإعلام والمنابر الدينية، بعد ما كان في فترة الاحتقان ملقى على جهاز الأمن وقوة الدفاع، فيبدو أنه لا وزارة التربية والتعليم استفادت من التجارب السالفة بدليل أنها تصرّفت تماماً كما الحقبة السابقة وتعاملت مع الطلبة وكأنهم مجرمون، وتعسّفت في قراراتها بما لا يتناسب مع مصلحة الطالب ومستقبله، ولا وسائل الإعلام والمنابر التي كانت تنفخ في الخلافات وتؤججها بدلاً من توخي الموضوعية والحيادية في نشر الأخبار لكي تمتص غضب الشارع وتقلّل من الاحتقان.
فهل بتنا اليوم مؤهّلين لطيّ صفحة الماضي الكئيبة لنكتب صفحة وطنية أكثر إشراقاً وتشريفاً لنا حين يقرأها أبناؤنا، أم أننا لازلنا كفئات نعيش مراهقة سياسية ليس وراءها فطام وسلام؟