“وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً” [مريم : 31] جاءت هذه المقولة على لسان روح الله عيسى عليه السلام وهو في المهد أي في بداية مسيرة حياته، وهي في الواقع ليست مجرد تبيان لحقيقةٍ مرتبطة بالنبي عيسى عليه السلام؛ إنما هي شعار رائع ومبدأ عظيم لتمثلِهِ والعمل بموجباته (اجعلني مباركاً أينما كنت)! والبركة هي الخير الوفير والنماء.. والإنسان المبارك هو الذي يلقي البركة وينشر الخير وفيرا متصلا متتالياً أينما حل وحيثما كان.. وقد كانت بركة عيسى ومحمد وجميع الرسل صلوات الله وسلامه عليهم متنزلة على أقوامهم ومتنامية دون أن يكون خيرهم منتهياً أو منقطعا برحيلهم عن عالمنا.. إنما ممتد باقٍ إلى يومنا هذا! فهل كانت بركتهم منحة إلهية دون أن يصاحبها إرادة ذاتية والتزام أخلاقي عميق؟ بالتأكيد فإنّ هؤلاء الصفوة ترجموا المنحة إلى عهد وميثاق، وإلى برنامج عمل طموح، ثم سلّطوا عليه ما يملكون من دوافع وموانع، فانتظموا في تنفيذه، فأدركوا أن البركة باب عروج يدرك أوله ولا يعرف آخره .. أما نحن، فلقد أعطينا…
“إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1) … مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (29)” أدار النبي(ص) بحكمته معضلة فتح مكة، لئلا تبقى معقلاً لعداوة النبي وحربه، وليعود البيت الحرام مثابة للناس وأمناً، ولتُزال مظاهر الشرك في تلك البقعة المباركة.. صلح الحديبية كان مقدمةً لفتحها، وفي أجواء صلح الحديبية نزلت سورة الفتح المباركة. اعتبر الوحي صلح الحديبية “فتحاً مبيناً”، ليس فقط لأنّه المدخل لـ”فتح مكّة” الذي كان حاصلاً لا محالة عن قريب، وكل المؤشرات تنطق بذلك، فقريش قد أنهكتها الحرب، وإنّما أيضاً لأنّه “حيّد قريشا” رأس الشر، فأتاح للمسلمين التفرّغ لمهام معطّلة، ففتحوا خيبرا، وقضوا عمّا تبقّى من جيوب الغدر اليهودي المتربّص بالمسلمين، وأرسل النبي يدعو القبائل للإسلام، فتوسّعت رقعة الكيان الإسلامي، وبدأ…
قوله تعالى: “إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ …. التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون … ” (التوبة111-112) “عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً ” (التحريم-5) يقال “ساح الماء” أي تحرّك بانسيابية ومرونة من مكانه باحثاً عن مستقر له، لهذا المعنى صورة معنوية، فيقال ساح الناس، أي تحرّكوا وانتقلوا، ومن لازم “السياحة” فهو سائح، فالسياحة هي المرونة في التحرّك والانتقال، ليس مكانياً فقط بل أيضاً فكرياً بانسيابية وإيجابية، مكانياً بهجرة مكانه إلى مكان آخر ونزع العلائق والارتباطات السابقة ثم التكيّف مع الوضع الجديد، وفكرياً بالإقبال والانفتاح على المفاهيم الجديدة وتبنّي الأفكار أو تعديلها، ولفظ “ساح” مثل “سار” كلاهما يعني التحرك والانتقال. إذن “السائحون” هم الذين يتحلّون بقابلية التحرّك والانتقال بحثاً عن الاستقرار النفسي والروحي، من خلال التكيّف مع الأوضاع الجديدة ومسايرتها وإعادة التموضع، استعداداً لأداء أدوار أو وظائف جديدة، من هنا قيل أنّ السائحين هم المهاجرون، وقيل هم الصائمون، وقيل هم طلبة العلم، وقيل هم المجاهدون، جميعها مصاديق صحيحة لمن…
في قصة موسى والخضر(ع)، عندما شرع الخضر في ذكْرِ تأويل ما قام به في رحلته مع النبي(ع)، نلاحظ استخدامه لثلاثة ضمائر مختلفة لبيان علّة أفعاله الثلاثة، فعندما ذكر سبب خرقه للسفينة قال “فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا” مستخدماً ضمير المتكلّم المفرد، وفي قصة قتله للغلام قال: “فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا”مستخدماً ناء الفاعلين، وعندما بيّن علّة بنائه الجدار قال “فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا”، مستخدماً ضمير الغائب العائد على “ربّه”. فما مقصود هذا التنويع؟ الجواب بفهم صيغة الأفعال نفسها، فالخضر(ع) وهو الذي أُوتي الرحمة، وعُلّم من لدنهم علما، لابدّ وأن يكون على درجة من الوعي والبصيرة تمكّنه من الاجتهاد في أحيان كثيرة، ولكنّه محتاج للتسديد في الأمور المعقّدة أو الغيبية، تماماً كما نبينا الأعظم(ص) في قراراته، يجمع بين نوافذ العقل ونوافث الوحي، فأحياناً يحكم بإجتهاده وتدبّرِه، وِفقَ الأسباب والمعطيات المتوفّرة لديه، وأحياناً أخرى يأتيه التسديد من الوحي. عوداً على القصة، ففي خرق السفينة بيّن الخضر (ع) أنّه فعل ذلك بإرداته فقط، بقوله “فأردتُّ”، لأنّ علّة خرق السفينة ظاهرة، فالمَلِكُ الذي يأخذ…
(قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمْ الظَّالِمُونَ (64))- الأنبياء. فكرتان في قصة إبراهيم(ع) مع قومه: الأولى: مواجهة المعتقدات ومناقشتها بالمنطق العقلي، وهو الأسلوب الذي حاول سيدنا إبراهيم (ع) فعله. ولم تذكر لنا الآيات مدى تجاوب الناس إيجابياً مع هذه الفكرة التي طرحها إبراهيم(ع)، مع وجود إشارات إلى رجوعهم إلى أنفسهم وإقرارهم بأنّ تلك الأصنام لا تملك مواصفات الإله الجدير بالعبادة، وأنّه من الظلم تأليههم والركون إليهم. ومن المؤكد أن البعض قد اتخذوا خطوة وراء هذه الرجوع، وقد يكون منهم من اتّبعه بعدها لا نعلم، لكن الدرس أنه بإمكاننا أن نعود إلى أنفسنا ونبحث عن أي أفكار ومعتقدات رسخت في أذهاننا وأصبحت من المسلّمات، ونضعها تحت مجهر العقل والمنطق، ثم نرضى بحكمه ونمتلك الشجاعة الكافية لما يتخذه من قرار الذي في الأغلب سيكون قراراً صائباً. وبذلك يمكننا التعرّف على أصل المشكلات، وتتبّع أسبابها، ثم مناقشة كثير من العقبات، والبدء الحقيقي في حلّها وتجاوزها….
ارتبطت مسألة البحث والمناهج العلمية بالجامعات ومؤسسات البحث العلمي، وكأن من لم يدرس في الجامعة ومن لا ينتمي لهذه المؤسسات البحثية بعيد عن استخدام آلية البحث، إلا أن تحديد المفهوم العلمي للبحث ومناهجه تفرز لنا أن الإنسان في مشوار حياته قد يكون باحثاً وقد لا يكون، أكان بدوياً أم حضرياً، من بيئة متعلمة وفي مناخ علمي راقي أم من بيئة أميّة هابطة، لأن البحث أساسه قدرة الإنسان على توظيف قدراته العقلية بحيث يعدّ منطقياً في تصور المشاكل والأزمات وملاحقة الظواهر وجمع المعطيات والقدرة على الموازنة والاستنتاج، ولم يخل أي مجتمع بشري من أفراد قلّوا أم كثروا أقرّت لهم مجتمعاتهم بالعقلنة والفطنة والكياسة والحكمة في تقييم الأمور ومواجهة الصعاب بكفاءة واقتدار، ومن الناس عكس ذلك، فمنذ أن منح الله العقل للإنسان هيأه للتفكير العلمي والبحث المنهجي، ولكن لا يمكن إنكار دور المجتمعات العلمية المتحضرة في إذكاء مهارة مناهج البحث إلى جانب دور المؤسسات البحثية، ومع هذا يظل الإنسان هو صاحب القرار بين أن يبقى تفكيره ومنهجه عاميّاً أو علمياً، فالعامي هو…
القرآن قد بيَّن أنّ الملأ الأعلى اختصموا، وأن اختيار الخليفة الإنسانيّ من أولئك البشر الهمج السابقين الذين تطوّروا سلالياً عبر عشرات الآلاف من السنين، ولمْ يُثبت القرآن أيّ اختصام واحتجاجٍ لهم حين خلق البشر الذي ظلّ ردحاً يسكن الكهوف ويسفك دماء بعضه ويُفسد لا واعياً.
لماذا صار علينا أن نصدق ما ينسب إلينا من أمور مكذوبة ونسلّم بها وكأنّها جزء من واقعنا وعقيدتنا، نفعل ذلك رغم الآثار الخطيرة التي يخلّفها التصديق بمثل هذه الأمور والتي تصل إلى حدّ تصدّع كياننا واهترائه. من هذه الأمور تأتي مسألة الجن في قائمتها، الجن ذلك العالم المجهول الذي مازال الكثير يتخبط في فهمه ومعرفته وتحديد العلاقة معه.
نحن لم يتطوّر عقلُنا ليُؤمن بجدّية نقصه، ونقص مبانيه ومبتنياته، لم يُؤمن بحاجته إلى تشغيل إمكانيّاته ووظائفه عدا التعبئة والاجترار للقديم، لم نتطوّر بعدُ لضرورة الاطّلاع حتّى على (غيب) ثقافات بني جنسنا من المذاهب والديانات والشعوب، فكيف نؤمن بوجود عوالم (غيب) نستطيع أن نتعرّف عليها أو نستزيد منها أو نتعلّم ربّما أخطاءنا؟!
الباحث الموضوعي هو من يضع الحقيقة نصب عينيه ويسعى جاهداً للبحث عنها، فإذا ما توفق للعثور عليها كان عليه إعلانها، اتفقت مع ميوله أم لم تتفق، يصب البحث في مصلحة مذهبه، عشيرته، حزبه أم لا يصب.