يتيماً فآوى، ضالاً فهدى، عائلاً فأغنى

يذكر التاريخ أنّ محمداً بن عبد الله (ص) صيغت حياته بأحداث تهدّ الرجال العظام، فكيف وهو حدث السن، وكلّما ألّمت به الخطوب تصلّب عوده ونمت شخصيته، وتعالى على جراحها وضغوطها، ولولا إرادته الفولاذية ورحمة الله به لحدثت به شروخ وعقد نفسية يسقط فيها عمالقةُ الرجال، فكان مثالاً لتحدي الأزمات وصياغة المواقف وصناعة القرارات، وتحويل المستحيلات إلى عالم الممكن مذ كان صبيّا وقبل أن يُبعث نبيّا، طفولته وصباه إضاءات ومواقف مهمة ومصيرية لها أبعادها الكبيرة على نمو شخصيته وفق معايير الإباء والكرم والفضيلة، واستلهام الأبعاد المعرفية للكون وخالق الكون، والمجتمع وأدوائه، ورقي الروح وكمالها، وكلّ ما يهم بناء الإنسان السوي، فلا يكاد أحد يجد فارقاً في فضائل إنسانية محمد (ص) قبل البعثة وما بعدها.

شاء القضاء الرباني أن يقاسي محمّدٌ (ص) مرارة اليُتم وآلامه ليشعر بالأيتام بوجدانه ويبحث عن أمل المحرومين، فيخلص تعلّقه بالرحمن، وتوكّله على الحيّ الذي لا يموت، فقد تزوّج عبد الله بن عبد المطلب آمنة بنت وهب، وبعد ثلاثة أشهر من زواجه خرج إلى الشام للتجارة غير عالمٍ بأن زوجته حبلى، في طريق عودته عرّج على أخواله بني النجّار، في يثرب، وهناك أشتدّ به المرض، فوافاه الأجل وله من العمر خمس وعشرون سنة، ترمّلت آمنة بنت وهب وتقطّع نياط قلبها لفقد زوجها الحبيب، ويشتدّ ألمها كلّما تذكّرت بأنّ السماء قررت ثكل وليدها الغافي داخل أحشائها، وأفقدته رعاية الأبوة، وقد تعوّدت نساء قريش أستئجار مرضعات ومربيّات من البادية لأولادهن، ونساء قبيلة بني سعد كنّ مرضعات أبناء مكة، وهنّ في العادة لا يرضعن إلا أبناء الأغنياء أملاً في الأجر والمكافئة الوفيريْن، وهاهنّ المرضعات وفدن من البادية، لينتقين بيوت الثراء والمال، فتتباهى الأمهات بما لديهن من خير وفير إن أُحيط الولد المرتضع بحسن العناية، وتبادلهن المرضعات بما تنوين صنعه للوليد، وما يوضح شرفهن وأنسابهنّ، حتى إذا اطمأن الطرفان تعاقدا على الرضاعة.

أما بيت آمنة فقد زهدن فيه، ولم تطرق دارها واحدةٌ منهنّ، فعبد المطلب جدّ محمد ليس من ورائه مطمع، فإن جوده وبذله قد أفنى ماله، وكبر سنُّه، وشارف التسعين عمرُه، ومن أين لأمّ محمّد منافسة بيوتات مكة وأثريائها؟!

وحين أزمعت القافلة مغادرة مكة تنهّدت آمنة تمتمت: “لا أحد يطرق بابنا، ولا مطمع في الأيتام الفقراء”، دمعت عينا آمنة، لولا استذكارها هاتِفاً قديماً طرق أذنيْها دون أن ترى شخص هاتِفه: ” إنّك قد حملت بسيّد هذه الأمّة ونبيّها”، وبينما السيّدة آمنة والجاريتان ثويبة وأم أيمن بين اليأس والأمل، خرجت الجاريتان من البيت يحثّهما بقايا أمل، لاح لهما صورة امرأة تخلّفت، وعيناها توحيان بالطيبة والحب، وصوتها يتناغم بالرحمة.

  • هل لك أختاه رغبة في وليدٍ ترضعينه؟
  • نعم، وأين دار أهله؟
  • في هذا الزقاق القريب.
  • وإلى من ينتسب الوليد؟
  • هاشميّ، أبوه عبد الله بن عبد المطلب فتى مكة ، مات أبوه، وهو الآن في كفالة جدّه سيّد قريش وحامي ذمار مكّة، وأمّه آمنة بنت وهب.
  • إذن هو اليتيم الذي سمعت عنه، لم يورّثه أبوه مالا، وجدُّه شاخ سنّه، ونزف جيبُه، فعفواً ومعذرة، فأنا وزوجي قد رمّضنا الفقر، ولا نكاد نُطعم أولادنا إلا سُغُبا.

عادت أم أيمن لتقول: فقط تعالي وانظري للولد، فلعلّ يُمن طالعه وصباحة وجهه يغنيك عن كنوز الأرض.

تمنّعت المرضعة، وألحّت الجاريتان، وأخذت المرضعة كأنّها تمشي بين أشواك، تتنازعها خيالات تقطع عليها مشيها، والجاريتان تستحثّانها بأملٍ يقرّ العين، أهلّت على البيت وخطف بصرَها الوليدُ النائم، فاحتضنتْه وضمّته إلى صدرها، فأحسّت بتدفق اللّبن في ثدييها، وأقبل على التقامه فأحسّت بنشوة لم تعهدها من قبل. أجلستها آمنة بجوارها، ورحّبت بها، وسعت الجاريتان في تقديم ما وجداه في البيت من كرم الضيافة.

  • سألتها آمنة: ما اسمك يا أختاه؟
  • اسمي حليمة وزوجي الحارث بن العزّى.
  • أنعم وأكرم بالسيّدة المصونة، وأنعم وأكرم بأهلك الكرام.وأهلا وسهلا بك بيننا.

وسرعان ما أدركت حليمة سحر بيان السيدة آمنة وقوّة شخصيتها، وتطلّعت إلى أثاث البيت وتواضعه دون بيوت الأثرياء، فألحّ عليها حالها، وقالت:” جئت أملا في النعمة والرزق، فما لنا غير قطعة من أرض طالما أجدبت وعزّت علينا خيرها، وناقة عجفاء خاوية الضرع، وشاة يالكاد يندّ منها اللبن”، صمتت جميعُهن، ثم قطعت آمنة صمتها حيت تذكرت الصوت الذي أثلج قلبها والجنين في أحشائها:”إنّك قد حملت بسيّد هذه الأمّة ونبيّها”، فرفعت يديها بالدعاء:”عسى أن يرزقكم الله خيرا وفيرا ببركة هذا المولود اليتيم”.

خرجت حليمة السعدية متثاقلة برضيعها محمد، وصلت لزوجها أبي ذؤيب إلى حيث إقامتهما في مكة، انفجرت بالبكاء أمام زوجها، وهو في حيرة من أمرها، فإنه لم يرها في مثل هذه المواقف باكية، خاطبت زوجها: إذا كنت تنكر عليّ بكائي، فأنا لا أدري له سببا، ومذ بصرت بالرضيع حنّ قلبي إليه، وأشعر الآن بضميري يؤنبني، فقد كنت قاسية في ردّي مع أهله، وبين إحساس بعمق الحنين إليه، وبين فقرنا الذي لا أعرف له دواء ينفعه، صرت على هذا الحال.

تهيّأت حليمة وزوجها عائديْن إلى مضاربهما قبيل الضحى، ومركوبهما أتانٌ هزيلة، وناقة عجفاء لا تقويان على حمل نفسيهما، عبر الجبال الوعرة، جدّا بهما السير حتى لحقا بالقافلة التي سبقتهما منذ الفجر، أحسّت حليمة أنّ بركة اليتيم أحاطت بالرَّحل، وصلوا مضاربهما سالمين، وسرعان ما أدركت حليمة وأهلها السير بعد العسر، والبركة والبسط بعد القبض والجفاف، وتوجّه زوجها مخاطبا إياها: ” والله ما أراكِ يا حليمة إلاّ أخذت نسمةً مباركة”. وخلال وجود محمد في مضارب بني سعد يتناهى لآمنة بين الفينة والأخرى بركة وليدها محمد، لكنها كم تمنّت لو أنّ أباه عبد الله قرّت عينُه باحتضان ولده، والقيام بأمره، إنّ أمنيتها تلحّ عليها أن تعوّضه بحنان أخواله، فأخذت وليدها محمّداً ومعها جاريتها الحبشية بركة (أم أيمن) وهو ابن ست سنين، وهناك تعرّف (محمد) على أخوال أبيه، وجدّدت أحزانها حين أخذته إلى قبر أبيه، حدقّت في القبر، ومرّ شريط ثلاثة أشهر، وفاءً وعزّة، وصحبة ومودة، لكن السنين تعمل في كلّ أحد، فالنعم لا تدوم، بكت آمنة كثيرا على القبر وهي تندب حبيبها نثرا وشعرا، وماعسى الرثاء يطفئ جمر الحزن والأسى قائلة:

عفا جانب البطحاء من قوم هاشم

وحلّ بلحدٍ ثاوياً غير رائم

عشيّةَ راحوا يحملون سريره

يفلّونه عن عبرة وتزاحم

دعته المنايا دعوةً فأجابها

وما غادرت في الناس مثل ابن هاشم

فإن يكُ غالته المنايا بيثرب

فقد كان مفضالاً كثيرَ المراحم

أما محمّد وإن كان يومها طفلا، إلا أنه ارتضع حبًّا ممزوجا بأسى على أبيه، لما تعشّق من فضائله ومراحمه، ودّعت آمنة قبر زوجها وما كاد محمّد تطاوعه أقدامه للتنحّي عن القبر، لولا إشفاق أمه لأبقته يتملّى طويلا.وفي طريق العودة أحسّت آمنة باعتلال صحتها وانهداد ركنها، وأبى وفاؤها إلا اللحاق بزوجها، ماتت آمنة في الغربة على بُعد أربعة أميال من يثرب، ولم يكن أحد في تجهيزها ودفنها إلا أم أيمن، وطفلها محمد، بين عينيه مددتها أمُّ أيمن، وأغمضت عينيها، ودفنتها في الأبواء، ومحمّد توّاً قد ودّع قبر أبيه، وهاهو يهيل التراب رغماً عنها على أمَّه، لقد سقى ترابها بدموع عينه التي لم تفارق النظر للقبر الذي اختطف أمّه وألحدها للأبد، رجعت أم أيمن مهيضة الجناح حائرةّ تسأل قلبها: ماذا أفعل بيتيم الأبوين؟ سلّمته إلى جدّه عبد المطلب الذي شارف التسعين من عمره، فاطمأنت نفس محمّد بما أسبغ عليه جدّه من عطفه وحنانه، واحتضنته زوجة جدّه هالة ابنة عمّ أمّه آمنة، لكن القدر أبى إلا أن ينتقض سند محمد وكافله ومربيه الأكبر، وفي ليلة حالكة باتت مكّة تبكي شيخها وتليد مجدها، رجالُها ونساؤها يندبون حصنهم المنيع، وظلَّهم الوارف، وقد تضمّن رثاؤهم محامده وسجاياه التي خلّدت ذكره وأثره، ومنها هذه الأبيات:

أعينيَّ جودا بدمع درر

على طيب الخيم والمحتضر

على ماجد الجدّ واري الزناد

جميل المحيا عظيم الخطر

على شيبة الحمد ذي المكرمات

وذي المجد والعز والمفتخر

وذي الحلم والفضل في النائبات

كثير المكارم جمّ الفخر

له فضل مجد على قومه

منير يلوح كضوء القمر

 

افتجع محمد ابن الثماني سنين بموت جدّه شيخ مكة، سمع النادبات يعددن شمائله، انتحى ناحية لوحده فراودته الذكريات، ونهشتْه الأحزان، يتذكر أفضال جدّه ويعدّدها: رعني الذي علّمني مجد أسلافّي، رحل عني الذي غذاني دروس الحبّ، والشهامة والإيثار، رحل عني الذي علّمني منطق الكبار.

كان يأخذني جدّي معه إلى البيت الحرام، اعتاد أن يجلس كلّ يوم في ظل الكعبة، يفرش عباءته ويجلس عليها، ثم تأتي سادة قريش تجلس أمامه، يتناقشون أخبار السياسة والاقتصاد، وأخبار مكة عموما، كنت أصحبه وأجلس إلى جواره على عباءته، التي لا يسمح بجلوس أحد عليها، كان يظنّ أنّي سأقضي الوقت في اللعب، لكني اجلس منصتا لأحاديث الكبار، وأتابع ما يتحاورون فيه، وأفقه ما يقولونه، عرفت طرق تفكيرهم، والمواضيع التي تأخذ ألبابهم، ونفوسهم متى تعزّ ومتى تسخو؟ ويستغرب جدّي من مكثي مع حديث الرجال، لم أكن أُضيّع هذه المجالس، ولا أرغب في اللعب مع الأتراب، نظر جدّي مرة لزعماء قريش وقال لهم: ” إن ابني هذا سيكون له شأن عظيم”. فكانت كلمات جدّي الدافع والحافز الذي لم يفتر عندي، فقد رأيت حياة الجدّ هي حياة العظام، وهي طريقي نحو طاعة جدّي وحفظ وصيته.

ما توفي الجدّ إلا وعينُه على ابنه اليتيم يحوطه بالوصايا، فقد تجمع أبناء عبد المطلب وأوصاهم بوصايا العزّ:

ــ “يا أولادي لقد جاءني الموت، وإني مودّع الدنيا، وإنيّ موصيكم خيراً بأنفسكم، فإنّ عزّ قريش بكم، ومجد الكعبة مجدكم، فإن اتّحدتم على الخير، بقي عزّكم ودام مجدكم، وإن تفرقتم ذهبت ريحكم، وطمع فيكم من أهلكم من هو أسرع في الوثوب عليكم من الغرباء والبعداء،

– لقد أثل لكم الجدودُ أمجادا فزيدوها، ولا تنقصوها، ولقد أدّى هاشم رسالته، وأكملتُ لقريش واجبي، وعليكم ما بقي ..

  • وأنت يا أبا طالب، لك الزعامة بعدي، ووصيّتك من مجد قريش.. محمّد .. إنه ابني وأحبّ الناس إلى قلبي، وقلبي يحدّثني أنّه في غدٍ فخر قريش وزعيمها، وإنّ الخير سوف يجري من كفّه سيّالا على قريش وأمّة العرب، فضمّه إليك، ووطّئ له دارك كفنا، وصُنه، واحفظه وأعزّه”.

لكن النكبات لا تأبه بالوصايا، والقدر المخبّأ قد يعاكس توقّعات البشر ويخالف آمالهم، كان محمّد ينظر ويتأمل للسند تلو السند ينتقض ويتساءل: من ذا الذي ينقض سندي ويقطعني!؟ كافلاً بعد كافل وحبيبا بعد حبيب؟! حتى خلت أنه لا يبقى لي حبيب ولا سند ولا كفيل إلا ويقطعه الموت عني، والناس في مكة يحسبون أنني أفجع في أحبتي بفعل مسّ الأصنام، لكنني ما اعتقدت ولا لحظة أنّ للأصنام سببا في فجيعة أحد وموت أحبابهم، فليس هي بأهل للضر والنفع، كلّما ضاق صدري، وفتك الموت بسندي وعوني تهيّأ السبيل لآخر، وهذا الآخر يظلّ يسترخص كلّ عزيز من أجلي، فمن بيده الضرّ والنفع؟ والفرج بعد الكرب؟ والرخاء بعد الشدة؟! إنّي طالما ناجيته، وهفوت إليه، وتعلّقت به، فأشعر بنشوة غريبة يصاحبها انشراح عميق وسرور غريب، فمن أين يأتيني كلّ هذا الإحساس!؟ خلوت بنفسي مرّات ومرّات، أتأمّل في هذا الإحساس الغريب، وهذا الشعور الذي يتملّكني بفراغ عقلي، والرغبة العارمة في ملئه، أهو عبث؟ أم استدراج آفاق الكمال!؟ ومتى يتحقّق ذلك؟ وأخيراً بعد عشرات السنين، وصراع طويل مع النكبات، يطمئنّ قلبي إلى هاتف الحقّ يقرّر تساؤلاتي:” ألم نشرح لك صدرك، ووضعنا عنك وزرك، الذي أنقض ظهرك، ورفعنا لك ذكرك، فإنّ مع العسر يسرا، وإنّ مع العسر يسرا، فإذا فرغت فانصب، وإلى ربّك فارغب”.

كان أبو طالب أجدر بوصية أبيه وأولى الأعمام باحتضان محمّد، ولو لم يكن لهذا البيت وصية لما عدا اختيار محمّد بيت عمّه أبي طالب، فرشت فاطمة بنت أسد ذراعيها لقلب محمد، هي توصي أبناءها دوما بإيثار محمد على أنفسهم، وزوجها عمّ محمّد كذلك، ونِعمَ ما فعل أبناء أبي طالب بمحمد، إلا أنّ البيت ينوءُ بعشرة أبناء، لكن محمّدا الصبيّ صاحب إرادة ومبادرة، وبالرغم من أن عمره وقتئذ لم يتجاوز الثامنة من العمر، إلاّ أنه قرّر أن يشارك عمه في إعالة الأسرة وتحمّل المسئولية، اتّخذ قراراً بذاته دون حثّ ولا إرشادِ أحد، واختار أن يرعى غنمًا لبعض أهل مكة، يرتزق من كدّ يمينه وعرق جبينه، اتّخذ هذا القرار وغضّ ليتربّى على العزّة والكرامة وعون الآخرين، عرض على عمّه إرادته وقراره للعمل، فحاوره في قراره متسائلا:

  • أليس من العار عليّ أن أدعك تعمل الآن يا محمّد؟ يا بنيّ سيقول القريب والبعيد من أهل مكة: أنّ أبا طالب ضمّ ابن أخيه ليكون له عبدا ينتفع به، وهو عار على بيتنا الهاشميّ، وأنت أعزّ أولادي، وقلبي لا يطاوعني إلا أن أؤثرك عليهم، وأنت أمانة والدي وشقيقيّ عبد الله، فما تقول يا بنيّ؟
  • يا عمّاه، الناس لا يعرفون نيّتي وغايتي، فحين أعمل أقطع الفراغ ألاّ يتسلّل إلى قلبي، وأكتسب التجارب، أريد فرصة للتأمّل، وعندي أسئلة تحيّرني، وعقلي يأمرني بأن أكون عوناً لعمّي.
  • وما هو العمل الذي اخترته يا بني؟
  • رعي الغنم، تحدثت مع بعض فتية مكة عن رغبتي، وجاءني عمّي صفوان وزوجه عمتي فارعة بنت وائل يعرضان عليّ رعي أغنامهما مقابل ثلث نتاجها، وأنا أنتظر إذنك يا عمّ.
  • ما دامت هذه نواياك فقد أذنت لك يا محمّد وأتمنّى الخير لك.

نشر صفوان خبر محمّد، وأقبل مخزوم بن الحارث يرجو من محمّد أن يرعى غنمه أيضا، وجاء سعد بن المسيّب وداود بن حبيب يلتمسان منه أن يرعى غنمهما.

سار مع محمد بعض الفتية للعمل معه، وانطلق الفتية في الرعي، لكنهم كانوا ينشغلون بالغناء واللعب وقليلا من الرعاية بالغنم، أمّا محمّد فلم يطبق له جفن حتى يطمئن على القطيع، وهو يسعى في حراستها عن عواديها، وإن ولدت نعجة أحاطها ووليدها بكثير من الرعاية، والباقي من وقته جعله للتأمّل، كثر النعاج، وتضاعف الإنتاج، وكبر الضرع ودر اللبن. لقد أدرك أصحاب الأغنام أن الرعاة السابقين يغفلون عنها، وربمّا تتخلّف الواحدة والثنتان طعمة للذئاب، ويذبحون ويشوون ويدّعون بما قال أخوة يوسف: إنما أكله الذئب. في يوم من الأيام أخبر أحد الرعاة محمدا أنّ راعيا واسمه عجلان بن نوفل ومعه آخرون قد ذبحوا “طليا” وشووه وأكلوه، فأحضرهم محمد وأنكروا فعلتهم، وشهد رفاقهم عليهم، فما كان من محمد إلا أن أرسلهم إلى مكة، وضمن إلى صفوان صاحب الطلية المسروقة ثمنها من أجر عمله، ووقتها ذاع صيت محمّد “الصادق الأمين”. اختار قرار رعي الأغنام لأنّه الأصلح لوضعه وظروفه، لكنه ما كان للارتزاق فقط، بل أنتج من خياره أبعادا لا يلتفت إليها إلا الواعون المخلصون الذين يوظّفون كلّ شيء من أجل أبعاده المعرفية، فقد حقّق أولا الاكتفاء المالي، واقترب من غنمه وسمّى كلّ واحدة منها اسما خاصّا بها، لتألف به ويألف بها، تعرّف بفعل الأيّام والسنين على خصائصها الحيوانية، كيف تتهارش؟ وما أسبابها؟ ما طمعها؟ وما قناعتها؟ ما عدوانيتها؟ وما رضاها؟ ووقف وتأمّل عند تضاريس البلد ومرعى غنمه، وخرج بالأساس بحصيلة علم النفس الحيواني – إن صحّ التعبير- وانطبعت هذه الأبعاد في وعي محمد (ص) منذ صغر سنّه وطبيعة تفاعله معها، ولأن في النفس الإنسانية نزوعاً نحو الهمجية والحيوانية إن انحدرت كلّ نفس عن فطرتها، وأبت الانصياع للنفخة الربانية في إنسانها، فقد كبُر القرار ووظّفه فيما بعد لخير الإنسان وكماله، وتحوّلت خبرة محمد (ص) راعي الغنم إلى الجدارة والأهلية لقيادة الإنسان وتشخيص علله وأمراضه وعلاجه.

في يوم من الأيّام كان محمّد يرعى غنما كثيرة له قد تكاثر وبارك الله فيه، وجاءه أعرابي فنظر إليها وقال: أكلّ هذا لك يا محمّد؟ فقال نعم، أتعجبك؟ قال: نعم، قال: هي لك، قال: أتهزأ بي؟ قال: لا، اذهب فخذها، فذهب الرجل بها وهو يلتفت خلفه خوفاً من أن يرجع محمّد عن قوله، فأخذ الغنم وذهب إلى قومه يقول لهم: “جئتكم من عند خير الناس، إنّ محمّدا يعطي عطاء من لا يخشى الفقر أبداً”. ظنّ الأعرابي في بداية حساباته أنّ محمدا (ص) قد أخطأ الحساب ووهب له الغنم كلها ولعله يرجع عن هبته، لكنه ما إن وصل إلى أهله بكل الغنمات حتى أدرك حقا أنه رُزق رزقا من غير حساب، وأنه جاء بالفعل من عند خير الناس جوداً وخُلقا.

أما محمد وإن كان يأنس يخلوة الرعي، حيث وجد فيها باباً للتأمل، والتفكير في حيرته وضلاله، والتأمّل في الوجود، إلا أنه في وقت صفاء وجداني، وفي ساعة صفر ولحظة تحوّل، وتقلّب في الساجدين طلبا للحقيقة الكبرى، لا يرى طريقاً غير أن يفدي بأغنامه التي تكاثرت حرصا منه على مواصلة البحث في تجربة أخرى، لتغدو قيمة هذا الكثير من الأغنام عنده صفرا، ليرتحل نحو مرحلة جديدة، خصوصا وقد مضى على عمله سبع سنين ولم يعد هذا الباب يعطيه أفقا جديدا.

اختار محمّد مرحلة أخرى غير الرعي، عرض على عمه أبي طالب أن يأخذه معه إلى الشام للتجارة، بقي فيها حتى بلغ خمسا وثلاثين سنة، مدة عشرين سنة تقريبا بين مكة والشام وبين مكّة واليمن، ليس همّه الكسب المادي، فهو أمر مفروغ منه، ما دام يتعامل وفق مبدأ الشرف والصدق والأمانة، ربحت تجارته وعلا صيته، كما أنّ في الرعي كسْباً أغناه عن الحاجة وأفاض عليه مالاً أعان به عمه أبا طالب، استفاد من حياة التجارة، وتعرّف على طبائع البشر، فالمال والتجارة محكّ لقيمة الإنسان، فقيل:” أتعرف فلانا؟ نعم أعرفه. أتعاملت معه بالدينار؟ قال: لا، قيل إذن أنت لا تعرفه”، ومكة وهي أرض الرسالات، وأرض القيم الأخلاقية والعلاقات الإنسانية، تغيّر وجهها، وتنكّرت لتاريخها، وانمحى الكثير من خُلقها، وضاق الخناق على الحنفاء (دين إبراهيم) من أهلها، وامتلأت بالتجارات فابتليت بالربا، والفواحش، والتسلّط، والطغيان، وخطف النساء، ووأد الفتيات خوفا من خطفهن وتدنيس عرضهن، وساد الكثير من قيم الشرّ والقبح والفساد، وامتاز عُبّاد المال، والراضخون للذلّ والهوان والاستعباد، استنكرهم محمد وتعالى على قبحهم وباطلهم، هو معهم وهو غريب عنهم، يتعشّق قيم الحق والجمال، أمين لا يخون، صادق لا يغشّ، لم يستعبده أحد ولم يطغ على أحد، يصل الرحم، ويصدق الحديث، ويحمل الكلّ ويُقري الضيف، ويُعين الضعيف، وينصر المظلوم، زايلهم لتمسّكه بحنيفية آبائه منذ إبراهيم الخليل، وقد خبَر من رحلات التجارة مصدر الشقاء وتآكل جوهر الإنسان عند أكثر أهلها، وهو لا يزال يبحث عن حيرته وضلاله، وما يغذّي تطلعه، حينها قرّر في لحظة وعي، أن يترك مال تجارته إلى شريكه السائب بن أبي السائب، ويتخلّى عنها إليه.

اختار مكانا بعيدا عن شواغل الناس وملاذّهم، في غار حراء، تصعد إليه خديجة تحمل له الزاد وتبقى يوماً ويومين وثلاثة وترجع عنه، ملأ وقته بالتأمّل في ملكوت السماء والأرض، أخذت الحقيقة تتجلّى أمام عينيه شيئا فشيئا، أجاب على الكثير من تساؤلاته واستفزازات عقله، وصل في هذه الرحلة العقليه الروحية إلى الله، واطمأنّ أخيرا بقطع هذه المراحل في حياته، فما اتّصل حتى وصل، فنزل عليه الوحي:” اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربّك الأكرم الذي علّم بالقلم، علّم الإنسان ما لم يعلم” وبعدها اتّجه إلى تغيير واقع مكة وما حولها، بل والعالم كلّه.

من طفولة محمد (ص) وصباه وشبابه، نستطيع التماس إنسانيتنا، من تجاربه وعقله وفطرته وروحه ولو بعيداً عن دور الوحي في توجيه مواقفه وبناء قراراته، ولعلّ المواقف التي يوجّهها الوحي الربّاني تُصبح مانعاً أمام التأسّي والقدوة عند الكثيرين، جاعلين طاقة الوحي وتسديده سبب عظمة محمّد، في حين أعلن سبحانه ( اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ )، وكما قال القائل: ” إنّ محمّدا ليس مضطرا أن يكون إنسانا، لأنه كذلك”، وصل للإنسانية في طفولته وصباه فتأهّل للوحي والعناية الربانية ليكون معلّما وقائدا ودليلا وعوناً إليها.

وفّقنا الله تعالى لفهم خُلق محمد (ص) ونهجه وعقله وإنسانيته قبل البعثة وبعدها والله ولي التوفيق…

شارك بتعليقك

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني.

عصى آدم..الحقيقة دون قناع
  • معصية آدم، نموذج لمفردة في البناء المعرفي! وحلها سيعيد لإنساننا خارطة نفسه وهويته الضائعة وهدف وجوده
  • معرفة هذه الحقيقة صدمة تعيد الوعي، نعقد بها مصالحة بين التراث والمستقبل لنعيش لحظة الحاضر بيقظة أننا على جسر التحول الإنساني، الذي بدأ في الأرض بالإنسان الهمج ليختتم بالخليفة "الإنسان الإنسان"
مسخ الصورة..سرقة وتحريف تراث الأمة
  • أخذت الحركة الصهيونية على عاتقها غرس دولة لليهود في خاصرة الأمة فزوروا التاريخ العربي ونسبوه لليهود
  • اختلقوا لغة بسرقة إحدى اللهجات القبلية العربية البائدة وأسموها اللغة العبرية
  • أقحم الدين والتاريخ للسيطرة على عقول الناس ونقلت رحلات الأنبياء من مواقعها ليأسسو لاحتلال فلسطين فساهم هذا التزوير في مسخ صورة العربي والمسلم في الثقافة الغربية
مفاتيح القرآن و العقل
  • إذا كان كلام الله واحداً ودقيقاً، كيف حصل له مائة تفسير؟
  • ماذا لو كانت أمتنا تقرأه وتترجمه معكوساً، كلبسها إسلامها مقلوباً؟
  • أصحيح هذا "المجاز" و"التقديرات"،و"النسخ" و"التأويل" و"القراءات"؟
  • هل نحن أحرار في قراءة القرآن وتدبره أم على عقولنا أقفال؟
نداء السراة..اختطاف جغرافيا الأنبياء
  • ماذا يحدث عندما تغيب حضارة عريقة
  • هل تموت الحقيقة أم تتوارى عن الأنظار لتعود .. ولو بعد حين؟
  • هل تقبل بلاد وادي النيل بعودة حضارة القبط الغريبة؟
  • هل تقبل نجد بعودة موطن آباء الخليل إبراهيم وبنيه إسحاق ويعقوب؟
الخلق الأول..كما بدأكم تعودون
  • إن البشر الأوائل خرجوا قبل مئات آلاف السنين من "قوالب" الطين كباراً بالغين تماماً كالبعث
  • جاء آدم في مرحلة متأخرة جداً من سلالة أولئك البشر اللاواعي، فتم إعادة تخليقه في الجنة الأرضية ونفخ الروح فيه
  • آدم أبو الناس ليس هو آدم الرسول الذي أعقبه بمئات القرون
الأسطورة..توثيق حضاري
  • الأساطير وقائع أحداث حصلت إما من صنع الإنسان، أو من صنع الطبيعة، أو من صنع السماء
  • لكل اسطورة قيمة ودلالة وجوهراً وتكمن فيها أسرار ومعاني بحاجة إلى إدراك وفهم
  • من الضروري العودة إلى اللغة العربية القديمة بلهجاتها المختلفة لفك رموز الأساطير التي غيب الكثير من مرادها ومغازيها
التوحيد..عقيدة الأمة منذ آدم
  • لو أنا أعدنا قراءة تراثنا بتجرد لأدركنا حقيقة اليد الربانية التي امتدت لإعداة الانسان منذ خطواته الأولى على الأرض بما خطت له من الهدى
  • التوحيد منذ أن بدأ بآدم استمر في بنيه يخبو حيناً ويزهو حيناً آخر، ولكنه لم ينطفئ
بين آدمين..آدم الإنسان وآدم الرسول
  • هل هما (آدمان) أم (آدم) واحد؟
  • من هو (آدم الانسان) الأول الذي عصى؟
  • من (آدم الرسول) الذي لا يعصي؟
  • ماهي شريعة (عشتار) وارتباطها بسقوط آدم الأول حين قارب شجرة المعصية؟
طوفان نوح..بين الحقيقة و الأوهام
  • ما قاله رجال الدين والمفسرون أعاجيب لا يقبلها المنطق ولا العقل السليم في محاولتهم لإثبات عالمية الطوفان
  • استثمر المستنفعون من اليهود هذه القضية ليبتدعوا القضية السامية ويرجعوا نسبهم إلى سام بن نوح (ع)
  • قضية طوفان نوح (ع) لا تكشف التزوير اليهودي فحسب، بل تضع يدها على موضع الداء في ثقافة هذه الأمة