بعد عقودٍ من الهوان الذي جثم على صدر الأمّة ومسيرة الذلّ والاستلاب التي لطّخت تاريخنا المعاصر، أعاد شبابُ تونس ومصر الروحَ لهذا الجسد المريض الذي ظنّ العالم أنَّه مات منذ دهر، فشكّل قيامُ شعب مصر نهضةً لن تهدأ حتى تُطهّر واقعنا بإذن الله من الدَنَس، ولكي تأخذ أرضُ الكنانة موضعها الطبيعي في قيادة الأمة وريادتها نحو العزّ والتوحّد، هذا الموضع الذي فارقته منذ توقيع اتفاقيات الاستسلام في كامب ديفيد. لا يخفى على أحد ماذا شكّل غيابُ مصر، وكم هي المحن التي تكبّدتها الأمّة وذاقتها خلال هذا الغياب، وها هم شباب مصر وقبلهم شباب تونس قد أرسلوا نفحات الحرّية والكرامة وعادوا بتذكيرنا أنّ هناك قيَماً دُرست قد وطأتها الأقدام حتى ما عاد لها موضعٌ في قاموسنا. ذكرّونا بالكرامة، وبأنّ الحرية والعدالة والشراكة والشفافية وتجريم الفساد إنّما هي قيَمٌ إنسانية وحقوقٌ أصيلة وضروريّة ليست بعطايا ولا منَحاً، وهي الضامن الحقيقيّ لاستقرار الأوطان وصدّ مكائد ومطامِع أعدائه. ها هو رأس الشهيد “خالد سعيد” المهشَّم يدكّ عرش طاغوت فرّط بسيادة وطن…
أهدانا نهج السلام الداخليّ والعالمي فماذا نهديه في مولده (ص)؟ تستعيد أمّتنا اليوم ذكرى ولادة محمد (ص) طفل مكة المبارك، وصبيها اليتيم، ذلك الذي عرف جادّا في مسيرته، منضبطا بعقال أخلاقه دون رقيبٍ من خارجه، متحرّرا من قيد مشايعة أقرانه من شباب مكة الغارقين في الشهوات الجاهلية، شاب اكتمل جماله باكتمال محاسن خصاله، فعرف في جزيرة العرب بالصادق الأمين. تمرّ الأيام فلا يزداد إلاّ رفعة وسموّا، حتى إذا قارب منتصف عمره تخلّى من هموم المعيشة إلى حيث الصفاء، وحيدا في وحشة غار حراء، يتحرّى الحقيقة، ويتفكّر في شأن الخلق والخالق وسُبل إصلاح العبثيّة والفساد، يطلب إجابات أسئلته الكبرى المحيّرة عقله، والموقدة فكره، يريد معرفة اليد التي قلّبته وما زالت في الأحوال على امتداد عمره لتُفقده أباه جنينًا، ثمّ أمَّه طفلاً، ثمّ جدَّه صبيّاً، تُفقده العائل بعد العائل وتُنقض ظهره، كأنّها تغار إلاّ أن تُعيله هي، ليأتيه الجواب: أن اقرأ كتاب حياتك ضمن كتاب الحياة، اقرأه باسم ربّك ستجده منتظما في عقد فريد، صاغته إرادةٌ حكيمة، “واصطنعتُك لنفسي”، الرحمن هو مَن…
من بقاعٍ تتبلّج أبديّةً بالنّور شعّ مولدُ سراجِها المنير (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ)، من”بكّة” بدأ النور والإشراق، ومن فضائها امتدّت يد السماء لتخصّ مخلوقها الإنسان بالحياطة والإغداق، فكانت مبدأ الإنسان، تعلّم في ربوعها كيف يكون إنسانًا، منذ آدم إلى محمّد، وما بين آدم (ع) والخاتَم (ص) لم تكن إلا أمّة واحدة، تحمل مشعل النور وترتقي برسالة مكارم الأخلاق ليُتمِّمها آخرُ مبعوث، رسالة الفطرة الانسانية، التي كلّما آذنتْ شمسها بغروبٍ، جّددها الوهّاب بإبلاج فجر رسلٍ يؤجّجون بالمحبّة أوارها، ويتعهّدون بالمكابدة والمجاهدة شجرتها، ليثبّتوا الذين آمنوا على صراط فطرته السليمة، ويحملوا همّ إرادة الإصلاح والارتقاء بأمّة البشر ليتسنّموا موقع الإنسان الذي أراده الرحمن أن يكون خليفته، شغوفًا للحكمة وتوّاقاً للمعالي. وهكذا بزغ نور محمد مولوداً، فأرّخ بمولده نهاية أزمنة الطفولات، ثم مبعوثا -مع بلوغه الأربعين- بالحكمة والموعظة الحسنة، فأكمل الدين وختم الرسالات، وأتمّ مكارم أخلاق الإنسان، وكان لأمّته القدوة الحسنة، فما زالت الأمة بخير ما دامت تتلمّس طريقًا إلى مبادئه وقيمه، لتكون كما أرادها سبحانه الأمّة…
“لكي لا نقتل الحسين” (لا يوم كيومك يا أبا عبد الله) هكذا قال أخٌ لأخٍ، وسبطٌ لسبطٍ، الحسنُ للحسين -وهو يُنازع سمَّه متلافياً آلام احتضاره- مُستشرِفاً لأخيه يومَه العصيب، المُفعم بدروس التحرّر وقيَم العزّ وألوانِ التضحيات أمام قسوة خذلان الناصرين وشراسة الظالمين. إنّ (يومَ) الحسين في الأمّة من أيّام الله المجيدة، وإنّ بإحيائه الحقيقيّ إحياءها، لأنّ بأمثاله يُعاد صياغتها بقيَم الحقّ والعدالة والإباء والعزّ، لتنهض (أمّةُ محمّد) مؤتلفةً على قضاياها المصيريّة بدل التناحر على السفاسف السفلى المُصطنعة لها، والممعنة تخديراً فيها وتقطيعاً لأوصالها. في (أيّام الله) نتوقّف ويتوقّف الزمن لنزن قلوبنا بميزان حرارتها، إن كانت قريبةً من ظالم أو عوناً لمظلومٍ، عاشقةً للفضائل أم تميع مع مصالحها وجهالاتها، تهفو للصالحين أم معصوفةً بأهوائها. تزورنا ذكرى (عاشوراء) وينقسمُ بها أفرادُ أمّتنا إلى واعٍ للذكرى ومعانيها، أو غافلٍ عن مقاصدها، والواعي لها إمّا قد أدركها على الحقيقة أو أدركها على التحريف والتشويه الذي ألمّ بكلّ شيء جميلٍ في أمّتنا فأفرغه من جواهره، فإنْ كان مِن الذين أدركوها مشوهةً فهو كالسائر على غير…
السادة الأفاضل / أعضاء مجلس النواب المحترمين – في دورته التشريعيّة الثانية السلام عليكم جميعاً ورحمة الله وبركاته، نبارك لكم فوزكم بثقة ناخبيكم، اختاروكم نواباً عن الوطن، ونحن سنثق باختيار الناخبين في كل دائرة على أن اختيارهم صالحٌ لتمثيل الوطن كله، وسنضرب صفحاً عن كل العصبيات المذهبيّة والمصالح الشخصية التي ألجأت بعض الناخبين في تحديد الاختيار، على أمل أن هذا لن يؤثر في إرادة المرشح الواعي، الذي يعلم أنه لم يرشّح نفسه لخدمة دائرة واحدة ولا طائفة واحدة، آملين أن يكون ما كان لمجرد جهل ساعة الانتخابات، حتى إذا وضعت حربها أوزارها وهدأت النفوس، وتحمّل ثقل المسؤولية من تحمل، عاد للجميع رشدهم، وعلموا أنهم موقوفون للسؤال مِن قبَل العباد قبل ربّ العباد، للمساءلة عن كل حقّ لذي حقّ كان بمقدورهم ردّه إليه فلم يردّوه. بالأمس كنتم أفراداً منا، واليوم أنتم نوّابٌ عنا، عنّا جميعاً، سنّيكم عن الشيعة قبل السنة، وشيعيكم عن السنة قبل الشيعة، وغنيّكم عن فقيرنا، وفقيركم عن غنينا، وإن أكبر الأوزار وزر تضييع الأمانة بخوف أو كسل أو…
شهر السلام الرمضاني حلّ شهرُ صناعة الخليفة الحقيقيّ، الخليفة الإنسان، ناشر العدل وصانع السلام. أتى شهر صناعة أقدارنا لسنةٍ قادمة، إمّا حافلةٍ بأعمال البرّ والإعمار، أو مسْودّةٍ بشرورنا وبالدمار. أطلّ شهرٌ هو عند الله خيرُ الشهور، شهرُ إعمار القلوب بالذكر والمحبّة، وإعمار الأرض بالعدل وبالصلاح. وليس (الذكر) بأوراد لسانٍ خاوية فقط، بل هو (ذكرٌ) للهدف الذي صنعنا الله له، لاستعادة ملامح خطّة “الصراط المستقيم” التي ينبغي سير البشر عليها والاستقامة بها وعليها. وليس (إعمار الأرض بالعدل والصلاح( إلاّ معنى الاستقامة لقيامةٍ بالواجب الحكيم تجاه الأشياء، ومقارعة الفساد والاعتداء، الطبيعي منه أو المصطنع، النفسي أو الغيريّ، الدوليّ والسياسي والاجتماعي والأسريّ والشخصيّ، فالذي لم يعرف بعد كيف يجعل ذهنه مستقيماً وقلبه وأخلاقه ومبادئه مستقيمة، لن يكون سلوكُه وقضاياه وقيامه وقعوده مستقيماً، مهما صلّى أو صام، فلا سلامٌ له ولا منه ولا عليه حين يقوم أو يقعد، لأنّه لن يقوم لله ولا لرعاياه بل جامحاً بميوله وباعوجاج نفسه. في شهر الله (رمضان) هلّ أمرُ وجودنا، بدأ الإنسان، حين بدأ وصْل السماء بالأرض، وفي ليلة قدره، صنع…
مولانا يا رسول الله يا من بعثت رحمة للعالمين، لتخرج الناس من الظلمات إلى النور، يا من لم تكن فظّاً غليظ القلب، بل كنت على خلق عظيم، نشهد أنك جئتنا رسولاً من أنفسنا حريصاً علينا بالمؤمنين رءوف رحيم، هذه أمتك لا زالت بها بقايا من روح، ثارت غاضبة لأجلك أن تهان وتحتقر، فأنت أنت لا زلت تسكن القلوب ولن تزال، فضلك علينا عظيم، كما كان فضل الله عليك عظيماً. مولانا يا رسول الله أسئلة نوجهها إليك من القرن الخامس عشر لهجرتك المباركة، فأمتك قد وقعت فيما حذرتها منه، عادت كفاراً يضرب بعضها رقاب بعض، كأنك أوصيتها بالاختلاف بدل الائتلاف وكأنك لم تناد فيهم من عميق بصيرتك ونبوءتك وأنت النبيّ البصير “أيها الناس إنّ دماءكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة اليوم الحرام في الشهر الحرام في البلد الحرام”! وكأنك لم تنادِ أنّ المؤمنين أخوة، وأنّ المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره! مولانا يا رسول الله لقد عدنا بعدك كفاراً يضرب بعضنا رقاب بعض، اختلفنا من بعدك مذاهب شتى، وافترقنا…
نعزّي نبيّنا نبيّ الإنسانيّة والعطف والرحمة (ص) وآل بيته الأطهار (ع) لا سيّما خاتمهم (عج) وأصحابه الأمجاد (رض) الذين تآخوا في الله لحمل راية دينه وأزالوا عصبيّاتهم الجاهليّة وتآلفت قلوبُهم على البرّ والتقوى بعزّة الله وفضله. ونعزّي أمّتنا المحمّدية، وأمم بني الإنسان قاطبة، ومرجعيّاتها الدينيّة الفاضلة، وكلّ علماء الخير والصلاح الأعلام الذين تذوب قلوبهم ويسيل دمهم وعرقهم العبِق لخير الإنسان والإيمان. نعزّيهم لاستباحة القداسة بالانتهاك الآثم والأليم لمرقد الإمامين سليليّ النبوّة الهادي والعسكري (ع) في سامراء، ويحقّ لأمّتنا أن تتعزّى، فبالأمس تُطعن قداسة نبيِّها (ص) واليوم تُطعن قداسة أبنائه (ع)، فاجتمع على ذلك، أيدٍ غربية لادينيّةٍ مستهترة، وأيدٍ في أمّتنا فاجرة. هال المستعمر الجديد إيمانُ هذه الأمّة، فما وجد شيئاً يشغلها به إلاّ أن يفتعل الأزمات والأحقاد بين طوائف أبنائها، لذا على أمّتنا أن تكون على مستوى الوعي والمسئوليّة، لأنّ أيّ انجراف في هذه الفتنة ستجعلها ظهراً يُركب للفكر التكفيريّ المستشري، أو ضرعاً يُحلب من قبل المحتلّين الذين رهنوا مصالحهم باستنزاف أمّتنا، فإنّ مراد العدوّ مهما كانت له أفعال برّ…
رأسٌ ينطق في رمحٍ أخرس “إني لم أخرج أشرًا ولا بطرًا ولا مفسدًا ولا ظالمًا، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدي رسول الله (ص)” متوجهاً إلى كربلاء انطلق الثائِرُ يجلجل بشعار الإصلاح في أمة جده (ص)، مدركاً ببصيرته حلَكة حاضر سيؤول لمستقبَلٍ أشدّ إحلاكاً، إذا ما رزحت الأمّةُ الحرّة تحت إمْرة الطغيان، جابه الطاغوتُ تلك البصيرة النافذة بتضليل أمة محمّد (ص)، لبثّ روح الهزيمة فيها، فوصم نشيدَ التغييرِ بخروجٍ عن طاعةٍ ومفارقةٍ لجماعة، ونشرٍ لفساد وبذرٍ لفرْقة، آتى هذا الإعلام المضلّل أكله حين استنصر الحسينُ الحجيج وأحلّ لخروجه إحرامه، فأحلّ الباغون بخروجه حرماته، وانزوى المتقاعسون عن الصلاح يُجبِّنونه ويخذلونه وتولّوا وهم معرضون (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً) (النساء:66) وها هي أمّتنا منذ تلك النكسة تدفع ثمن خذلانها الأصمّ عن ابن بنت نبيَّها (ص). فاستلاب أمر الأمّة، والتوصّي على دينها ودنياها، واستبدال شورى الإسلام بوراثة عضوض، والانقلاب…