إنّ الجنين المشوه مأساة إنسانية عميقة قبل ولادته وبعدها، فهو يُحيل الفرحة بخروجه إلى الدنيا إلى مسيرة عناء طويلة وشاقة للوالدين، وهو نفسه لا يسلم من الشقاء بل وربّما الضلالة في حياته المحفوفة بالنغص والآلام حالما يستشعر النقص وينفرّد بالعجز بين من حوله، حتّى أفرزتْ هذه الإشكالية مناشدات إنسانية بإجهاضه مسبقاً رحمةً به وبأسرته.
يعتاد البعض من المقتدرين ماديا وممن تتهيأ لهم الظروف بتكرار الحج والعمرة اعتبار تصفير حسابه كلما انتهى حجّه، فيعتقد أو يظن ويرجو أنّ ما يرتكب من الذنوب والعيوب والنقائص ستمتحي هي وكلّ آثارها بالحجّ وإن تكرر طيلة عمره، فيرجع من الحجّ ولا ذنبله كيوم ولدته أمه. وآخرون يتعمدون إشباع رغباتهم والانسياق مع غرائزهم دون حدود، حتى إذا ضعف البدن واحدودب الظهر نوى الحج أملا في غسل الخطايا وإصلاح الدرن. هذا هو السقف الأعلى وحسب عند هؤلاء من أجر الحجّ والعمرة. إنّ الحجّ موسم من مواسم الحصاد المباركة، له سقوف بحسب حالات الأشخاص ودرجات وعيهم، وبحسب الإرادة والهمّة والعزيمة في تزكية أعمالهم، إن كانوا متقربين بها إلى الله ومستعينين به؛ فإنّ الثمر يانع والحصاد وفير. وقد حدّد القرآن ثلاث دواع قادرة على دفع الحاجّ في جميع مناسك الحج وأعماله من أجل الانتصار على مثلث الطغيان، المضاد للوعي الإنساني، إذ قال تعالى: (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) (البقرة /197)، وأول أضلاع المثلث هو الانسياق وراء النزعة الجنسية الضاغطة على…
من وحي هذه الآية: قال تعالى(فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ، إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ) تنتمي هذه الآية الكريمة إلى مجموعة من الآيات تتحدث عن وفدٍ ملائكي يزور الأرض وبيت النبي إبراهيم الخليل تحديداً، يحمل الوفد الملائكي بشرى بإسحاق ولداً ويعقوب حفيداً للخليل عليه السلام، لكن يوازي هذه البشرى خبر آخر أُذن لأولئك الملائكة بإطلاع الخليل إبراهيم عليه، ذاك هو خبر إهلاك قوم لوط، وإذ ْ ذاك يعترض الخليل عليه السلام ويجادل الملائكة في قوم لوط، فما الذي نستوحيه من الآيات ومن موقف النبي إبراهيم عليه السلام. في المتابعة الحرفية للآيات الكريمة معانٍ سامية تبدأ باللقاء الفريد النوعي حيث يلتقي ملائكة بإنسان ودلالة ذلك على قيمة الإنسان سماوياً متى ما استقام، لكن الذي سنقتصر عليه هنا هو الموقف الذي تبنّاه النبي إبراهيم ع حيث جادل الملائكة في قوم لوط، وقد نتأمّل موقفه عليه السلام من زاوية إعلانه عن قناعته وإصراره على ذلك قبال ملائكة مرسلين من الله تعالى. أما نحن أقصد أجيال المسلمين المتعاقبة…
التعميم هو أن نوسّع دائرة الموضوع فنزيد عدد أفراده إمّا لسبب غياب معرفتنا بالعدد الحقيقي أو لأسباب أخرى، فإذا كان بعض الإداريين سيئين نقول بأن كل الإداريين سيئون فهذا هو التعميم حيث عمّمنا الحكم ليشمل جميع الإداريين بدلاً من بعضهم. ويتحدّث المعنيون بعملية التفكير البشري فيقولون إنّ التعميم في غير موضعه عيب من عيوب التفكير وآفة من آفاته، وأيّ عملية تفكير تصاب بهذه الآفة فنتيجتها محسومة لصالح مربع الخطأ. وفي اللغات التي يستخدمها الإنسان مفردات يستخدمها إذا أراد الدلالة على البعض وأخرى يستخدمها إذا أراد الدلالة على الجميع، والمفردات التي تدلّ على البعض منها ما يدلّ على البعض القليل ومنها ما يدلّ على البعض الكثير وفي القرآن (وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ)، وقوله تعالى: (وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) وفيه أيضاً (إِن كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ)، فهذه القائمة تضم مفردات مثل بعض وقليل وقليل جداً وكثير وأكثر وجميع وكل ومنكم وغير ذلك. وهذه المفردات موازين لغوية ووحدات قياسية، كأيّ وحدات…
ثمّة تناقض واضح بينما هو سائد في أنماط التربية التي نتبعها في المجتمعات العربية والإسلامية، ففي الوقت الذي تشدّد فيه الموروثات الدينية على فرادة العقل وأهميّة التفكير “ما خلقت خلقاً أحسن منك، بك أثيب وبك أعاقب” نجد الكثير من الممارسات القمعية المناقضة لهذه التعاليم، سواءً تنزّلت قرآنا يتلى كما في قوله “أفلا يتدبرون” و”أفلا يعقلون” أو مأثوراً من الحديث عن النبي “ص” نعجز عن إحصائها عدداً فضلاً عن ذكرها هنا. إنّ من جملة ما قلنا به في حقائق مشروع السراة، حين عَمِلنا بدعوة القرآن ودعوة رسول الله محمد بن عبدالله “ص” في وجوب إعمال العقل ورفض موقع الإمّعات، وبعد أن حرّرنا عقولنا من فهم الرجال -مع إجلالنا وتقديرنا لكلّ من بذل جهداً فكريّاً لفهم آيات الكتاب المبين المعاصرين منهم والسابقين- انطلقنا إلى حيث المصدر الصافي”القرآن الكريم” حيث المعرفة والعلم، فوجدنا أنّ هناك حقيقة مغيّبة حول الخلق ذكرها القرآن، تضافرت على تفصيل مضمونها مرويّات التراث، فقد رأينا القرآن يقول “أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ…
ديمقراطيات من القرآن -1 يمكن رد الشورى إلى أصلين لغويين كل منهما يضيف معنى عمليا لها،فأصل لفظ الشورى الأول من الشّوار، وهو ما يظهر من العورة. ومنها قيل شوَّرت به، أي أظهرتُ معايبه، ويقال شِرتُ الدابة : أظهرت ما بها من قدرة على العدو. كأنما اختبر عيوبها أهي عاجزة أم قادرة ؟ وأصلها الثاني من مشار العسل أي خلية النحل يشتار منها العسل ، ومنها أخذ التشاور والمشاورة استخراج الرأي بمراجعة البعض إلى بعض، فكأنما المستشير يجتني عسل الآخرين ومصفى رأيهم، ولا عجب فاللغة العربية إنما نشأت في الجنة بمعناها الطبيعي. والشورى؛ الأمر الذي يتشاور فيه ومن هنا نفهم أن قاعدة التشاور قائمة على مراجعة البعض إلى البعض لاستخراج معايب الاراء بغرض الوصول إلى أفضلها وأقلّها عيباً . الشورى في القرآن وردت في آيتين الأولى “فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر . فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين” 159/3 ، والثانية “والذين…
“يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً” .. من يحضر مجالس قراءة القرآن الرمضانية، ويشهد الأعداد الغفيرة من المسلمين المقيمين لصلوات التراويح في ليالي شهر رمضان المبارك، ويتابع أخبار المسابقات القرآنية، وتخريج مئات من حفظة القرآن الكريم من جميع الجنسيات والأعمار والطوائف سنوياً، ويعلم عن العادات الدينية الراسخة في المواظبة والإكثار من قراءة القرآن وإنهاء (ختمة) للقرآن أو أكثر في الشهر الكريم، قد لا يجد الاستشهاد بالآية الكريمة السابقة مناسباً الآن، فالأمة الإسلامية التي قد تجاوزت المليار مسلماً لم تتخذ هذا القرآن مهجوراً، فهو موجود في كل بيت، ويُتلى من قبل أفراده، وتُطبع عشرات آلاف النسخ منه سنوياً وتوزّع مجّاناً بترجمات مختلفة على الدول الإسلامية دانيها وقاصيها .. فالحمد لله أن القرآن “لم يُهجر”، كما يعتقد البعض. كلّ تلك الجهود مأجورة لحسن نوايا أصحابها واستفراغ الجهد الذي تراه لائقاً بقدسية القرآن والتعامل مع كتاب الله، وهو مقبول من عامة الناس البسطاء ولن يُعدموا الفائدة من قراءته أو الإنصات إليه إذا كان هذا منتهى طاقتهم، وأقصى ما توفّر لهم من…
قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ..) يقول الإمام أحمد بن حنبل: “كنت أسير في طريقي، فإذا بقاطع طريق يسرق الناس، وبعدها بأيام رأيت نفس الشخص يصلّي في المسجد، فذهبت إليه وقلت: هذه المعاملة لا تليق بالمولى تبارك وتعالى، ولن يقبل الله منك هذه الصلاة وتلك أعمالك، فقال السارق: يا إمام، بيني وبين الله أبواب كثيرة مغلقة، فأحببت أن أترك باباً واحداً مفتوحاً … وبعدها بأشهر قليلة ذهبت لأداء فريضة الحج، وفي أثناء طوافي رأيت رجلاً متعلّقاً بأستار الكعبة يتوب من معاصيه ويعد الله بعدم العودة إليها، فتأملت هذا الأوّاه المنيب الذي يناجي ربّه، فوجدتُه لصّ الأمس، فقلت في نفسي: ترك باباً مفتوحاً ففتح الله له كلّ الأبواب”. عندما نحاول أن نصوّر “الله” للآخرين بحسب اعتقاداتنا المغلوطة، وثقافتنا الضيّقة، وتجاربنا القاصرة، فإننا بذلك نرسم صورة مشوّهة عن “الله” لدى الخلق بعد تحجيمه – سبحانه – بمستوى عقولنا البشرية، وحساباتنا المادّية، ومعاييرنا الظاهر-دينيّة، فنَتوه ونُتوّه، ونُسيء إلى جمال عزّته، ونوصد أبواب رحمته، في حين أنه يتعامل مع عياله بما…
لتنامي ظاهرة “النقاب” بمصر، أصدرت الأوقاف المصرية كتاباً بعنوان “النقاب عادة وليس عبادة”، لكنْ ثمّة دُوَل يُفرض فيها ليس “الحجاب” فحسب (كغطاء للشعر)، ولا النقاب (كغطاء للوجه)، بل أشبه بخيمةٍ تُسربل كامل جسم المرأة وتمشي بها! ثمّة فتاوى شاذّة تُوجب استعمال عينٍ واحدة فقط وستر الأخرى درءًا للفتن! وجماعات -كما بالصومال- يرشق بعضهم الفتيات غير “المنقبات” بالمواد الكيميائية، أوضاع لخّصتها منظمة العفو الدولية بتعرّض قرابة مليار امرأة في العالم للاضّطهاد وللعنف، من متحرّرين ودينيّين. حديثنا اليوم ليس عن “النقاب”، بل عن إشكالية مزمنة بمسألة “الحجاب”، والأصحّ تسميته “الخمار”، حسب الدلالة القرآنية، أمّا “الحجاب” قرآنيّاً فلم يكن إلاّ “ستراً” على باب بيوت (غُرَف) زوجات النبيّ(ص)، لفرض الاحتشام على زوّارهنّ بعدم التعامل المبتذل المكشوف، ولئلاّ يشفّ عمّا بداخل البيت مباشرة. لا نُجادل هنا في طبيعة الحجاب، وشرعيّته، وشكله وحدّه، وفرض الدّين والأسَر المحافظة له، بل كمسألة حقوقية تتبع الحقوق الشخصية من جهة، والحريّات الدينية من جهة، حين اشتباكها مع الأنظمة الدولية والقوانين المجتمعية. تركيا (وفرنسا) تفرض “منع الحجاب” على مواطنيها ومغتربيها في…
قبل أكثر من مائة وعشرين عاما (1892) طُبع كتيب صغير عنوانه “علامات قيام الساعة الصغرى والكبرى”، تأليف يوسف إسماعيل النبهاني وأعيد طبعه عام 1987 وضع في آخره فهرس بعناوين كتب أصدرها المؤلف، كان أحدها “القصيدة الرائية الصغرى في ذم البدعة وأهلها ومدح السنة الغرّا”، هذه القصيدة خصت بالذم من مبتدعة العصر جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده المصري، ورشيد رضا صاحب جريدة المنار، وكان هؤلاء وقتها مازالوا على قيد الحياة، واليوم بعد مرور أكثر من قرن من الزمان أصبح هؤلاء (المبتدعون!) من أعلام النهضة الإسلامية، ويُصنّفون مع المصلحين الكبار، وتعاد طباعة كتبهم ليُنهل من أفكارهم، وذهبت التهم الموجهة إليهم مع أصحابها أدراج الرياح، وبقى ذكرهم وأثرهم الطيب إلى يومنا هذا، “فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ”. يقول أحمد يوسف صاحب كتاب الميراث العظيم في مقدمة كتابه الذي يحاول فيه إبراز أولوية العرب في الحضارات الإنسانية العالمية “ولعلّ أغرب ما في الأمر هو أن الصدّ الذي يمكن أن يلاقيه مثل هذا الكتاب سوف يبرز في الأوساط الفاعلة…