تجذير الطائفيّات بتشجير بلاستيكي متعالٍ

أشجار بلاستيكية

مثلما تكلّم أحدٌ مرّةً عن “صينية” تُحفة (جمْعُها صواني)، وتخيّلَ سامعُه امرأةً “صينيّة” مُغرية! قلتُ مرّةً: (الإسرائيليّات تسلّلت لنا لإفساد مناعتنا)، فحسبني سامعي أقصد إناثاً صهيونيّات تسلّلن لأقطارنا لإغراء المسلمين جنسيّاً، عبر منافذ بلدان التطبيع والهرولة، أو بجوازات أوروبيّة، فينشرن الإيدز والفواحش، لتتآكل مناعةُ مجتمعنا أخلاقيا وجسمانيا، بينما كُنتُ أقصد (بالإسرائيليّات) المصطلح المُتعارف، لمرويّات بني إسرائيل ومفاهيمهم الكهنوتية، تسلّلت ونُسبت لصلحاء المسلمين، لتُداخل التفاسير والعقائد وتشريعات الفقه، فأعدنا إنتاج فيروساتهم عبر أمّهات عقائدنا وسلوكنا!

إنّ الجرائم الصهيونيّة التي تحيق بشعب فلسطين وانتهاكات حقوقه الإنسانيّة وكرامته، هي إفرازات عقليّة برمجتْها عقائدُ تلموديّة ممسوخة، ولقد تأمّلتُ مقالة اليهود (نحن أبناءُ الله وأحبّاؤه)، واستعلاءهم على الآخرين (ليس علينا في الأمّيين سبيل) واحتكارَهم للدّين (كونوا هودًا أو نصارى تهتدوا) وأنّ الجنّة حصريّاً لهم (لكم الدارُ الآخرةُ خالصة من دون الناس)، واستضعافهم للمرأة وتصييرها من ضلع أعوج لآدم، وأصلاً للخطايا والشرور!

وتأمّلتُ تضمينَ اليهود في التوراة (شجرة) نسلهم، وإيصالها حتّى آدم! وجعْل (طائفتهم) نسل الأنبياء والأصفياء وأبناءهم الشرعيّين، أيْ (أبناء الله)، وغيرهم/الأغيار أبناء الشيطان، وجعلوا -وهم يُدوّنون (سفر الخليقة) لتوراتهم- كلّما عرّجوا على (شجرة) انشعبتْ عن أحدِ أجدادهم يصمونها بالسلالة غير الشرعيّة! فالكنعانيّون أبناء (حام) ملعونون على لسان نوح! بينما هم أبناء (سام) المبارَكون! ثمّ قالوا أنّهم أبناء (إبراهيم) وليسوا نسل لوط (العموريّين) أبناء الزنا! ثمّ ذرّية إسحاق دون إسماعيل المتوحّش(!) الذي نسَل الأمّيين (ويعنون العرب العدنانيّين أبناء إسماعيل)! ثمّ ذرّية يعقوب دون أخيه (عيصو/أدوم) والأدوميّون أرجاس! وهكذا حصروا النقاوة بعِرقهم، مع أنّهم اعترفوا في توراتهم أنّ كهنتهم مارسوا الرذيلة حتى في قدس الأقداس…، لقد أخرجت (جمعية التجديد) بحثًا مفصّلاً بهذا..

ولكنّ الذي لم نفصّله مُحاكاتنا! حين نتأمّل أسوأ عقائدنا تجاه بعضنا، المدّعية طهارتنا ودناسة الآخر، لتُشكّلنا كنسخة كربونيّة للأصول اليهودية، سواءً زعمُ متطرّفي السنّة والشيعة في بعضهم، بأنّهم أبناء زنا وإباحة وغير شرعيّين، وأنّ (الجنّة) و(الشفاعة) و(الهدى) و(وقاية النار)، حكرٌ لهم دون العالَمين! استنساخ كلّي لعقائد الصهاينة حذو النعل بالنعل، دخلوا جحر ضبٍّ فدخلنا بأعقابهم مهلّلين.

الاستنساخ يتبدّى في تلفيق (شجرة) طهارة أيضاً، وتلفيق (سلالة) سلف صالح تخصّنا كفرقٍ وطوائف، وإزاحة أسلاف الآخرين، مشاكلين قول الفرزدق لجرير (أولئك آبائي فجِئْني بمثلهمْ.. إذا جمعتْنا يا جريرُ الجوامعُ)، فآدم ونوح وسام وإبراهيم ويعقوب(ع) بريئون من انتماء الصهاينة لهم، وأليق بهم توصيفُ عيسى(ع) بحقّهم: (أبناء الأفاعي)، وكلّ انتهاك للآخر مُورس بالاستقواء برموزٍ تاريخيّة يُكسب صاحبَه إثميْن؛ إثم تدنيس الأموات وإثم استباحة الأحياء، ليس غاية اليهود تقديس واصطفاء آدم ونوح، بل غايتُهم تقديس ذاتهم الطائفيّة واصطفاء ذواتهم.

الآن نجد فئات يلفّقون لطائفتهم (أشجاراً) وانتماءاتٍ تبدأ بعليّ(ع) وتعرّج بآل بيته لتنتهي بفقيه معيّن وحاشيته وبشيخٍ وشلّته، وكلّ التقديس والنفخ ليس للسادة الأولياء السالفين، بل لتدعيم الذّات ونحلها مجداً تاريخيّا وانتساباً وشرعيّة، لاستباحة الآخر وتخطئة خياراته والاستعلاء عليه، وهناك من يُبسمل بالصحابة (رض) ويثنّي بالسلف وبأئمّة المذاهب وبالبخاري، ويصطنع سلسلته الذهبية الخاصّة بانتمائه مختتماً بشيخه، ويُحارب عنها، ويُكفّر مخالفيه/مخالفيها ويستبيحهم استباحة اليهود للأمّيين!

الحزبيّون اليساريّون لهم (شجرة) أعذاقها مناضلوهم المحلّيون والإقليميّون، وتُعرّج بأمميّين كغيفارا ولينين، لتنتهي أصولها السحيقة ربّما عند أبي ذر، وللحداثيّين شجرة سيقانها دريدا وفوكو وتستقي جذورها ربّما بالتوحيدي والجاحظ، وكلّ شجرة (مصطنعة) تطاول صُويحباتها في غابتنا، لتقول أنّها الأوْلى بضوء الشمس، وبالرفعة، وبالجذر الضارب/الأصول الشرعيّة! والواقع أنّ الكلّ يُطاول عن نفسه، ويُؤصّل ويُشجّر حميّةً لذاته، وما الشجرة إلاّ للتسلّق، بدليل قفز قلائل من شجرة لأخرى ومن مذهبٍ لآخر!

ربّما واجبنا تحييدُ (الأشجار) النَّسَبيّة، البلاستيكيّة، المصطنعة، لئلا يطال التدنيسُ رجالاتها البريئين، ويُلعب بهم كجواكر مراهناتنا، واكتشاف أداة قياس تميّز المهتدي (ذاتاً)، بلا فِرَق ناجية، ولا احتكارٍ لجنّة، ولا فوقيةٍ بتاريخ وبجغرافيا وبأصولٍ مزعومة، فلا الآخر ابن زنا ولا الأوّل طيّب المنشأ، بل (كُلّكم لآدم)، أداة تقيس إيمان المرء وعمله، مشاعره وسلوكه، أمانيه لنفسِه وأمنياته للآخرين، حبّه وبغضه لمن ولماذا، وصلاحه النفسيّ وفساده، بهذا نتعرّى عن العباءات المموِّهة، التي نُدنّسها لنُزكّى، فبعدئذ تسقط كلُّ المناكفات الجامحة برؤوس البعض أنّهم جيشُ الصحابة وسلالتهم، أو بقايا حزب عليّ، أو سلالة كنعان وشجرة عدنان، ونسل حمورابي والقعقاع!

فكلّها بالونات غرضها العلوّ على الآخر، واستخدامها بحدّ ذاته إفلاس ذاتي للمتبجّح بها، دفعه ليستسقي بعظام المقابر، ويلتهي بأشباح التكاثر، و(ليس الفتى مَن قال كان أبي.. إنّ الفتى مَن قال ها أنا ذا)، أعجبني سلمان حين قال (أنا ابنُ الإسلام) وفطم نفسَه عن المكاثرة بشيء خارج اختياره.

(تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوّا في الأرض ولا فسادًا، والعاقبة للمتّقين)؛ لا عاقبةَ حميدةً لكلّ مُستعلٍ، لأنّه سيبيد خصومَه وسيبيدونه ولابدّ، إلاّ الذين (اتّقوا) العلوّ على الآخرين، وأيقنوا سخافة الاحتراب بالتاريخ، وتلفيقه واستدعائه لصالحهم، فحفّزهم إيمانُهم لعملٍ صالحٍ يُفيدونه لجميع الناس.

شارك بتعليقك

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني.