أعجب كثيراً من الجمود الذي تعاني منه الأمة الإسلامية – والعربية على وجه الخصوص – في الشأن السياسي والاجتماعي والعقائدي والفكري والثقافي فنقرأ كتباً لمفكّرين ومصلحين، ونسمع أحياناً كلمات أو محاضرات لقيادات دينية أو سياسية تحلّل حال الأمة مضى على بعضها ربع قرن، أو نصف قرن، بل وقرن من الزمان وكأنها كُتبت بالأمس القريب! ما يعني أننا في تردٍّ دائم وإنْ أسميته تجاوزاً (جموداً). فتعجب وأنت تقرأ كتاب الكواكبي طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد وهو يصف بكل دقة داء الأمة ودوائها قبل مئة عام وكأنها وصفة علاجية لأبناء الأمة اليوم، وتدهش من أطروحات مالك بن نبي في كتبه التي يعالج فيها مشكلات الحضارة ويحثّ الأمة على النهوض، وتستغرب حين تسمع الشهيد مطهّري وهو يصرخ بعلو صوته، أو تقرأ له معاناته لتصحيح العقائد الفاسدة التي نالت من الفكر الإسلامي ومعالجته الدائمة للممارسات الخاطئة وبالأخصّ فيما له علاقة بالنهضة الحسينية (التي هي حدث ذكرى هذه الأيّام)، أضف إلى ذلك النقد اللاذع لاستحمار الشعوب من قبل رجال الدين المتخادنين مع السلطة السياسية المستبدّة في…
توسّلت المرأة الفقيرةُ للنبيّ إليشع (Eli-sha) ومعناه: الله شعّ ليُحيي وحيدَها المسجَّى، (فَدَخَلَ وَأَغْلَقَ الْبَابَ عَلَى نَفْسَيْهِمَا كِلَيْهِمَا وَصَلَّى إِلَى الرَّبِّ) حسبما ورد في سفْر الملوك بالتوراة، فأحياه بإذن الله مجّاناً لخاطر أمّه، فابتهجتْ وخرّت ساجدةً لله. الآن، تصّورْ منظراً آخر، دخلتْ الأمُّ الغرفة ورأتْ (قرداً عليه ثيابُ ابنها) و(إليشع) يُقنعها أنّه ابنها أعاده للحياة لها، ويريد أيضاً أن تدفع له (المقسوم) مُقابل إحيائه! طبعاً الأمّ لن تقنع أنّ هذا (وحيدُها) فبحدائق الحيوان وبقــُرى الهـند الكثيرُ منه، ولن تدفع ولن تسجد وتركع. بل ستلعن وقد تكفر، الوحيد الذي سيقنع ويشكر هو )البقرة) حين يُحيَى لها وليدُها الميّت بعد إفراغ أحشائه وحشوه بالتبن ليُنصب )بوًّا) أمامَها، فتلحسه وتشمّه و(تتأمّله) بإعجاب وتدرّ الحليب بسخاء على المُبارَكِ مُحيي وحيدِها، والطامع أصلاً بحليبها المُبارَك! إليكم مثالاً آخر، نحنُ (الأمّة) إزاءَ مَن يُمارِس لنا إحياء (الحسين)، ابنِ الأمّة البارّ، ووحيدها الذي ضحّى بدمه ودماء نجباء أهلِه (مجّاناً) ليُحييها ويُحيي قيَم عزّها وسموِّها، فيقوم بعضُ (المُبارَكين!) ليُقيم حفلات طقوس سحر الخطابة ومهرجانات الخبْط، ليُحييه لنا، فإذا…
عدنان وقحطان عند النسابين هما أبوا العرب، ومنهما يفرّعون علوًّاً ونزولاً، وليس لك أن تسألهم ما الدليل؟ فالنسابة كالأطباء يجب عليك أن تثق في تشخيصهم لمجرد اختصاصهم، بل قل كالمنجمين، بل هم أكثر حصانة، فالمنجم والطبيب قد يكذبه الواقع والحدث، أم النسابة فهم يتحدثون عمن لا يطال منهم تصديقًا ولا تكذيبًا. هم يقولون قحطان والد يعرب ومنه يشجب ثم سبأ فكهلان وهكذا يمكنك أن تصل إلى نسب جارك الدوسري والكعبي والمرّي فهم من نسل قحطان، ويقولون عدنان والد معدٍ ثم نزار ثم مضر ومنه يمكنك أن تصل إلى جارك الموسوي والعازمي وغيره من أبناء عدنان. هذه تفريعات وتشجيرات لها “حنّة ورنّة” ، في بلدٍ يعتز بتأصيل النسب كالجزيرة العربيّة، وبها تتقابل القبائل، وتُنشأ الأحلاف أحلاف الدم، وتُتَحمل الديات، وتتكافأ الزيجات، وتُحرز مراتب المشيخة، وتُفرز التراتبات الاجتماعية الطبقية، وتُرسم مراسيم اللياقة (الاتكيت)، بدءًا بمن رتبة تقبيل الأيدي، صعوداً إلى تقبيل الأكتاف، فتقبيل الخشوم، ثم خشم بخشم إن كنت من طبقة متكافئة… ولكن لماذا ظل عدنان وقحطان هما أشهر أبوين للعرب؟ لدرجة…
يعتاد البعض من المقتدرين ماديا وممن تتهيأ لهم الظروف بتكرار الحج والعمرة اعتبار تصفير حسابه كلما انتهى حجّه، فيعتقد أو يظن ويرجو أنّ ما يرتكب من الذنوب والعيوب والنقائص ستمتحي هي وكلّ آثارها بالحجّ وإن تكرر طيلة عمره، فيرجع من الحجّ ولا ذنبله كيوم ولدته أمه. وآخرون يتعمدون إشباع رغباتهم والانسياق مع غرائزهم دون حدود، حتى إذا ضعف البدن واحدودب الظهر نوى الحج أملا في غسل الخطايا وإصلاح الدرن. هذا هو السقف الأعلى وحسب عند هؤلاء من أجر الحجّ والعمرة. إنّ الحجّ موسم من مواسم الحصاد المباركة، له سقوف بحسب حالات الأشخاص ودرجات وعيهم، وبحسب الإرادة والهمّة والعزيمة في تزكية أعمالهم، إن كانوا متقربين بها إلى الله ومستعينين به؛ فإنّ الثمر يانع والحصاد وفير. وقد حدّد القرآن ثلاث دواع قادرة على دفع الحاجّ في جميع مناسك الحج وأعماله من أجل الانتصار على مثلث الطغيان، المضاد للوعي الإنساني، إذ قال تعالى: (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) (البقرة /197)، وأول أضلاع المثلث هو الانسياق وراء النزعة الجنسية الضاغطة على…
مرت علينا قبل فترة فتنتان طائفيتان، أحداهما مسيحية، هدّد فيها القس تيري جونز، بحرق نسخ من القرآن، وقد أريد لهذه الحماقة أن تأكل ما تبقى من علاقات بين المسلمين والمسيحيين، فيحترق بها كل أخضر ويابس، ولكن الله تعالى سَلّم، فبادر أهل العقل والشيم الإنسانية من المسيحيين وأخمدوا نارها. وثانيتهما تلك التي فجّرها من أساء لمقام أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها، وإذا كانت سلسلة الفتن، وهي غير قليلة، وكلها جهل في جهل، قد مزّقتنا كل هذا التمزق، فإننا لا ندري مآل أمرنا وأي تدهور سنصير إليه لو تُركتْ هذه الفتنة تمضي نحوَ هدفها، وتسير في الطريق الشيطاني المرسوم لها، لكن الله تعالى تفضل علينا وسلّمنا من السقوط في ذلك الوادي السحيق. إذن فالله تعالى سلمنا من مواجهة نتنة، بين المسلمين والمسيحيين، وبين المسلمين مع بعضهم بعضاً، وقد تحقق ذلك بطريقة جديرة بالتأمل والدراسة والاقتداء. في الغالب حينما ينبري جاهل ويرتكب حماقة طائفية، على طريقة تيري جونز وياسر الحبيب، وينتج عن ذلك ردة فعلٍ لدى الطرف الآخر، ينبرى من الطائفة…
للأمم أعياد تمجّدها وتفرح فيها وتمارس فيها ما يعبّر عن ابتهاجها بها، وأصل فكرة وجود عيد أو أعياد في الحياة حاجة ملحّة للأمم، لسبب حاجة الإنسان للترويح عن نفسه، وحاجته الماسّة إلى تجديد قواه وتنشيط جانبه النفسي، والتخلّص من أثقالٍ وأخطاء وأتعابٍ تراكمت على بعضها، بالإضافة إلى ذلك، فإنّ الإنسان مخلوق مختار مجتهد، والعيد فرصة للتعبير عن السرور بالنجاح والفوز بعد شوط من العمل والاجتهاد، وإلا كان العيد وقتاً يراجع فيه الإنسان خياراته واجتهاده وعمله، فيوم العيد جامع، فهو يوم للسرور، ويوم للراحة، ويوم للأنس بالأهل والإخوان والأصدقاء، ويوم للمراجعة، ويوم للاستجمام النفسي والبدني، وربما سمي يوم الجمعة بهذا الاسم لأنّه بالفعل جامع لعدّة أهداف، وهو العيد الأسبوعي الذي عرفه الإنسان منذ دهره الأول. وهذا التاريخ الطويل العريض الذي عشناه نحن بني آدم، والذي ما نزال نواصل تسجيله على صفحات هذا الوجود قد اشتمل على العديد من الأعياد، وهي متلونة بألوان شتى، فمنها ما يتصل بالاستقلال الذي تحقّقه الشعوب والأمم بانتصارهم على أعدائهم المحتلين الغاصبين لأراضيهم، ومنها ما يتصل بانتصارات…
هل يمكن إضعاف اندفاع متطرفينا المذهبيين وغيرهم نحو التدمير؟ لا يخفى أنّ الحاجة ماسّة وملحّة لئلا يقضوا على السلم الأهلي ، فمجمعاتنا مهددة بالعنف ، ففي كلّ يوم يفجّر مسجد أو كنيسة أو عزاء أو سوق أو حيّ أو ضريح أو حضرة أو حلقة، توتّرات بلغت حدّها في انتهاك الحرمات، واقتحام البيوت وتهجير السكان، مروراً بانتهاك الفكر والعقيدة والشخصية بالتكفير والتفسيق والتضليل والسباب. والخسران المبين يتجلّى في أنّ نتائجها المدمّرة عدميّة عبثيّة لا طائل من ورائها، ولا تحقّق شيئاً حتى من أهدافها السوداوية، فما هي إلا نارٌ تأكل بعضها، وهم ناسها بكل طوائفهم ومذاهبهم، ثمّ تستقرّ على لا شيء سوى الخراب ومزيد من الحقد، فالوضع الديني والمذهبي لكلّ طائفة منهم لن يتغير، فهي مواجهات عبثية تسبّب تدميرًا فقط دون أن يتغيّر من واقع الناس العقائدي شيئاً، فالكل سيبقى كما كان وأشدّ، فقط مزيد من التدمير للمجتمع. ولأنّ الدافع من وراء هذا العنف هو الكراهية بالدرجة الأولى، الكراهية التي تراكمت عبر السنين في سلسلة من سوء العلاقات وسوء احترام الذات قبل…
عندما تتحول العبادات في حياتنا بحكم التكرار إلى عادة، تتعطل وظيفتها، وتفقد مضمونها، ويتلاشى أثرُها في صناعة الإنسان المسلم صناعةً ربانية، وتضيع الأهداف التي من أجله شُرّعت، فلا تعود الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولا الصدقة تطهيراً للمال وتزكيةً للنفس، ولا الصيام سبيلاً لتقوية الإرادة، ولا الحج صياغةً لولادةٍ جديدة، بل تصبح تلك الشعائر طقوساً فارغةً من الجوهر والمضمون. ولاستعادة جوهر تلك العبادات وتفعيل أثرها في حياتنا، لا بدَّ لنا من وقفة تفكّرٍ لاستجلاء معانيها، ومن ثّم تمثّل تلك المعاني في حياتنا العملية. ونحن نستقبل الشهر الكريم، فإنّا أحوج ما نكون إلى استيعاب معاني الصيام حتى لا نكون ممن يدخل الشهر بالجوع والعطش ولا يخرج منه بغير ذلك. الصيام لغةًيعني الامتناع عن الفعل، ومثاله الصوم عن الكلام كما قال تعالى في حكاية مريم(ع): (فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً)(مريم:26). والصيام شرعاًهو الامتناع عن ممارسة بعض الأعمال المباحة في أصلها، والأكثر تعبيراً عن حاجات الجسد، كالأكل والشرب والمعاشرة الزوجية،…
أجمع المسلمون على حديث أنّ المهدي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً، ويكفينا هذا الإجماع مؤونة البحث عمّا يُسمى سند الحديث ورجاله، خاصة وأنّ الأساس في صحّة الحديث هو المضمون الذي إذا عُرض على القرآن كان مقبولاً، أضف إلى ذلك أنّ نشر العدل هو المحصلة النهائية التي تراكمت من أجلها جهود الأنبياء والمصلحين، ولأنّ قيادة الصالحين للمجتمع البشري هو وعد إلهي فالعاقبة للمتقين بحسب القرآن، كما أنّ ذلك هو النتيجة الحتمية لمسار سنن الحياة والكون، فكلّ شيء في هذا الوجود لا بدّ وأن ينتهي إلى منتهاه الذي رُسِم له، وأنّ الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدراً، فلا بد أنّ تنتهي السنن التي تحكم حياة البشرية إلى نهاية جميلة تنهي هذا الصراع المرير والمؤلم الذي تكبّده الإنسان على كلّ صعيد. وسنن الحياة قائمةً على أساس الجهد البشري، فهي تترك الصراع مفتوحاً لينتهي إلى نتيجته الفضلى، فكلّ الطرق ستوصل إلى هذه النتيجة، وأهل هذا الزمان هم المعنيون بالانتظار الذي تحدّثت عنه الأحاديث أكثر من غيرهم، لأنّهم على…
ليس ثمّة أسوأ من (اليأس) داءً على النفس البشرية حيث يجعل نظرة المرء سوداوية لا ترى إلاّ الظلام ولا تأمل في خير فتترهّل الإرادة ويدمن المرء على لعن الظلام وإلقاء اللوم على كل ما حوله – إلاّ نفسه – فلا يسعى لإصلاح ولا تغيير بحجة أن لا جدوى من عمل أيّ شيء لتحسين الواقع السيئ، وكلّما فُتح باب من الأمل فلن يعدم الوسيلة ليوصده بالاستشهاد بتجربّة مرّة من التاريخ أو بأمثلة من أرشيف ذاكرته التي لا تحفظ إلاّ الفشل والخيبة لتركن إلى الكسل والتكاسل وتجد في الشكوى والتذمّر وسيلة سهلة للهروب من الاستجابة لنداء الواجب ومن تأنيب الضمير. ابتُليت الأمة بداء (اليأس) منذ أمد بعيد انسحب على كافّة مجالات الحياة حتى كاد أن يصبح هو الأصل وما سواه الاستثناء، وسرى هذا الداء من الآباء إلى الأبناء لأجيال عدّة فلا تكاد تسمع نبرة أمل في أقوالهم ولا ترى حماس الشباب في أفعالهم مع أنهم لم يعاصروا زمن النكسات والانهزامات بل شهدوا انتصارات أشبه بالمعاجز، وعايشوا حراكاً اجتماعيّاً دوليّاً وإقليميّاً مؤثّراً وفاعلاً…