اقتطعتُ بعض الردود التي علق بها أصحابها على مقال ظنّوا فيه أن الكاتب تدخّلَ في أمر يخص الفقيه وعالم الشرع لا الكاتب المثقف، ومن هذه الردود: “بئس المعركة تلك التي تخوضها قبال شرع الله!!، “إذا حكى الشرع فليس لك الأهلية للخوض في قضايا أكثر من قدراتك!!، “ما بالكم أيها الكتّاب تحترمون كل المتخصصين في اختصاصاتهم وإذا وصلتم إلى شرع الله تفتقت قرائحكم بالغث والسمين!!، (كم مرة قلنا اللي ما ليه في الشرع ما يتكلم)!! فمن الذي يحدد مساحة المثقف؟!

من الواضح أنّ هذه الردود إنما تنطلق عن قناعة راسخة مفادها أن الكاتب المثقف لا يحقُّ له أن ينقد النص الديني، وأنه لا يجوز له أن يطرح رأيا مخالفا لما هو السائد في ثقافة مجتمعاتنا. وهذا بحدّ ذاته تغافل عن الدور المهم المناط بالمثقف، وخلط بين النقد البنّاء واستنقاص الدين.

فلو تعاملنا مع دور المثقف حسب الواقع لما شكلنا عليه حصارا، ولطالبناه بمزيد من الإسهامات الخيّرة، فمتى ما كان المثقف مخلصا للأمة التي ينتمي إليها من خلال تجذره الثقافي بعقيدتها، واعتزازه برجالاتها الأوفياء المخلصين الذين كانت لهم إسهاماتهم التي لا تُنكر في بناء هوية الأمة وتحديها للأخطار التي تهدد وجودها، وكان واعيا لدوره، مهموما بواجبه فإنه يشكل حينئذ عمادا تتكئ عليه الأمة في قراءة واقعها وما يمكن أن تصل إليه من تطور من خلال تفاعله بهذه القراءة. إنه ممن يقود مسيرة التصحيح والتغيير والتقدم، فهو إما أن ينبه إلى خلل بسبب تعشعش مفاهيم بالية من شأنها تأخر الأمة مثل امتهان مكانة المرأة بين أخوتها الرجال بحسب وضعيتها القديمة أمية هامشية الدور في العرف القبلي، أو أنه يعزز قيمة من القيم خوفا من الضمور والتآكل كقيمة التراحم بين الأهل والجيران والضعفاء والمساكين، أو أنه يغرس قيمة قد رآها عند آخرين أو من وحي الدراسات الاجتماعية والثقافية وآثارها الإيجابية على حياة المجتمعات.

إنه القادر على المساهمة الفاعلة مع كلّ عناصر المجتمع لجعله يزخر بمنظومة القيم الثقافية والاجتماعية والإنسانية المتصلة بالحياة. وفي ممارسته لهذا الدور قد يغاير كثيرا مما هو سائد ومعروف، لكن ما دام ينطلق من احترام للدين فهو يمارس نقده وعرض أفكاره بشكل طبيعي غير منفصل عن ذاته وقناعاته التي تبناها بالحجة والدليل، فزاده اليومي هو التفاعل المعرفي والوجداني مع مجتمعه والمجتمعات الأخرى؛ لاستباق الزمن وصناعة التقدم.

وهذا الدور لا يتقاطع أبدا مع أدوار الفقهاء العلماء الربانيين، بل يكمل كلّ منهما دور الآخر، وقد عرفنا دور المثقف، فما دور الفقيه؟ ورد عن النبي محمد (ص) أنه قال: “ألا أخبركم بالفقيه كلّ الفقيه ؟ قالوا: بلى يا رسول الله: قال: إنّ الفقيه كلّ الفقيه: الذي لا يؤيس الناس من روح الله، ولا يؤمنهم من مكر الله، ولا يقنطهم من رحمة الله، ولا يدع القرآن رغبة عنه إلى ما سواه…”(1) فمهمة الفقيه هي مساعدة الناس في إحداث التوازن الروحاني، بين كلّ سلوكين سيئين متناقضين، مثل اليأس والغرور، ففي فتاواه وعرضه للعقيدة والشريعة، لا يوصل المذنبين إلى حالة اليأس والقنوط من الرحمة الإلهية، ولا يدخلهم في حالة الاستخفاف بالمعاصي وتسويف التوبة والاغترار بالفرقة الناجية، إنه طبيب الروح بوعيه وعلاجه.

هذه السمات التي ذكرناها استطرادا للمثقف ليست يتيمة الوجود في مجتمعاتنا؛ لذلك ليس من الإنصاف أن نضع العصي في دواليب المثقفين ونحاسبهم على المقاصد والنوايا، نعم لو شطح أحدهم في التحدي أو الاستخفاف بقيم المجتمع وعقائد أهله، ففي هذه الحالة تنبغي المبادرة، ومن يملك قدرة النقد عليه أن يمارس دوره في التواصي بالحق وتعديل المسار؛ لتبقى القيم حية لا تُخترق؛ وبالتالي تسود مناخات العمل بالمعروف واستيحاش المنكر.

أما القناعة التي تولدت عند الكثير من (المتدينين) إن صح التعبير، بأنّ أيّا كان لا يجوز له الخوض في قضايا الدين ما لم يكن عالما ربانيا أو فقيها، فهو أمر يحتاج إلى دقة نظر؛ حتى لا نسئ إلى الدين، ولا نُحمّله ما لا يحتمل، فقد كاد أن يُجمع فلاسفة الإسلام ومتكلموهم وفقهاؤهم على أنه لا يجوز التقليد في مباحث “أصول الدين” أي أنّ إيمان الإنسان والتوصل إلى إثبات وجود الله تعالى وتوحيده والإيمان بضرورة بعث الأنبياء، وكذا الإيمان بالملائكة والبعث والحساب بعد الموت، هذه الأمور الاعتقادية إنما يتوصل إليها كلّ إنسان بالنظر والبحث والدليل، ولا يجوز أن نقلد فيها الفقهاء، وكذلك الالتزام بتشريع مذهب دون أخر أو الأخذ من الجميع أو ترجيح أحد المذاهب إنما هي قضايا اعتقادية في عهدة قناعات الأفراد ونتائج حواراتهم وبحثهم. فأي مساحة أوسع من هذه المساحة في أكثر الأمور خطورة وأهمية في أصول العقيدة السابقة على التشريع، فما بالنا ننسب إلى الدين القول على لسانه للمثقف الواعي المخلص لأمته ومجتمعه: احذر أن تقترب، فلا مساس.

رُوي عن أحد صحابة النبي وابصة بن معبد رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: “اسْتَفْتِ قَلْبَكَ: الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَـيْهِ النَّفْسُ وَاطْمَأَنَّ إِلَـيْهِ الْقَلْبُ، وَالإِثْمُ مَا حَاكَ فِـي النَّفْسِ، وَتَرَدَّدَ فِـي الصَّدْرِ، وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاس وَأَفْتَوْكَ”(2) ففي هذا الخبر يعطي النبي المساحة الواسعة لعقل الإنسان وقدرته على تمييز الحق والبرّ والإثم، لأن الشريعة لا يمكن أن تخالف الفطرة التي أودعها الله سبحانه وتعالى فيه، وعليها شواهد في القلب السليم، فما وافقها فهو برّ وخير، وما تردد فيه القلب فهو إثم وباطل لا يجوز اقتحامه والتورط به، هذه بعض الأدلة، فمن يا تُرى يحدد مساحة المثقف!؟

شارك بتعليقك

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني.

عصى آدم..الحقيقة دون قناع
  • معصية آدم، نموذج لمفردة في البناء المعرفي! وحلها سيعيد لإنساننا خارطة نفسه وهويته الضائعة وهدف وجوده
  • معرفة هذه الحقيقة صدمة تعيد الوعي، نعقد بها مصالحة بين التراث والمستقبل لنعيش لحظة الحاضر بيقظة أننا على جسر التحول الإنساني، الذي بدأ في الأرض بالإنسان الهمج ليختتم بالخليفة "الإنسان الإنسان"
مسخ الصورة..سرقة وتحريف تراث الأمة
  • أخذت الحركة الصهيونية على عاتقها غرس دولة لليهود في خاصرة الأمة فزوروا التاريخ العربي ونسبوه لليهود
  • اختلقوا لغة بسرقة إحدى اللهجات القبلية العربية البائدة وأسموها اللغة العبرية
  • أقحم الدين والتاريخ للسيطرة على عقول الناس ونقلت رحلات الأنبياء من مواقعها ليأسسو لاحتلال فلسطين فساهم هذا التزوير في مسخ صورة العربي والمسلم في الثقافة الغربية
مفاتيح القرآن و العقل
  • إذا كان كلام الله واحداً ودقيقاً، كيف حصل له مائة تفسير؟
  • ماذا لو كانت أمتنا تقرأه وتترجمه معكوساً، كلبسها إسلامها مقلوباً؟
  • أصحيح هذا "المجاز" و"التقديرات"،و"النسخ" و"التأويل" و"القراءات"؟
  • هل نحن أحرار في قراءة القرآن وتدبره أم على عقولنا أقفال؟
نداء السراة..اختطاف جغرافيا الأنبياء
  • ماذا يحدث عندما تغيب حضارة عريقة
  • هل تموت الحقيقة أم تتوارى عن الأنظار لتعود .. ولو بعد حين؟
  • هل تقبل بلاد وادي النيل بعودة حضارة القبط الغريبة؟
  • هل تقبل نجد بعودة موطن آباء الخليل إبراهيم وبنيه إسحاق ويعقوب؟
الخلق الأول..كما بدأكم تعودون
  • إن البشر الأوائل خرجوا قبل مئات آلاف السنين من "قوالب" الطين كباراً بالغين تماماً كالبعث
  • جاء آدم في مرحلة متأخرة جداً من سلالة أولئك البشر اللاواعي، فتم إعادة تخليقه في الجنة الأرضية ونفخ الروح فيه
  • آدم أبو الناس ليس هو آدم الرسول الذي أعقبه بمئات القرون
الأسطورة..توثيق حضاري
  • الأساطير وقائع أحداث حصلت إما من صنع الإنسان، أو من صنع الطبيعة، أو من صنع السماء
  • لكل اسطورة قيمة ودلالة وجوهراً وتكمن فيها أسرار ومعاني بحاجة إلى إدراك وفهم
  • من الضروري العودة إلى اللغة العربية القديمة بلهجاتها المختلفة لفك رموز الأساطير التي غيب الكثير من مرادها ومغازيها
التوحيد..عقيدة الأمة منذ آدم
  • لو أنا أعدنا قراءة تراثنا بتجرد لأدركنا حقيقة اليد الربانية التي امتدت لإعداة الانسان منذ خطواته الأولى على الأرض بما خطت له من الهدى
  • التوحيد منذ أن بدأ بآدم استمر في بنيه يخبو حيناً ويزهو حيناً آخر، ولكنه لم ينطفئ
بين آدمين..آدم الإنسان وآدم الرسول
  • هل هما (آدمان) أم (آدم) واحد؟
  • من هو (آدم الانسان) الأول الذي عصى؟
  • من (آدم الرسول) الذي لا يعصي؟
  • ماهي شريعة (عشتار) وارتباطها بسقوط آدم الأول حين قارب شجرة المعصية؟
طوفان نوح..بين الحقيقة و الأوهام
  • ما قاله رجال الدين والمفسرون أعاجيب لا يقبلها المنطق ولا العقل السليم في محاولتهم لإثبات عالمية الطوفان
  • استثمر المستنفعون من اليهود هذه القضية ليبتدعوا القضية السامية ويرجعوا نسبهم إلى سام بن نوح (ع)
  • قضية طوفان نوح (ع) لا تكشف التزوير اليهودي فحسب، بل تضع يدها على موضع الداء في ثقافة هذه الأمة