تزخر المكتبة الإسلامية بالعديد من تفاسير القرآن الكريم، هي حصيلة جهد المفسّرين عبر التاريخ القديم والمعاصر، لدينا مئات التفاسير المتفاوتة بين الإطناب المسهب والإيجاز غير الوافي، والمبنية على الكثير من المناهج في التفسير، فمن تفاسير اعتمدت بشكل كلي الرواية والأثر، وبين أخرى اعتمدت التفسير اللغوي والتاريخي وأخرى انتهجت مناهج معاصرة كمنهج التفسير الموضوعي للقرآن، إلى جانب جهد المفسّر وما توصّل إليه عقله من أفكار وتدبّرات وتأملات في آيات الذكر الحكيم.

ولكن السؤال الذي مازال يتردد، هو هل فسّر القرآن؟ ولعلّ مبعث هذا التساؤل ما يشعر به الجميع من غياب صوت القرآن وهداه على تفاصيل كثيرة من الحياة اليوميّة والعلميّة والاجتماعيّة للمجتمع المسلم. فلا يمكن إنكار البون الكبير والفراغ العميق الذي لم تتمكّن التفاسير الدارجة من سدّه، وخاصة في هذا العصر الثائر، والمتفجرة فيه صنوف العلم والمعرفة، والمفعم بالإنجازات في ميادين العلوم الإنسانية والعلمية، فما موقع القرآن من المذاهب الجديدة في الفلسفة والعقائد وعلم النفس والاجتماع؟ وما رأيه في نظريات الكون والفضاء؟ وما موقفه من الصيحات الحديثة في عالم السياسة وأنظمة الحكم؟ وماذا يمكن أن يقدّم من حلول للمشكلات الاقتصادية والمعاشية وقضايا حقوق الإنسان والتعايش بين الأمم والشعوب؟ علما بأنّ عجلة العلم تسير بصورة مطّردة ومتزايدة، وتلوح بتوقّع مضاعفة الإنتاج المعرفي في العصور القريبة المقبلة.

إن غياب القرآن الروح والقرآن القلب النابض بالحياة أحدث فراغا كبيراً، كانت له آثار خطيرة في سلوك الأفراد والمجتمعات داخل بلاد المسلمين، فقد سهّل عملية الانسلاخ عن القيم الروحية والفضائل الخلقية، وضعضع موازين الحياة السويّة فمال بها إلى حيث الغرائز الحيوانية والطغيان المادي، بل وأوصلها في كثير من الأحيان إلى الكفر بالجوهر الأصيل للإنسان، أو إلى نكران وجوده أصلا. فهل يمكن اعتبار ما بين أيدينا من التفاسير نهاية ما يفهم من آيات القرآن؟ وهل استطاعت هذه التفاسير أن تقدّم القرآن الكريم كما يليق به باعتباره كتاب هداية اختتمت به كتب الله وأنهيت به شرائعه؟

في معنى التفسير

يذكر ابن فارس في مقاييس اللّغة في معنى كلمة فسر “بأنّ الفاء والسين والراء كلمة واحدة تدلّ على بيان شيء وإيضاحه”، ويقول صاحب المنجد أنّ التفسير: هو التأويل والكشف والإيضاح والبيان والشرح، وتفسير القرآن الكريم هو عمليّة بيانه وتوضيحه وشرحه.

إنّ التفسير بحسب الجذر الصوتي (فاء الانفتاح، وسين الاستمرار، وراء التكرّر والفاعليّة) هي من الظهور التدريجي شيئا فشيئا، فالقرآن تُفسّر جمله بعد تفسير كلماته أي اتّضاحها شيئا فشيئا، وتتبيّن فقراته باتّضاح عباراته شيئا فشيئا، وتتبيّن ملامح سوره باتّضاح تركيب آياته شيئا فشيئا، وتتبيّن مواضيعه باتضاح مجموع الآيات الواردة فيها شيئا فشيئا، وتتبيّن كامل حكمه في مسألة باتّضاح مجموع ما ورد فيها شيئا فشيئا، وعلومه وتهذيباته تظهر شيئا فشيئا، وعلومه لا تتفسّر أي تظهر بالتدريج إلا منبسطة على العصور كلما اتّضحت آية من الآفاق (علوم طبيعية وكونية باكتشاف علميّ) أو من الأنفس (بإزالة عائق من معوقات فهمها واكتشاف العلوم الإنسانية). لذلك يمكن القول بأنّ القرآن يتفسّر بجهته العلمية بمقدار ما طوي كونيا ونفسيا من مسيرة تقدّم (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) (فصلت: 53)، علما أنّ هذا وجه من بطون الآية وليس تفسيراً بحسب سياقها.

هذه الخاصية أي التفسير كظهور متدرّج للمعنى الكامل على مساحة الزمن هو ما عبّرت عنه كلمة التفسير في سياقها القرآني (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلا، وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا) (الفرقان: 23، 33)، فالجملة الواحدة تنفي البيان لأنّ البيان يحتاج تفصيلا، والتفصيل يحتاج زماناً، والتفصيل/التفسير هو الذي يثبت في القلب، فكان التفصيل هو التفسير أي الظهور المتدرّج للقرآن مبيّناً على مساحة عقدين من الزمن.

ومع ذلك، فإنّ القرآن يخبر عن نفسه بأنّه أنزل بلغةٍ واضحةٍ مبينة (وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ، بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ) (الشعراء:192-195)، وقد جعله الخالق سهلاً ميسراً للمتحدّثين بلغته (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ) (القمر:17)، وطالب الناس بالتدبّر في آياته (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) (محمد:24).

ورغم ذلك فقد بقي القرآن مستعصيا على الفهم عند عامة المسلمين، أمّا خاصتهم من المفسرين والعلماء فلقد اختلفوا حتى في ما هو واضحٌ وبيّن، فشرّقوا فيه وغرّبوا، وذهبوا في تفسير آياته مذاهب عديدة، حتى أنّ المرء ليحار أيّهما يختار، وكثيرا ما يعجب لشطحات هذا المفسّر أو ذاك.

بلا ريب، القرآن أساسا هو كتاب هداية الإنسان إلى الله وإلى النور والصلاح، فآياته تقدّم الحجج والبراهين على التوحيد، وتبرز جمال الخير وقبح الشر، وتؤكّد على حتمية الحساب والجنة والنار، إلا أنّ القرآن – في مجمله- من الممكن أن يغذي العلوم الأساسية بمختلف تخصّصاتها، ففيه شيء من العلوم الكونية، والصحية والنفسية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، تجدها في صورة إشارات تكثر أو تقل، وفيه أيضا دعوة صريحة للتبحّر في العلوم النافعة وسبر أغوارها، إذ هي إحدى خطوات تحقيق الغاية المرجوّة لخلافة الأرض وعمارتها، لكن مع تطوّر العلوم الحديثة، ومع ما توصّل إليه العلم من معارف وصلت إلى حدّ القوانين والمسلّمات، لنا أن نتساءل لماذا نصطدم بتفسير يعارض العلم؟

ومع التسليم بأنّ القرآن صالح لكلّ زمان ومكان، ولديه الإجابات الوافية على كلّ التساؤلات في كافة المجالات وشتى العلوم والمعارف، وأنّه كلّما تقدّمت العلوم الإنسانية فبالإمكان اكتشاف المزيد من معارف القرآن الكريم وكنوزه التي لم تكن معروفة من قبل، إلا أنّ ذلك يستلزم من أهل المعرفة أن يدفعوا في هذا الاتجاه، ويسعوا لتقديم القرآن الكريم ككتاب من لدن الخالق الحكيم العليم، وهو هداية وبصائر ورحمة للعالمين.

إنّنا بحاجة إلى تفسير متجدّد، مع الاستفادة مما هو صالح في التفاسير القديمة، تفسير لا يقيّد الآيات بقيد ثقيل يصعب عليها فكّه، فما قدّمه المفسّرون إنّما هي نماذج للتفسير بحسب ما أتاحته لهم أدوات عصرهم المعرفية وقدراتهم العلمية والعقلية. فكلّ التفاسير الموجودة بين أيدينا ليست أكثر من تفاسير تاريخية للقرآن، لها قيمة تاريخية عظيمة، لأنّها نتاج أشخاص عكفوا على دراسة القرآن وسعوا لتقديم فهم لما استصعب من آياته، لكن وفق أدواتهم المعرفية وبيئتهم العلمية التي وفّرها زمانهم وجغرافيتهم.

لقد كان التفسير حكرا على رجال الدين والشريعة طوال العقود الماضية، لكن الأمر لم يعد نافعا وكافيا، فمع تطوّر العلوم وتوسّع آفاقها، صار من الملحّ مشاركة أولي الاختصاص في تقديم تفسير لآيات القرآن كلّ في مجاله، فإنّ توسّع دائرة التفسير ليدخل فيها علماء الفيزياء والطبيعة والطب والاقتصاد والرياضيات يمكن أن ينتج تفسيرا متميّزا يلبي متغيرات العصر، لأنّه من الصعب جدا على علام الفقه والشريعة لوحده مهما بلغت درجة علمه أن يحيط بكل ما أودعه الله سبحانه في كتابه من علوم ومعارف في ميادين شتى. هذا بالاضافة إلى ضرورة أن يحصل التقارب الإيجابي الفاعل للمفسّرين مع مسائل العصر، لينفتحوا على متغيرات العلم، وليكونوا على مسافة قريبة من مسيرة التطوّرات والتغيّرات في مجالاتها المتنوعة.

فمثلا حين نتجوّل في رأي المفسّرين في الآيات المفسّرة لنشأة الكون وبدء الحياة وخلق الإنسان، نجد أنّ العلم مرّ بسلسلة افتراضات انتهت إلى عدد محدود من النظريات المقبولة، لكنّها لم ترق للوصول إلى القانون القطعي أو القاعدة الثابتة، أمّا التفسير فقد جاء هزيلا لم يستطع أن يمسّ الحقيقة التي تستبطنها الآيات، وكان من الأولى للمفسّرين أن يعترفوا بعجزهم عن شرحها أو يضعوا شروحهم على نحو الفرضية والرأي لا الجزم، لأنّها من القضايا التي لا يمكن للإنسان مهما بلغ علمه أن يصل فيها إلى تصوّر صحيح إلا بالتسديد، لقوله (مَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ) (الكهف:51)، أو السير في الأرض وجمع الأدلة والشواهد والنظر فيها، واستخلاص النتائج، وقد دعا القرآن لذلك: (أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ، قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ) (العنكبوت:19، 20).

هذه الدعوة القرآنية للناس لا نجد لها الموقع الحيوي في التفسير، ولا من منادٍ برابط بينها وبين فهم آيات الله، وكأنّها فقط من مهمات علماء متخصّصين في مجالات الجيولوجيا والأنثروبولوجيا والأركيولوجيا وغيرها من العلوم الطبيعية والكونية.

ولنا أن نتصّور كيف يمكن للمفسّر أن يقدّم الآيات وأن يفهم الإشارات والدلالات اللفظية الواردة في القرآن الكريم، إن استندت على أساس علمي رصين، ووفقا لما توصّل إليه البحث العلمي، مع التأكيد أن القرآن هو الحقّ الصريح صدّقه العلم أم لم يصدّقه، استوفاه التفسير أم لم يستوفه.

كمثال على ما نقول، نذكر قوله تعالى: (وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) (الذاريات:47)، فقد ذكر المحقّق الرازي في تفسيره الكبير معنيين، الأوّل: قال “لموسعون” من السعة أي أوسعناها بحيث صارت الأرض وما يحيط بها من الماء والهواء بالنسبة إلى السماء وسعتها كحلقة في فلاة، والبناء الواسع الفضاء، والثاني: “لموسعون” أي لقادرون كقوله تعالى “لا يكلف الله نفسا إلا وسعها”، وذكر السيد الطباطبائي في تفسير الميزان أنّ “لموسعون” إشارة إلى أنّه ذو قدرة واسعة لا يعجزها شيء، أو أنّ بناءها قائم على نعمة لا تقدّر بقدر لأنّه ذو سعة وغنى لا تنفذ خزائنه بالإعطاء والرزق.

أما اليوم، فيحدّثنا علماء الكون، بأنّ المجرّات وتجمّعاتها وما يدور في أفلاكها هي كتل غازية هائلة من الدخان ما تزال تتوسّع ويزداد انتشارها، ومن ثم يتوسّع معها الكون، وأنّ هذا الأمر حاصل منذ حصل الانفجار العظيم في الكتلة الغازية الأولى وما يزال قائما، هذا التطوّر المعرفي، قاد إلى تفسير افتراضي آخر، وهو أنّ قوله تعالى (وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) يفيد أن الكون في حالة توسّع مستمر، لتتفق مفردات الآية مع الكشف العلمي المحتمل من الآية، هو من الآية بقطعها من سياقها، أي من الآية كنظام يعمل فيها وتعمل فيه، أمّا الآية داخل سياقها فلها تفسير آخر غير هذا، يدور مدار مجموع عناصر الآية، كمعنى السماء، وضمير المتكلّم من قوى التدبير ووسائط الخلق بإذن الله، والعلاقة بين السماء والأرض، حيث جاءت في سياق تقول فيه: (وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ، وَالأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ، وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ…) فالسياق يتكلّم عن فاعليّة قوى التدبير، وعن النظام الكوكبي الذي أُهّل لوجود الإنسان من خلق السماء الأرضية وهي الغلاف الجوي بطبقاتها، ومن تمهيد الأرض التي هي اليابسة لا غير لاحتضان بذور الحياة الزوجية النباتية فالحيوانية فالبشرية، وبناء السماء بقوّة محكمة مؤيّدة وتمهيد الأرض أمورٌ تمّت قبل أربع مليارات سنة وأفعالها ماضية، أمّا صيغة “لموسعون” المستقبليّة زمن الخطاب القرآني فهي تدلّ أنّ الأمر لم يقع بعد وسيقع مستقبلاً حين يتمّ تبديل كيفي لنظام السماء والأرض (كامل الكوكب بجوّه وأرضه وغلافه) بعد الساعة.

إذن النظريات العلمية إن تعزّزت بالأدلة والبراهين وساندتها البحوث العلمية الرصينة يمكن أن تفسّر آيات القرآن الكريم، لأنّ القرآن لا يمكن إلا أن يكون داعما للعلم الذي ثبت بالدليل القطعي صحته، وحينها سنجد بريقا زاهيا للآيات الكريمة، فحين أثبت العلماء أن الحديد لا يمكن أن يكون قد تكوّن على الأرض، ولا بدّ أنّه عنصر غريب وفد إلى الأرض، لأنّه المعدن الوحيد الذي تشكل ذراته تكويناً مميزاً يختلف عن غيره من المعادن، وأنّه يحتاج إلى طاقة هائلة تبلغ أربع مرات مجموع الطاقة الموجودة في المجموعة الشمسية، فقد تجلّت لنا معنى “أنزل” في آية الحديد: (وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ) (الحديد: 25)، كآية مفسّرةً بطناً كما أسلفنا لا كسياق وإلاّ فمعناها الظاهر سياقيا آخر.

أمّا ما تطرحه مدارس العلم في الطبيعة والعلوم الإنسانية من نظريات تحتمل الصحة والخطأ، فإنّه من المفيد أن يتمّ إيجاد نوع من التناسق بين هذه النظريات وبين المفاهيم ذات الصلة في الآيات القرآنية، ثمّ محاولة البحث عن القدر المشترك بينها، وبين مواقع الالتقاء والافتراق، وهكذا يمكن أن يقدّم القرآن توجيها للعلوم، ويمكن أن يكون رافدا لها، كما يمكن أن تصادق آياته على النظريات وتؤكّد صحتها، لأنّ القرآن أدرى بالكون وبأصله ومآله، لأنّه من الخالق، مبدع الكون ومنشئه، وهو أيضا أدرى بالإنسان وبطبيعته وبما يصلحه، لأنّه خالقه وربّه، لذلك فإنّه يقدّم الخبرات والمعلومات التي تناسب حياة هذا الإنسان وتراعي متطلباته وحاجاته العضوية والعقلية والنفسية، ليس فقط في عصر التنزيل، بل في كلّ العصور، لأنّ غاية القرآن أن يرشد الإنسان إلى الصلاح ويعينه على الوصول إلى مستوى الكمال.

وعلى ذلك لا بد من تطوير وتوسيع مراكز الدراسات والبحوث القرآنية، ولا بدّ أن تبنى على أساس منهجي رصين، أساسه عدم اعتبار مستوى معرفي معيّن في عصر من العصور أنّه مستوى نهاية الكمال، لأنّ المعرفة تتّسع وتتطوّر عبر الأجيال، ثم التشجيع على التفكير وإعمال العقل باعتباره ركن المعتقدات الأول، فما أوجبه كان واجبا وما أحاله كان محالا وما أجازه كان جائزا، إذعانا للآيات الكثيرة التي دعت إلى تثوير العقل، وإلى دعم الحقائق بالحجج العقلية كقوله تعالى: (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاء مِن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (الجاثية:5).

إضافة إلى ضرورة تعلّم اللغة العربية لأنها مدخل لفهم مراد الآيات، ثم أخيرا لا بد من اعتماد مناهج معاصرة لتفسير القرآن الكريم، بعيدا عما دُسّ من الإسرائيليات أو ثبت سقمه من المرويات، لتتناسب وقواعد التفكير العلمي الرصين.

نحن نمتلك القرآن ذلك الوحي السماوي المعجز، ومن الواجب إعادة النظر في آياته، وعدم حبسه في متون التفاسير السابقة أو اللاحقة، وعلينا تسخير إمكانيات العلم والمعرفة للتعرّف على سننه، وفهم غاياته، والاسترشاد بهداه.

فالتفسير في جميع الأزمنة جهد بشري لا ينبغي أن يحتكره أحد، وبنبغي أن يطرح بأسلوب لا يمسّ قدسيّة النص القرآني وعظمة معانيه، فالقرآن الكريم سيبقى هو الثابت الوحيد الذي تهفو إليه المعارف مهما تاهت في طريقها أو ظلّت سبيلها، وكلّما تقدّم الإنسان ستظهر حقائق الآفاق والأنفس أمامه واضحة جليّة، وستقوده إلى الإقرار بأنّ ما قاله القرآن هو الحقّ الصريح.

والقرآن كتاب هداية (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) (الإسراء:9)، وليس كتابا تاريخيا، ولا موسوعة علمية، وليس المطلوب منه كشف الحقائق وتأسيس مبادئ العلوم المختلفة، لم ينزل ليكون بديلا عن سعي الإنسان نحو الاكتشاف والاختراق وسنّ القوانين ومعرفة الحقائق والمبادئ التي تحكم الموجودات وتسيّر هذا الكون، بل جاء بمنهج ربّاني لدعوة الناس إلى الله وقيادتهم سبيل الاستقامة، وإخراجهم من الظلمات إلى النور، ولحثّهم على العمل وبذل الجهد لأداء أمانة خلافة الأرض وعمارتها (قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ، يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) (المائدة:15،16).

فالمسئولية الكبرى تقع على عاتق من يتصدّى لتفسير القرآن الكريم ليحوّله إلى كتاب حياة، ورسائل من الرب، يحرّض الناس جميعا على التأمّل فيه وملازمته والرغبة الصادقة في فهمه وتطبيقه، كما هو بعيدا عن الهوى والإتباع الأهوج. فما لمْ تتغيّر عقيدة عوام المسلمين تجاه القرآن العظيم أوّلاً، وما لم يعرض تفسير القرآن متناسبا مع أدوات العلم والمنطق العقلي والروحي فلنْ نتمكّن من التجاوب معه، أو تحمّل توصياته وإرشاداته، وسيصدق علينا مسألة هجرانه.

شارك بتعليقك

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني.

عصى آدم..الحقيقة دون قناع
  • معصية آدم، نموذج لمفردة في البناء المعرفي! وحلها سيعيد لإنساننا خارطة نفسه وهويته الضائعة وهدف وجوده
  • معرفة هذه الحقيقة صدمة تعيد الوعي، نعقد بها مصالحة بين التراث والمستقبل لنعيش لحظة الحاضر بيقظة أننا على جسر التحول الإنساني، الذي بدأ في الأرض بالإنسان الهمج ليختتم بالخليفة "الإنسان الإنسان"
مسخ الصورة..سرقة وتحريف تراث الأمة
  • أخذت الحركة الصهيونية على عاتقها غرس دولة لليهود في خاصرة الأمة فزوروا التاريخ العربي ونسبوه لليهود
  • اختلقوا لغة بسرقة إحدى اللهجات القبلية العربية البائدة وأسموها اللغة العبرية
  • أقحم الدين والتاريخ للسيطرة على عقول الناس ونقلت رحلات الأنبياء من مواقعها ليأسسو لاحتلال فلسطين فساهم هذا التزوير في مسخ صورة العربي والمسلم في الثقافة الغربية
مفاتيح القرآن و العقل
  • إذا كان كلام الله واحداً ودقيقاً، كيف حصل له مائة تفسير؟
  • ماذا لو كانت أمتنا تقرأه وتترجمه معكوساً، كلبسها إسلامها مقلوباً؟
  • أصحيح هذا "المجاز" و"التقديرات"،و"النسخ" و"التأويل" و"القراءات"؟
  • هل نحن أحرار في قراءة القرآن وتدبره أم على عقولنا أقفال؟
نداء السراة..اختطاف جغرافيا الأنبياء
  • ماذا يحدث عندما تغيب حضارة عريقة
  • هل تموت الحقيقة أم تتوارى عن الأنظار لتعود .. ولو بعد حين؟
  • هل تقبل بلاد وادي النيل بعودة حضارة القبط الغريبة؟
  • هل تقبل نجد بعودة موطن آباء الخليل إبراهيم وبنيه إسحاق ويعقوب؟
الخلق الأول..كما بدأكم تعودون
  • إن البشر الأوائل خرجوا قبل مئات آلاف السنين من "قوالب" الطين كباراً بالغين تماماً كالبعث
  • جاء آدم في مرحلة متأخرة جداً من سلالة أولئك البشر اللاواعي، فتم إعادة تخليقه في الجنة الأرضية ونفخ الروح فيه
  • آدم أبو الناس ليس هو آدم الرسول الذي أعقبه بمئات القرون
الأسطورة..توثيق حضاري
  • الأساطير وقائع أحداث حصلت إما من صنع الإنسان، أو من صنع الطبيعة، أو من صنع السماء
  • لكل اسطورة قيمة ودلالة وجوهراً وتكمن فيها أسرار ومعاني بحاجة إلى إدراك وفهم
  • من الضروري العودة إلى اللغة العربية القديمة بلهجاتها المختلفة لفك رموز الأساطير التي غيب الكثير من مرادها ومغازيها
التوحيد..عقيدة الأمة منذ آدم
  • لو أنا أعدنا قراءة تراثنا بتجرد لأدركنا حقيقة اليد الربانية التي امتدت لإعداة الانسان منذ خطواته الأولى على الأرض بما خطت له من الهدى
  • التوحيد منذ أن بدأ بآدم استمر في بنيه يخبو حيناً ويزهو حيناً آخر، ولكنه لم ينطفئ
بين آدمين..آدم الإنسان وآدم الرسول
  • هل هما (آدمان) أم (آدم) واحد؟
  • من هو (آدم الانسان) الأول الذي عصى؟
  • من (آدم الرسول) الذي لا يعصي؟
  • ماهي شريعة (عشتار) وارتباطها بسقوط آدم الأول حين قارب شجرة المعصية؟
طوفان نوح..بين الحقيقة و الأوهام
  • ما قاله رجال الدين والمفسرون أعاجيب لا يقبلها المنطق ولا العقل السليم في محاولتهم لإثبات عالمية الطوفان
  • استثمر المستنفعون من اليهود هذه القضية ليبتدعوا القضية السامية ويرجعوا نسبهم إلى سام بن نوح (ع)
  • قضية طوفان نوح (ع) لا تكشف التزوير اليهودي فحسب، بل تضع يدها على موضع الداء في ثقافة هذه الأمة