ماذا لو صدق المايا؟

اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا، واعمل لآخرتك كأنّك تموت غدا”، كلمة يكاد يحفظها جلّ المسلمين العرب، حفظناها ونحن في الابتدائية، رويت في تراثنا مرة عن رسول الله(ص) ومرّة عن عليّ (ع)، ومرة عن عمر(رض)، فكأنما أريد لها أن تخترق الحجب المذهبية كلها، ربما لعظم معناها وموجز عبارتها، وحلو نسقها الذي ترتاح له أذن العربي الشغوفة في العبارة بالمعنى والقالب معا.

بالأمس حينما قوي حضور الآخرة في قلوب المؤمنين، دفعهم هذا الحضور لترك العمل للدنيا، فكانوا فيها من الزاهدين، حتى تتابعت حكايات زهدهم فكانوا يدفعون أنفسهم نحو الاخشوشان خشيةً من الدنيا أن تغويهم بنعمها عن الآخرة بنعيمها، فأخذوا لا يأكلون إلا الجشب، ولا يلبسون إلا الخشن، حتى كان أحدهم يخاف أن يأتدم بإدامين، فقيل لهم: مَن حرّم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق؟ اعملوا لدنياكم كأنكم تعيشون أبدًا، لما في العمل للدنيا من عمارة الأرض وازدهار أهلها. أوليست عمارة الأرض مهمة آدم وأبنائه؟

أولئك قومٌ قد ذهبوا، أو قلّوا وندروا حتى لا يكادون يذكرون إلا بـ “كان” دون بقية أخواتها، وحتى لم يعد الناس بحاجة للتذكير بالحكمة الذهبية في شقّها الأول، بل وقست القلوب عن أن تتّعظ بشقها الثاني، فلا تكاد ترانا نعيش اليوم على وجلٍ مِن أن لا نستيقظ إلا ونحن في العالم الآخر، وإذا فعلنا فإنما لخوف الفوت، نخاف أن يفوتنا بالموت ما بقي ممّا نتمناه من الدنيا، الدنيا التي ازّيّنت في أنفسنا حتى صارت في أعيننا أحلى وأهنأ من جنان الرحمن الموعودة.

كيف سيكون عمل مؤمن تيقن أنّ غدًا هو آخر يوم له في الدنيا؟ بل وغير المؤمن، إنّ أول أمر سيلحّ على وجدانه بلا شك، العودة لقائمة أعماله، ليجرّد بقية حقوق الآخرين عنده، فيسأل نفسه عن مظالم العباد عنده، أيّهم كانت له قِبَلَهُ مظلمة ظلمها إياه في نفسه، أو في عرضه، أو في ماله وولده، أو غيبة اغتابه بها، أو تحاملٌ عليه بميل أو هوى، أو أنفة أو حميّة، أو رياء أو عصبية، غائبا كان أو شاهدا، وحيّا كان أو ميتا، ليسعى لردّها إليه والتحلل منه؟

لا يعلم أحدٌ متى يحين يوم موته، ولهذا كانت العبارة تقول: كأنك تموت غدًا، فكل يوم نحياه فهو في دائرة الاحتمال بأن يكون يومنا الأخير، ومن هنا فواجب مراقبة سلامة القلب والجوارح في أعمالها واجب مستمر، والمحاسبة الذاتية ينبغي أن تجري وفق يومية منتظمة، ولكن ماذا عنّا كأمة؟ أوليس للأمم هي الأخرى أيام تموت فيها؟ أوليس لكل أمّة أجل؟ فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون؟ فماذا لو صدقت نبوءة المايا؟ وكان العام 2012 نهاية التاريخ، أو دمار العالم أو معظمه، أو أيّ حدث كارثيّ على البشريّة يجعل كلّ ما قبله غير ذي قيمة، ماذا علينا كعرب ومسلمين أن نتدارك، لو كُنّا مؤمنين؟

كما أنّنا نعلم أنّ الموت حقّ ولكن لا نعلم ساعته، ومع هذا فعلينا أن نعتبر كلّ يوم هو يومٌ محتمل بأنْ يكون الأخير، وفي هذا عين العقل وحكمة التدبير، فكذلك يوم الساعة لا نعلمه على وجه التحديد، ولكن فلنفترض جدلا صدق نبوءة المايا، فإنّ الذي سينبغي علينا مراجعته من شأن بلداننا لو صدّقنا هذا الاحتمال، هو ما علينا بالفعل أن نُجهّزه بالعُدّة اليوم قبل انقضاء المدّة.

أسيكون جميلاً لو قامت إرهاصات دمار العالم ونحن نقتل أنفسنا على حظّ من الدنيا لن يلبث أن يزول ويتْفه بعد تسعة أشهر؟! هل تستحقّ هذه الصبابة مِن الأجل أن نذبح في سبيلها ضميرَنا وكلّ كرائم خصالنا؟ وأن نُسوِّد صحائفنا بسيئات أعمالنا؟ نكثر الأثرة ثم ننكر قرينها الجزع، نعيش في زمن الحرية بسياسة زمن المولوية، العالم يحكم بالبرلمان ونحن نقرع بالصولجان، قد ملكت الناس في كل الدنيا أعنّتها، ونحن عبيد العصا والجزرة؟! تضطرب بلداننا وتموج لأجل الحرية والعدالة والشراكة، ثمّ قد يتوهّم النصرَ المُعتجَل ثائرُنا فيُغالي ويُعالي، ويتباطأ فيما يُدعى إليه من الحوار الجادّ ويتمنّع، ثم يبطش باطشُ السلطات فيتجبّر ويتكبّر، وحين يظهَر قليلاً ويُدعى لما كان يدعو إليه من قبل من الحوار يقول: الآن وقد نشبت مخالبنا فيه؟ ويتنادى: الانتقام الانتقام، القصاص القصاص، كأنّه المقتول والمثكول، فكأن حارث بسوس الجاهلية قام ينادي:
يا جبير الخيرات لا صلحَ حتى        نملأ البيد من رؤوس الرجال
وتقرّ العيون بعد بكاها                حين تسقي الدما صدور العوالي

وغدًا تكرّ الأيام كرّةً جديدة، ومتى تقف الأيام عن كرّاتها؟! ولكنها اليوم لا تتلبّث إلا قليلا، فهل سنمضي بقية أشهرنا التسعة قبل قيامتنا في رعونةِ الخصومة؟ أم أنّ علينا ترك أخلاق الجاهلية، والعودة لأخلاق الإسلام، فنعفُّ عند الخصومة عن فجورها تجنّبًا لأخلاق المنافقين، ونعفو عمّن ظلمنا عند القدرة، التماسًا لأخلاق الشاكرين، حين نجعل العفو شكرًا لنعمة القدرة؟

هل نموت ونحن نتقاذف السباب واللعان وقول الفحشاء وسعي الضراء والإيذاء، أم نموت على برد التسامح وستر العورة والعفو عن الزلة والتعالي عن النقمة؟ خاصّةً مع وجود جادّة وسط ومشتركٍ قابلٍ للبناء عليه، ففي بلدنا كانت نقاط سموّ وليّ العهد قد كشفت عن تشخيصٍ بصيرٍ بمواضع الداء، وكان بأيدينا الدواء، فلنغرسْ فسيلةً حتى لو قامت الساعة تُحسب لنا حسنة، خيرٌ لنا من أن نحرق نخلةً لئلاّ يأكل معنا غيرنا! فكما نعمل سنجازى، فإنما الجزاء من سنخ العمل، وسواء أوفى حسابُ المايا أو أخلف فإنّ أجل الله لآت، وإذا جاء لا يُؤخّر فلنعتبر نكنْ من أولي الأبصار.

شارك بتعليقك

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني.

عصى آدم..الحقيقة دون قناع
  • معصية آدم، نموذج لمفردة في البناء المعرفي! وحلها سيعيد لإنساننا خارطة نفسه وهويته الضائعة وهدف وجوده
  • معرفة هذه الحقيقة صدمة تعيد الوعي، نعقد بها مصالحة بين التراث والمستقبل لنعيش لحظة الحاضر بيقظة أننا على جسر التحول الإنساني، الذي بدأ في الأرض بالإنسان الهمج ليختتم بالخليفة "الإنسان الإنسان"
مسخ الصورة..سرقة وتحريف تراث الأمة
  • أخذت الحركة الصهيونية على عاتقها غرس دولة لليهود في خاصرة الأمة فزوروا التاريخ العربي ونسبوه لليهود
  • اختلقوا لغة بسرقة إحدى اللهجات القبلية العربية البائدة وأسموها اللغة العبرية
  • أقحم الدين والتاريخ للسيطرة على عقول الناس ونقلت رحلات الأنبياء من مواقعها ليأسسو لاحتلال فلسطين فساهم هذا التزوير في مسخ صورة العربي والمسلم في الثقافة الغربية
مفاتيح القرآن و العقل
  • إذا كان كلام الله واحداً ودقيقاً، كيف حصل له مائة تفسير؟
  • ماذا لو كانت أمتنا تقرأه وتترجمه معكوساً، كلبسها إسلامها مقلوباً؟
  • أصحيح هذا "المجاز" و"التقديرات"،و"النسخ" و"التأويل" و"القراءات"؟
  • هل نحن أحرار في قراءة القرآن وتدبره أم على عقولنا أقفال؟
نداء السراة..اختطاف جغرافيا الأنبياء
  • ماذا يحدث عندما تغيب حضارة عريقة
  • هل تموت الحقيقة أم تتوارى عن الأنظار لتعود .. ولو بعد حين؟
  • هل تقبل بلاد وادي النيل بعودة حضارة القبط الغريبة؟
  • هل تقبل نجد بعودة موطن آباء الخليل إبراهيم وبنيه إسحاق ويعقوب؟
الخلق الأول..كما بدأكم تعودون
  • إن البشر الأوائل خرجوا قبل مئات آلاف السنين من "قوالب" الطين كباراً بالغين تماماً كالبعث
  • جاء آدم في مرحلة متأخرة جداً من سلالة أولئك البشر اللاواعي، فتم إعادة تخليقه في الجنة الأرضية ونفخ الروح فيه
  • آدم أبو الناس ليس هو آدم الرسول الذي أعقبه بمئات القرون
الأسطورة..توثيق حضاري
  • الأساطير وقائع أحداث حصلت إما من صنع الإنسان، أو من صنع الطبيعة، أو من صنع السماء
  • لكل اسطورة قيمة ودلالة وجوهراً وتكمن فيها أسرار ومعاني بحاجة إلى إدراك وفهم
  • من الضروري العودة إلى اللغة العربية القديمة بلهجاتها المختلفة لفك رموز الأساطير التي غيب الكثير من مرادها ومغازيها
التوحيد..عقيدة الأمة منذ آدم
  • لو أنا أعدنا قراءة تراثنا بتجرد لأدركنا حقيقة اليد الربانية التي امتدت لإعداة الانسان منذ خطواته الأولى على الأرض بما خطت له من الهدى
  • التوحيد منذ أن بدأ بآدم استمر في بنيه يخبو حيناً ويزهو حيناً آخر، ولكنه لم ينطفئ
بين آدمين..آدم الإنسان وآدم الرسول
  • هل هما (آدمان) أم (آدم) واحد؟
  • من هو (آدم الانسان) الأول الذي عصى؟
  • من (آدم الرسول) الذي لا يعصي؟
  • ماهي شريعة (عشتار) وارتباطها بسقوط آدم الأول حين قارب شجرة المعصية؟
طوفان نوح..بين الحقيقة و الأوهام
  • ما قاله رجال الدين والمفسرون أعاجيب لا يقبلها المنطق ولا العقل السليم في محاولتهم لإثبات عالمية الطوفان
  • استثمر المستنفعون من اليهود هذه القضية ليبتدعوا القضية السامية ويرجعوا نسبهم إلى سام بن نوح (ع)
  • قضية طوفان نوح (ع) لا تكشف التزوير اليهودي فحسب، بل تضع يدها على موضع الداء في ثقافة هذه الأمة