استضافت جمعية التجديد الثقافية في ملتقاها الثقافي الشيخ محمد بن صالح الدحيم رئيس مركز التجديد الثقافي في مدينة جدة (المملكة العربية السعودية) الذي قدّم ندوةٍ بعنوان “الحق والحق الآخر” وذلك مساء الأحد الموافق 26/7/2009 في مقر الجمعية بالسلمانية.
وقال الشيخ الدحيم في مستهل الندوة أن “مفهوم الحق من المفاهيم الواضحة، ولست هنا لإيضاح الواضحات لكن المفهوم في الوقت نفسه من المفاهيم المتحركة باختلاف (المصدر والمتلقي). ثم هذا المتلقي مختلف أيضاً بحسب متغيرات أربعة، هي: الزمان والمكان والحال والشخص. أي أن الحق من المفاهيم الحيّة التي تشكل نتائج متعددة ومتنوّعة ولا غنى للبشر عنها”.
وأضاف الدحيم “ومن هنا فإن منشأ فكرة الحق قديمة قدم العالم؛ لأن الحق من حيث هو اصطلاح تواضع عليه الناس وأقرّوه لبعضهم بعضاً؛ كي لا تطغى حاجة إنسان على حاجة غيره، ولا تصطدم حريّته بحريّة سواه، ومن ثم تأصلت فكرة الحق وإقراره واحترامه بين الناس مع تطور تقدم البشرية وتوسع الحياة المدنية. والأديان والشرائع بما فيها الإسلام أكّدت على قيمة الحق”.
ويسوق الشيخ الدحيم عددًا من الأمثلة على الحق “فالله سبحانه هو الحق كما قال (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقّ) ووعده حق، ودينه الحق(كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ)(البقرة: من الآية213) ذلك لأن الأديان تكمل فطر البشر وطبائعهم، وفي الحديث (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) فالأديان تكمل النفوس وتزكيها وتحفزها نحو الحق الذي أنزل والحق الذي أرسل (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا* فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا* وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا)”.
وتطرق الشيخ الدحيم لرأيه حول الثابت والمتغير قائلاً “إن هذا الأمر سيجعلنا في حل لمناقشة الكثير مما يروق للبعض أن يسميه (ثوابت) سواء أكانت دينية أو غير دينية. ولن أدخل في جدل منطقي أو فلسفي حول جزئيات بدهية في هذا السياق. علماً أن فكرة الثابت والمتغير في الفكر الإسلامي المتأخر ليست صحيحة ولكنها مؤسلمة من فكرة (الثابت والمتحرك) وإذا كان الثابت ثنائي المتحرك فليس المتغير ثنائيا للثابت، وهي أي الثابت والمتغير غلط في التنظير واغتصاب في التطبيق. ولست هنا اليوم لأبسط القول فيها مع أهميتها. ونحن نجد أن الدين في أصله ثابت وأحكامه متغيرة، والإنسان ثابت لكنه في نموه وأفكاره وأطواره وأحواله متغير. فالغير ليس نقصاً من الثبات بل هو تأكيد له. المهم أن هذه الفكرة طارئة وطائشة. وهي انقلاب على فكرة (الأصول والفروع) المعروفة في الفقه الإسلامي”.
وأكدّ الشيخ الدحيم على أن “الحق هو أحد المفاهيم المحورية الفاصلة لسببين: الأول: أن المحاور الأخرى تدور عليه، وترجع إليه. وبقدر ما معك من الحق يكون استجابتك للأشياء أو تأثرها بك إيجابياً، وكلّما تفقد منه تعيش حالة فوضى. والثاني: لأنه المفهوم الذي يفصل في كثير من النزاعات الاجتماعية والحضارية والمعرفية والسياسية والاقتصادية. وسواء كان في التنظير أو التطبيق. أو كان النزاع بين أفراد أو جماعات”.
وأشار الدحيم إلى ما يشبه الظاهرة على حد قوله “فما نستخدمه كثيراً معلوماتنا عنه قليلة فنحن مع كثرة استعمالنا للكلمة (الحق) إلا أن المفهوم التنظيري والتطبيقي ما يزال مترددًا بالنسبة لنا إلى درجة أنك تجد من يسلبك الحق باسم الحق. أو يقتلك لله باسم الله. هذا الأمر يحفزنا ويجعل من الضروري طرح هذه المسألة للنقاش والحوار على كافّة الأصعدة وفي كل المسارات”.
واستعرض الشيخ الدحيم معاني كلمة الحق استقراءً من القرآن الكريم “فقد جاء الحق في عدد من المعاني، منها الحق في مقابل الباطل، والحق بمعنى الأمر الثابت، وبمعنى النصيب كالآية الكريمة (وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) أما أعظم تعبير فهو أنّ الله حق”.
وانتقد الشيخ الدحيم النظر بطريقة مقتضبة وغير واعية لمسألة الحقوق قائلا “يصبح عندنا مشكلة حين نطلب مصلحة محضة أو ندفع مضّرة محضة، وهذا ظاهر جدًا في العملية التربوية، فالأب مع الأبناء، والأستاذ مع التلاميذ، والشيخ مع طلابه ومريديه تجد أنه يطلب خير محض ولا يتقبل تطبيقيا أي خطأ أو زلل، من الزوجة أو الزوج أو الأبناء أو الموظف. ولكن الحق في نهايته هو تحقيق للمصالح وجذبها وتكثيرها، ودفع للمضار وتقليلها، فالحياة تقوم على مزيج من خير وشر، وحق وباطل، وقليل وكثير، وقوة وضعف، وسرّاء وضرّاء، ولما تقول أن طبيعة الحياة المزيج فكل ذلك لا يكون إلا في الأذهان فقط أما في الواقع فلا … ونكون أمام مصلحة فيها بعض المفسدة وأمام مفسدة فيها بعض المصلحة، هذا هو حقيقة التكوين في هذه الحياة”.
وتطرق الشيخ لمشكلة ثانية أسماها مشكلة المعايير والمناظير “فأنت من منظارك تقيّم الشيء وقد يختلف تقييمك للشيء وقد يتطور وتضاف إليه أمور فتصبح لديك رؤية أخرى. واختلاف البشر في غالبه ليس حق وباطل بل اختلافٌ في المعايير والمناظير، فالإنسان في حالة الأمن لديه رؤى وهو في حالة الخوف لديه رؤىً أخرى”.
وأشار الشيخ الدحيم إلى ثنائيات من الحقوق، فهناك هناك الحق المطلوب والحق الممكن، والحق بين الوسيلة والغاية، والحق الموجود والحق المقصود، فالموجود يقتضي منك عملاً لكن المقصود هو ما تذهب إليه، وهذا يقودنا إلى “علم المستقبليات” والذي حسب رأي الشيخ الدحيم نحن أولى الناس به.