كلمة الدكتور أحمد داوود – حفل تدشين تحالف مفكرون ضد التزوير

مملكة البحرين

جمعية التجديد الثقافية الإجتماعية

 

كلمة الدكتور أحمد داوود

حفل تدشين تحالف مفكرون ضد التزوير

26 ديسمبر 2010

 

أيها الأعزاء.

أحييكم جميعاً وأتقدم إليكم بجزيل الشكر والتقدير لإطلاق مبادرتكم الرائعة التي طال انتظارها, من أجل إعادة الألق إلى تاريخنا بعد أن تراكمت عليه أكوام التزييف والتزوير المتعمدين. فتاريخ الأمّة هو شخصيتها وهويتها وذاكرتها, ولا عقل بلا ذاكرة.

منذ أن قررنا دخول مدينة هذا التراث كنا ندرك خطورة المهمة, وأننا قد ندخل غابةً من الأطلال والركام والشظايا, ونضيع في شبكة عنكبوتية من المسالك بين دُور ضاعت معالمها وخمدت نيرانُها وانطفأت قناديلُ شرفاتها وتغيرت معالمها عبر عشرات الآلاف من السنين. وفوق هذا وذاك كنا مدركين أيضاً أننا سوف نُفاجأ عند كل منعطف بشرذمة من اللصوص هنا وعصابة من النهّابين هناك بعضهم دمر ونهب ثم رحل, وبعضهم دمر ونهب ثم ادّعى لنفسه كل ما نهب, وبعضهم خرج حديثاً من جحور تخلفه فأُعجب بنفسه حينما رأى نفسَه لأول مرة منتصب القامة تحت الضوء فزعم أنه (عِرقٌ) متميز وانهمك ككل الآخرين في تقصي آثار مدينتي. وأكبّوا جميعاً على حجارتها يزيلون عنها شواهد وجودي ويحكّون آثار يدي وقلمي وإزميلي ويزوّرون مالا يفهمونه, ويخترعون لأنفسهم تاريخاً لم يكن له وجود.

لكن ما لم يقدروا على استيعابه ومن ثَمّ مجابهتِه بأسلحة التزوير أو الطمس أو الإلغاء.. هذه اللغة العربية الخالدة بلهجتيها العرباء والسريانية.

إن هذه اللغة العجائبية التي حملت كلماتُها ليس تاريخَ الإنسان العاقل منذ بدء وجوده على هذا الكوكب فحسب, وإنما تاريخَ النشوء كله. فصارت هي نفسها كتابَ التاريخ الصحيح الوحيد المفتوح لمن يريد أن يقرأ ويعرف.لم تتأثر بكل ما مر على المنطقة وإنسانها عبر كل العصور والدهور, بل بقيت صامدة تخبيء في ذاتها كلَ ملامح وجود هذا الإنسان العاقل منذ أن بدأ العيش في جماعة, وواكبته في كل مراحل حياته وتطوراتها, حاملةً كلَ إبداعاته وإنجازاته, إخفاقاته وانتصاراته, في كل أطوار صعوده أو انحطاطه إلى يومنا هذا.

هذه اللغة التي أكد السيد ماسينيون على طاقات البناء الداخلي فيها والمستقبل العالمي لبنيتها اللغوية. هذه الطاقة التي فسّرها جان وولف في كتابه «يقظة العالم العربي بالقول: «لقد انفردت هذه اللغة بين كل لغات الأرض بقوة التعبير عن عدة أحوال معينة, وتحقيقِ اتفاق منسجم بين الفكرو ولحظة تأسيسها, هذه الطاقة الداخلية الخاصة بالعربية عبثاً تبحث عن مثيلها في اللغات الأخرى المستعملة في العالم». (ص 309-310).

أيها الأعزاء. نحن نعلم جيداً أن في هذا العالم كثيراً من الأصوات المنصفة وقفت وتقف ضد الممارسات الظالمة الدؤوبة والمستمرة التي تمارسها المؤسسات صاحبة القرار في بلدانها, ونعلم أيضاً أن الأصوات من داخل بيت الأمة العربية نفسها – على ندرتها – لا تكاد تُسمع, بل شبه معدومة. والكل يعلم أنه لم يلقَ تاريخُ شعب من الشعوب أو أمّة من الأمم من ضروب المسخ والتشويه والتزوير مثل ما لقيه تاريخ أمتنا على مدى هذين القرنين الأخيرين من قبل خصومها والطامعين فيها. ومع هذا, فكما أن هناك من يختبيء تحت لحاف الحكمة والتعقل ليبرر عجزه عن ممارسة دوره في المقاومة والقتال من أجل تحرير الأرض المغتصَبة, فإن ثمةَ موجةً كبيرة على امتداد الساحة ممن يُسمّون مثقفين ما ينفكون يختبئون تحت قناع كلام الموضوعية والتزام عدم المبالغة, لكنه القناع الذي لا يخفي خلفه غيرَ كذب العاجزين ولؤم المقصّرين. فهل كان شاعرنا العظيم أبو الطيب المتنبي يعاني في زمانه مثل ما نعانيه اليوم حين قال:

كلُّ حِلمٍ أتى بغير اقتدارٍ                         حُجّةٌ لاجيءٌ إليها اللئامُ

من يهُن يسهُل الهوانُ عليه                             ما لجرحٍ بميتٍ ايلامُ

لهذا, وانطلاقاً من هذا الواقع, اسمحوا لي أن أخرج على تقاليد الكلمات في مثل هذه المناسبة العظيمة فأبعثَ برسالة دونما عنوان, كلماتُها مثل طيور مجنّحة تعرف دربها وإلى من تطير.. إنها:

 

كلمات لها ملامح:

منذ عشرات آلاف السنين أوقدت جدّتي «الشُعلة» الحضارية ودُعيت «ربّة الشعلة» وآلت ألا تدعها تنطفئ .

ثم وبعد عدة آلاف من السنين أرسلت بناتها وكاهناتها «صنوبرات إيدا» إلى كل الأصقاع لتعلّم إنسان الكهف زراعة القمح وصناعة الرغيف وليكفّ عن أن يأكل بعضُه بعضاً، حاملة في إحدى يديها كلماتها إليكم :

«الحمَلُ فداء للبشر،

«رأس الحمَل بدلاً من رأس الإنسان،

«عنق الحمل بدلاً من عنق الإنسان،

«صدر الحمل بدلاً من صدر الإنسان»  (ديلابورت، ميسوبوتاميا، ص197).

وفي اليد الأخرى كلمات «جدّي» التي وجهها إلى شعبه منذ خمسة آلاف عام:

«حطّم سيفك،

«تناول فأسك واتبعني،

«وازرع السلام والمحبة في كبد الأرض». (من وثائق أوغاريت).

منذ أكثر من ألفين وخمسمئة عام نزح جزء من شعبنا إلى شبه جزيرة المورة بفعل الانقلاب الفارسي على حد تعبير بيير روسي, فبرزت هناك فجأة بعضُ تلاوين حضارتنا: الفلسفة, التشريع, الأدب, المسرح, الشعر, الموسيقى, الألعاب ورقصة الدبكة, الزراعة وبناء الدور والقصور, الديموقراطية ومجلس الشعب ومجلس الشورى.. والعلوم. ووقف إنسانُكم, إنسانُ الكهف, مبهوتاً وقد تلقى تلك الصدمة الحضارية وجهاً لوجه لأول مرة. لكن الأشد إبهاتاً ما نسمعه اليوم من مفكريكم الذين تتباهون بهم حين يقولون كلاماً كهذا: «إن الازدهار المفاجيء للثقافة الأثينية في القرن الخامس ق.م كثيراً ما يسمى معجزة آتية من الرب»!. (كيتو, الاغريق, ص 123). و«ليس في تاريخ البشرية ما يثير الدهشة ويصعب تعليله كالظهور المفاجيء للمدينة اليونانية». (برتراند راسل, تاريخ الفلسلفة الغربية, ترجمة زكي نجيب محمود). تؤمنون بالمعجزات حتى لا تقرّوا بالحقيقة؟!.

كان جدي الوحيد في هذا العالم الذي أطلع إلى الساحة كوكبةً من النساء الحاكمات المثقفات في وقت كان ظلام الكهوف هو وحده من يكحل عيون النساء في بقية الأرجاء. ومنذ قرابة ألفي عام أرسلت جدتي إليكم أربعة من تلك الشموس: جوليا دومنا, جوليا ميزا, جوليا سهيمة, وجوليا ماميا. ليتربعن مع أبنائهن على عرش روما, ولتضع لكم أولاهن (جوليا دومنا) أول نظام تشريعي حقوقي في تاريخ الغرب ما زالت دولكم تستمد منه قوانينها إلى اليوم. «لقد حققت جوليا دومنا في بلادها, التي سعت لرفع شأنها عالياً لدى أعدائها, أحلامَ سميراميس وكليوباترا معاً. وفاقت فيما حققته ما حاولت زنوبيا أن تقوم به وما قامت به حتشبسوت. وفاقت شهرتها وجمالها وكمالها ما نُسب إلى نفرتيتي, فكانت كلَّ هؤلاء معاً. ولذلك أصبحت أشهر امرأة في العالم في مختلف عصور التاريخ». (جود فري تورتون, أميرات سوريات حكمن روما).

ومنذ زمن غير بعيد بعثَت إليكم «جدتي» أبناءها لينتشلوكم من قاع الهمجية المتوحشة وأكل لحوم البشر، وليرسموا لكم معالم الدرب التي توصلكم إلى «الإنسان»، وسطعت أنوار اثنين منهم عيسى ومحمد على ساحة العالم كله، ولم تتعلموا شيئاً، بل أكدتم أنكم برابرة ذلــك الزمان، وأن الطبع يغلب التطبع. ومنذ ألف عام فقط وضعت «جدّتي» تحت تصرفكم منجزات أبنائها أصحاب الوهج الذي بفضله بانت لكم أشكال بشرية على وجه هذه الأرض: البتّاني، الكرخي، الإدريسي، المرادي, الزهراوي، ابن الهيثم، ابن حيّان، ابن النفيس، ابن زهر، ابن رشد ، أبناء موسى ، ابن سينا، ابن ماجد، ابن خلدون، ابن جني، ابن الطفيل… وتحشدتم من ألمانيا شمالاً إلى إيطاليا جنوباً إلى بريطانيا غرباً، وسدّدتم شره جوعكم وتعطشكم إلى دماء البشر صوب وطن أولئك العلماء أصحاب الوهج، فكان كل منكم بشدقه المنفغر ولسانه المندلق عبارة عن «كهف» بشكله ومضمونه والرائحة المنبعثة من جوفه. و«أتيتم لقتال «الكفّار» في عقر دارهم، فوجدتم أنفسكم ترتمون عند أقدامهم لتتعلموا منهم». (جورج هرنشو، فصل من كتاب Out Line Of Modern Knoledge). ثم انكفأتم إلى كهوفكم تاركين وطن «جدّتي» مُنهَكاً مُدمَّراً، مما أغرى أشباهَكم من برابرة آسيا بالزحف وقد شدّتهم رائحة الجيف المكدّسة في وطن هؤلاء المعلّمين.

«إنه كان للحضارة الإسلامية تأثير عظيم في العالم وإن هذا التأثير خاص بالعرب وحدهم فلا تشاركهم فيه الشعوب الكثيرة التي اعتنقت دينهم, وإن العرب هذبوا البرابرة الذين قضوا على دولة الرومان بتأثيرهم الخُلُقي. وإن العرب هم الذين فتحوا لأوروبا ما كانت تجهله من عالم المعارف العلمية والأدبية والفلسفية بتأثيرهم الثقافي. فكانوا ممدّنين لنا وأئمةً ستة قرون». (غوستاف لوبون, حضارة العرب, ص579).

ستة قرون. أجل, قضيتموها وأنتم تحملقون في الإنجازات العلمية لأبناء «جدّتي» حتى فهمتم كيف تفهمونها واستوعبتم كيف تستوعبونها، ثم ادّعيتموها لأنفسكم، وبدّلتم بها جلدكم، فبدوتم نظيفي الظاهر جميلي المنظر، لكن هذا لم يُخفِ عنّا كل تلك الأنياب الصفراء التي طالما مزقتم بها جثث بعضكم، والجاهزة دائماً لأن تنشبوها في عنق أي شعب، أية أمة، من أجل أن تنهبوا ثرواتها وتجهزوا على أسباب حياتها ووجودها، فتبرهنون من جديد أنكم برابرة هذا الزمان.

تقولون إنكم أحدثتم «هولوكوست» في اليهود، فكيف كان جزاؤكم لأنفسكم؟ جمعتموهم من كل أصقاع الأرض ومن كل الأجناس والأعراق، أولئك الذين ينتسبون إلى أمهاتهم لأنهم لا يعرفون آباءهم، وكذبتم وقلتم إنهم «ساميّون». حشدتموهم بعد أن دهنتم جلودهم بأحد إفرازاتكم النتنة المسماة «صهيونية» علها تجعلهم يتعرفون على بعضهم، وأطلقتموهم مثل قطيع من الذئاب إلى وطن معلّميكم. وواظبتم على تزويدهم بكل أسباب القتل والتدمير من أجل إبادة الشعب الذي صعد بكم من قاع الهمجية إلى مرتبة البشر فكنتم عنيدين في إصراركم على أن تبرهنوا مرة بعد مرة لنا وللعالم أجمع أنكم برابرة هذا الزمان وكل زمان.

ماذا عسانا نقول لكم؟

لن نقول لكم إلاّ ما قد قيل لهم على لسان نبيهم أشعياء: «لأن أيديكم قد تنجست بالدم وأصابعكم بالإثم. شفاهكم تكلمت بالكذب ولسانكم يلهج بالشر. ليس من يدعو بالعدل وليس من يحاكم بالحق. يتكلون على الباطل ويتكلمون بالكذب. قد حَبِلوا بتعب وولدوا إثماً. فقسوا بيض أفعى، ونسجوا خيوط العنكبوت. الآكل من بيضهم يموت، والتي تُكسر تُخرج أفعى. خيوطهم لا تصير ثوباً ولا يكتسون بأعمالهم. أعمالهم أعمال إثم، وفعل الظلم في أيديهم. أرجلهم إلى الشر تجري وتسرع إلى سفْك الدم الزكي. أفكارهم أفكار إثم. في طرقهم اغتصاب وسحق. طريق السلام لم يعرفوه، وليس في مسالكهم عدل. جعلوا لأنفسهم سبلاً معوجة، كل من يسير فيها لا يعرف سلاماً». (أشعياء 59: 3ـ8).

 

في أمثالنا العربية التي هي أقدم من يوم ميلادكم «قل لي من تعاشر أقل لك من أنت». أنتم لم تعاشروهم فقط، أنتم جعلتم منهم توأم الروح. ولم لا؟ أليسوا هم الوحيدين الذين استعاروا لرب العشيرة «يهوه» ثياب الشيطان؟ ألم يجعل تراثنا منذ الأزل عمود النار أو الدخان رمزاً لـ «سيت» عند قدامى المصريين و«تيفون» عند قدامى السوريين رمزاً لقوى الشر والدمار؟ رمزاً للشيطان نفسه؟

أولم يختر كهنتُهم رباً للعشيرة يمشي أمامها كعمود من دخان في النهار وعمود من نار في الليل؟.

ماذا نقول لكم؟

لن نقول لكم إلاّ بعض ما قاله لهم السيّد المسيح ، فقد برهنتم أنكم وإياهم أبناء لأب واحد : «أيها القادة العميان الذين يُصَفّون عن البعوضة ويبلعون الجمل. ويل لكم … لأنكم تشبهون قبوراً مبيّضة، تظهر من خارج جميلة وهي من داخل مملوءة عظام أموات وكل نجاسة… أيها الحيَّات أولاد الأفاعي، كيف تهربون من دينونة جهنم». (متّى 23: 27ـ28).

التكنولوجيا التي سرقتم منا إنجازاتها الأساس تُفرحكم اليوم. وبتّم تقفزون بها قفزاتكم المدهشة في كل مكان على الأرض، ومن الأرض إلى القمر، ومن الأرض إلى المريخ… ليس مهماً. فهي ما دامت فارغة من القيم التي لم تتعلموا إنتاجها حتى اليوم تبقى ـ مهما بدت بهلوانية ومحيّرة ـ لا تدهشنا، إنها قفزات «البراغيث» التي ليس في بطونها غير دماء البشر. وهي ـ    طال الزمان أوقصر ـ سوف تُفضي أخيراً بـ «البراغيث» إلى جمر «الموقد» الذي وضعته «جدتي» منذ آلاف السنين لتصعّد منه رائحة البخور ويتمجد به ابن الإنسان، أو إلى ذلك «الحوض» من الماء الذي وضعته «جدّتي» منذ آلاف السنين في صدر المعبد لتعلّم الناس الطهارة، ثم تركته وانصرفت إلى «غزْلها» الحضاري .

 

نحن حبات القمح ، نحن الذاكرة

 

«إن العذراء التي تحمل السنابلَ محمولةً هي نفسُها على ظهر أسد سماوي هي التي أقامت العدالة وشادت المدن, والتي على يديها عرفنا السعادة, وبفضل هباتها تعرفنا على الآلهة. إنها أم الآلهة, إنها الفضيلة والسلام. إنها الزرّاعة (زيريس) الربة السورية التي تزن في ميزانها الحياة وقوانينها. لقد أرتنا فيها سوريا نجم السماء الذي يقدّمون له في ليبيا (افريقيا) كلَّ احترام وعن طريقها تلقينا كلَ علم». (جان بابليون, امبراطورات سوريات, من المختارات الشعرية اللاتينية, ص 130-131).

«جدّتي» ذاكرة. بذلتم كل ما استطعتم من أجل طمس هذه الذاكرة. أعدتم كتابة التاريخ وحذفتُم منه أسماءنا نحن الذين منحناكم أسماءكم وعلمناكم كيف تكتبونها لأول مرة، واخترعتم على أنقاضنا شعوباً وأعراقاً وقبائل وكذبتم في كل ما تقوّلتم، وجعلتم حقائق التاريخ تمشي على رؤوسها، وسعدتم كثيراً بفعلتكم تماماً كسعادة ذلك الخنزير البرّي الذي أخذ يعدو في حقل من القمح ويموج دماراً بالسنابل. ذهب الخنزير البرّي وبقي الحقل، وبقيت حبّات القمح حاضنة للذاكرة.

نحن حبّات القمح، نحن الذاكرة….. ولن ننسى..

شارك بتعليقك

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني.