الحلقة الثانية: الحروب الطائفية خروج على قيم الدين ونزوع للتوحش

1النزوع للتوحش

هناك ظاهرة مشتركة بين جميع الحروب الأهلية عبر التاريخ، ألا وهي نزوع الإنسان فيها نحو التوحش، مهما كانت عقيدته ومبدؤه، حتى يتساوى فيها المتمدن وغيره، فلو استعرضنا مشاهد من حروب أهليّة من عصور شتى، وبين أقوام مختلفين، لوجدناها شاهدة على ذلك.

مشاهد:

  1. حرب داحس والغبراء بين عبس وذبيان( العصر الجاهلي):

تمكن حذيفة بن بدر من خداع مالك بن سبيع، بعد ما أظهر من الجزع على وفاة أبيه سبيع ما أظهر، فأسلمه مالك غلمان عبس الذين جعلوا رهائن عند أبيه إلى أن تدفع عبس دياتها لذبيان، وكان أبوه قد أوصاه أن لا يدفعهم لخاله مهما قال له، ولكنه لم يكن بحنكة أبيه فدفعهم له، فأخذ حذيفة الغلمان وحبسهم عنده، ثم نادى بذوي القتلى من قومه فأجابوه، فكان يُخرج لهم في كلّ مرة غلاماً حدثاً من صبية عبس، فيجعله غرضاً لسهامهم قائلاً للصبي: ناد أباك، فإذا ما نادى أباه مستغيثاً مزقوه بالسهام، وهكذا غلام على أثر غلام حتى أفناهم جميعاً، فلما سمعت عبس بما جرى لأبنائها، أخذوا ما كانوا جمعوا من الديات (إبل)، فحملوا عليه الرجال، واشتروا السلاح.

ولقد أنشدهم زهير بن أبي سلمى يوم الصلح في معلقته الخالدة خلاصة تجربتهم في حربهم الأهلية تلك فقال:

وَمَا  الـحَرْبُ إِلاَّ مَـا عَلِمْتمْ وَذُقْتُمُ

وَمَا  هُـوَ  عَنْهَا  بِـالحَدِيثِ   المُرَجَّمِ

مَتَـى تَـبْعَثُوهَا تَـبْعَثُوهَا  ذَمِـيمَةً 

وَتَضْـرَ  إِذَا  ضَـرَّيْتُمُوهَا   فَـتَضْرَمِ

فَـتَعْرُككُمُ  عَرْكَ الـرَّحَى بِـثِفَالِهَا 

وَتَلْـقَحْ  كِشَافَاً  ثُمَّ  تُنْـتَجْ  فَـتُتْئِمِ

فَتُنْـتِجْ  لَكُمْ غِلْمَانَ أَشْـأَمَ كُـلُّهُمْ 

كَأَحْمَرِ عَـادٍ  ثُمَّ  تُـرْضِعْ  فَـتَفْطِمِ

  1. حرب البسوس بين قبائل بني قيس بن وائل ( العصر الجاهلي) :

يظهر أمامنا المهَلهِل (الزير) عائدا من آخر معاركه، والتي هُزم فيها بعد أن أسره الحارث بن عبّاد فاحتال عليه ليطلقه، فأطلقه مقابل أن يدله على سيد يكافئ مكانة ابنه جبيرا، فدله على صديقه الوفي امروء القيس بن أبان، فلما لاح هرعت نحوه النسوة والولدان يستخبرونه، تسأل هذه عن زوجها وابنها وأخيها، والغلام عن أبيه وأخيه، فقال وقد لخص لنا ثمرات حربه الأهلية ” … قد فني الحيان، وثكلت الأمهات، ويتم الأولاد، ورب نائحة لا تزال تصرخ في النواحي، ودموع لا ترقأ، وأجساد لا تدفن، وسيوف مشهورة ورماح مشرعة،وأخاف أن أحملكم على الاستئصال..”

  1. يوم أحد (عصر الدعوة النبوية):

أرادت قريش أن تسترد كرامتها بعد بدر، فجهزت رجالها وخرجت معهم بعض النساء على رأسهن هند بنت عتبة تحفزهم على القتال، وترقب إيفاء وحشي لها بالعهد على ما استأجرته من قتل حمزة، فلما استقرَّ القوم بالأبواء قرب المدينة، قالت هند: أوليس هنا قبر آمنة أم محمد؟ قالوا بلى، فقالت فلم لا ننبشه ونستخرج عظامها، فإن وقع منا أسير ( كما حدث في بدر) فاديناهم عنه بعظم من عظامها!! فاستنكر القوم حيث لم تبلغ أحقادهم ووحشيتهم بعدُ ما بلغ عند هند، وقالوا نخشى أن تنبش قبورنا بعدها.

ثم لما وفى لها وحشيُّ ببيعها وقتل حمزة، دلها على جثمانه فكانت اشد وحشية عليه من وحشي نفسه، فبقرت بطنه ولاكت كبده ثم لفظتها، وجذعت أنفه وأذنيه وأجزاء محرمة من بدنه….

  1. واقعة كربلاء (العصر الأموي):

لما فرغ القوم من قتل الحسين (ع)، احتزوا رأسه وجعلوه على رمح طويل، وابتهجوا لذلك، ثم آذنوا بسلبه، فسلب حتى ترك عارياً، ثم جاءوا بعشر من أفضل الخيل معروفة عند العرب بالأعوجيّة، فأوطأوها بدنه حتى هشموه، ثم تركوه ثلاثاً حتى أكلته الذئاب، وتوزعت عظامه في رقعة واسعة من الأرض بين النواويس وكربلاء ، اضطرت دافنه إلى أن يسير يمنة وشمالاً يجمعها في حصير من القصب ليواريها التراب، ما لا يفهمه المرء هو دافع المُثلة هذه، والمبالغة في الانتقام من جثة.

  1. وقعة الحرة (نفس العصر الأموي):

ثار أهل المدينة المنورة على حكم يزيد بن معاوية بعد مقتل الحسين (ع) فأخرجوا عامله وسائر بني أمية من المدينة، فسيَّر إليهم بالجيوش من أهل الشام عليهم مسلم بن عقبة الفهري، ولما انتهى الجيش إلى الموضع المعروف بالحرَّة، هجم على المدينة وبالغ في قتل أهلها ونهبها، واستباحها ثلاثة أيام ( دماً ومالاً وعرضاً ) حتى سُمي بمسرف بن عقبه، فلاذ الناس بقبر الرسول (ص) لكن جيش الشام ما راعى لقبر الرسول حرمته ودخلوه بخيلهم وقتلوا الناس فيه، وكانت المدينة مسكن بقية الصحابة ومسكن التابعين، فكان الوالد لا يضمن لخاطب ابنته أنها لم تغتصب في الواقعة،حتى لو كانت يومها طفلة صغيرة..

  1. مجازر العباسيين في الأمويين:

اجتمع عند عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس عدة من بني أمية نحو تسعين رجلاً، فلما اجتمعوا عند حضور الطعام، دخل شبل بن عبد الله مولى بني هاشم، على عبد الله بن علي عم السفاح وأنشده‏:‏

أصبحَ الملك ثابتَ الآساسِ بالبهاليل من بني العباسِ

طلبوا وتر هاشم فشفوها بعد ميل من الزمان وياسِ

لا تقيلن عبد شمس عثاراً واقطعن كل رقلة وغرَاس

ذُلُها أظهر التودد منها وبها منكم كحد المواسي

ولقد ساءني وساء سوائي قربهم من نمارق وكراسي

أنزلوها بحيث أنزلها الله بدار الهوان والإتعاسِ

واذكروا مصرع الحسين وزيد وشهيد بجانب المهراس

فأمر عبد الله بهم فضربوا بالعُمُد حتى وقعوا وبسط عليهم الأنطاع، ومد عليهم الطعام، وأكل الناس وهم يسمعون أنينهم حتى ماتوا جميعاً، وأمر عبد الله بنبش قبور بني أمية بدمشق، فنبش قبر معاوية بن أبي سفيان، ونبش قبر يزيد ابنه، ونبش قبر عبد الملك بن مروان، ونبش قبر هشام بن عبد الملك فوجد صحيحاً، فأمر بصلبه فصلب، ثم أحرقه بالنار وذرَّاه، وتتبع يقتل بني أمية من أولاد الخلفاء وغيرهم، فلم يفلت منهم غير رضيع أو من هرب إِلى الأندلس، وكذلك قَتَل سليمان ابن علي بن عبد الله بن عباس بالبصرة جماعة من بني أمية، وألقاهم في الطريق، فأكلتهم الكلاب، ولما رأى من بقي من بني أمية ذلك تشتتوا واختفوا في البلاد، ولقد قال شاعرهم:

لا يغرنك ما ترى من رجال إن تحت الضلوع داء دويا
فضع السيف وارفع السوط حتى لا ترى فوق ظهرها أمويا

7.الحرب الأهلية الاسبانية 1936:

قالوا:

بعد أن ربحت الجبهة الشعبية الانتخابات خُربت مائتا كنيسة، ووقعت 300 حادثة اغتيال سياسي، وحصل مئة وثلاثون إضرابا عن العمل، ونهبت مراكز عشر صحف ، وفي القرى تكاثرت هجمات العناصر المسلحة ضد أهل اليمين وضد أرباب العمل، وجرى الاستيلاء على الأراضي، ونظمت المذابح للناس بحجج مختلفة، منها انه أشيع أن نساء كاثوليكيات ورجال دين قتلوا أطفالا بان وزعوا عليهم حلوى مسمومة، وعمت موجة من الجنون الجماعي الأحياء الشعبية، حيث جرى حرق الكنائس وقتل الكهنة، ونساء بائعات للحلوى في الشوارع، ووصل الأمر إلى رجال العلم والتربية، فقتلت معلمات واغتيل مثقفون وشعراء، ولم يعد احد بمنجى من الموت سواء الأغنياء أو الفقراء، أرباب العمل أو العمال، والضباط أو الحرس المدني، الكهنة أو الراهبات، وقتل سبعة آلاف وتسع مئة وسبعة وثلاثون من رجال الدين، بعضهم حرقا وهو حي، ومات مائتا ألف شخص في أسبوعين

وقال شاهد عيان لمذبحة من المذابحوجهت النعاج ( ناس) نحو الشاطئ حيث رميت بالرصاص بتمهل، رأسا رأسا تحت إشراف العسكر وعندما ينتهي العمل يضعون النعاج في كومة، نعاج برأت روحها وأخرى لم تبرا ثم يرشون عليها الوقود، وظل المشهد قائما فقد خيم آلاف الأشخاص في العراء تحت المطر وأقيمت البيوتات بكراس حول طاولات وأدوات مطبخ وفرش وأسرة، بيوت بدون جدران، بدون أسقف، عشرة آلاف شخص يعيشون تحت المطر البيوت ملآنة، وكذا الأرصفة والمغاور ومآوي الكلاب، ووسط الخراب كانت النسوة تفتش عن أطفالهن الصارخين

  1. جنوب السودان:

قالت التقارير الدولية عن حصائد الحرب الأهلية في جنوب السودان:

حصدت الحرب الأهلية في جنوب السودان (1955-1972) و(1983-2003) ما يزيد عن مليوني قتيل، وأعدادا أخرى لا تحصى من الجرحى والمعوقين، وكان نصيب الهجرات الداخلية الناجمة عنها ضعف أعداد القتلى، فقد تشرد أربعة ملايين سوداني وأصبحوا لاجئين داخل وطنهم. أما من ضاقت بهم سبل العيش بين ربوع الوطن وقرروا النزوح إلى البلدان المجاورة -وهم يعيشون ظروفا غير إنسانية- فقد بلغ عددهم 420 ألف لاجئ.

هذا العدد الكبير من القتلى والجرحى والمهجرين خلق ثارات وعداوات كثيرة، وتسبب في مشكلات اقتصادية، واجتماعية سلبية لم يعهدها المجتمع السوداني بهذه الكثرة من قبل، منها تزايد الأنشطة الخارجة عن القانون مثل اختطاف الماشية وتهريب العاج والذهب والأحجار شبه الكريمة واختزان السلع للربح منها وانتشار تجارة الأسلحة بين المليشيات القبلية“.

9.الحرب الأهلية الهندية:

في فيلم المهاتما غاندي، يقف رجل من الهندوس أمام فراش المهاتما، وهو في إضرابه عن الطعام، احتجاجا على الحرب الأهلية، التي دارت بين المسلمين والهندوس، والتي أدت إلى تقسيم البلاد، يقف الهندوسي باكيا، طالبا طريقة للتطهر من جريمة اقترفها ضد طفل مسلم، أخذه من بين يدي أمه، وأمسكه من رجليه، وفضخ رأسه بالجدار حتى تناثر مخه، ردا على جريمة أخرى جرت عليه من حرق وتدمير، فكان يتعذب لجنايته، ولا يعرف طريقا للتكفير عنها ، فاقترح عليه المهاتما (والذي لازال يحتفظ بروحه الإنسانية) أن يأخذ يتيما من يتامى المسلمين، الذين قتل آباؤهم وتشتتوا في الأرض ، ولكن دون أن يغير دين الطفل بل على دين آبائه يربيه.

10.الحرب الأهلية اللبنانية:

يقول أحد التقارير،

وخلالها أسفر معظم اللبنانيين عن طائفيتهم وتعصبهم البغيض، وعمت الجرائم بلداً كان أبناؤه َيدَّعون أنهم أكثر أبناء المنطقة حضارة وتقدماً، فإذا بالقتل الجماعي والقتل على الهوية يصبح أسلوباً للحرب، فِرق المسلحين تدخل مواقع العمل، وطبقاً لبيانات تحقيق الشخصية، تجمع الخصوم في الحجرات، وتطلق عليهم النيران، فضلاً عن اغتصاب الفتيات، وتقطيع الجثث والرقص حولها، واستعمال الرصاص بدلاً من مزمار السيارة لإفساح الطريق، وإيقاف الناس عند حواجز التفتيش في الطرقات وتجريدهم من ثيابهم ليصبحوا عراة، ومن خلال حالة الختانيمكن تمييز هوية الشخص، وفي يوم أسود اختُطِف العشرات وقتل معظمهم على الفور، وقُطِّع الآخرون وعلقوا على أبواب مقار الحزب، وقتل العمال وألقيت جثثهم في البحر

هدف الاستعراض:-

يبين هذا الاستعراض لمشاهد من حروب أهلية، وحشيتها، وانتهاكها لحقوق الإنسان، وإسرافها في زيادة معاناته وأحقاده وسوداويته ويأسه، ولقد خبرت الإنسانية هذه المرارات منذ قديم الدهر، وتكررت تجاربها في شتى الأصقاع إلى درجة الإسراف في التكرار، وكأن الإنسان ليس كائناً عاقلاً، فالتأثير العاطفي الوجداني مفيد لنا ونحن مهددون بفقد عقولنا، والقبول بالشروع في مقدمات الحرب الأهلية المذهبيّة، في العراق التي هي تمارس حرباً أهلية غير شاملة، نسأل الله لأهله أن يتبينوا الرشد من الغي، وفي الخليج والبحرين على وجه الخصوص، حيث كثر النافخون في عوامل الفرقة يؤججون نارها، لحطام من الدنيا قليل، أو لإرضاء عصبيات عمياء مهلكة، لعل أهلنا يعتبرون بما جرى على سائر الأمم ممن سبقهم في تذوق فجائع الحروب الأهلية فيرأفوا بأنفسهم عنها، ولو لم يكن إلاّ من باب حب الأمن والسلامة.

ولكن إضافة إلى ما مرَّ فإننا أكثرنا من الشواهد، وأكثرنا من تنوعها أفقياً ورأسيّاً، زمانا ومكانا، أديانا وأجناسا، حضرا وبدوا، فقرا وغنى، لنلفت إلى أنها جميعاً وفي كل الحالات تتصف بالوحشية، فعلا وفاعلا، وينكشف فيها الوحش الكامن فينا ، يستوي في ذلك من كان مؤمناً أو كافراً، مسلماً أو مشركاً، متمدناً أو متخلفاً، متحضراً أو بادياً، قديماً أو حديثاً، قريب عهد بنبوة أو بعيد عهد بها، حتى كأن الحروب الأهلية تجعل الناس على قدم المساواة وتعيدهم نحو البهيمية، فلماذا يحدث هذا مع أن هناك فوارق ثقافية وحضارية وتاريخية واسعة ومتباينة بين الفاعلين؟

أين ذهبت شيم العروبة عن حذيفة بن بدر وقومه حين جعل الصبية الذين يؤمن أنهم لا يعلمون الغاية ولم يرتكبوا جناية، والكبار من الفريقين إنما جعلوهم رهائن لمعرفتهم بإيمان الجميع أن مثل هؤلاء ليس عليهم ذمام، فأين ذهبت عنه مبادئه هو وقومه؟ فرضيت نفوسهم أن يقتلوا غلماناً صبراً دون تأنيب ضمير؟

وكيف رضي المهلهل وهو الشاعر الرقيق المترف، أن يقتل أهله بعضهم بعضاً ثأراً واحتجاجاً على قتل نفس واحدة؟ فإن كان في قتلها غدراً لؤم، أو ليس في قتل كل هذه النفوس بها جهل وإسراف؟ أوليس في قتله لصديقه ونديمه وزوج أخته همام جهل وموت ضمير؟ كيف يمكن أن يدوم الجهل والغفلة عن المبادئ أربعين سنة؟

أو لم تكن هند بنت عتبة تعرف آمنة بنت وهب؟ أو لم تكن قد جالستها وزاورتها وآكلتها، أو لم يجمعهما يوم جامع من أنس وسمر وحفل وعرس، فقد كانتا من أهل بلدٍ واحدٍ، فإن لم يكن كذلك فلا بد أنها قد رأتها مع أمها أو أنسبائها، أو لا زالت تذكر معالم وجهها، فمن أين جاءها كل هذا الشر لتفكر في نبش قبرها والمقاضاة بعظامها؟! ومن أين كل هذا الحقد لتقبل نفسها وهي ابنة الدلال أكل كبد بشري لشخص كانت معجبة به دهراً؟

وأين ذهبت عن المسلمين مبادئهم وأخلاقهم وأحلامهم ليمثلوا بجسد الحسين ابن بنت نبيهم؟ وليستبيحوا مدينة الرسول وينتهكوا حرمة الصحابة والتابعين، ويفجروا بهم حتى يذكر التاريخ أنهم ظلوا لا يضمنون للخاطب بكارة البنت لمدة طويلة، لعدم حصرهم آثار الداهية التي دهتهم على يد مسلم بن عقبة، هذا والفاعل والمفعول على دين واحد، ويؤمنون بنفس المبادئ، من حرمة الدم والمال والعرض لبعضهم، فأين ذهب كل ذلك؟

وكيف أمكن لعبد الله السفاح أو ابن عمه أن يهنأ بالطعام على أجسادٍ تئن من تحته؟ أو لم يكن قادراً على قتلهم بغير هذه المُثلة؟ لماذا أظهر كلَّ هذه الوحشية في مسرحيته التي أعدها مع شاعره وحراسه؟ من أي بند من بنود الإسلام جاء بهذه الفعلة؟ هل من قوله سبحانه (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)(المائدة: من الآية8) أو من قوله تعالى ( وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ)(الإسراء: من الآية33) أو من خُلُق العفو عند المقدرة؟ أو من سنة النبي في عفوه عن هند وزوجها وسائر أعدائه من قومه وغيرهم؟

قد نجد مبررات فكرية وعقائدية عند طرفي الحرب الأهلية الأسبانية، من جهة الاعتقاد بالصراع الطبقي عند الاشتراكيين، ومواجهة الفاشيَّة عند اليمينين من أتباع الجنرال فرانكو، وقد يفسر لنا هذا استيلاء العمال على مصانعهم والفلاحين على أراضيهم، ولكن لما دخل الناس في سكرة الانتقام والفوضى غابت عن عقولهم مبادئهم المسيحية والإنسانية، فكان محارب الفاشية فاشياً فوق العادة، وكان محارب الامبريالية، مستبداً فوق العادة، وإلاّ ففي مبادئ من مِنَ الطرفين جواز قتل الأطفال والنساء وقتل العابرين في الطرقات؟

للإنسان أن يسأل المسلمين والمسيحيين أين غابت عنكم مبادئ الدين في كل صراعاتكم الأهلية المذهبيّة؟ أين ما كان يتكلم به المسيح من التسامح وإعطاء الخد الأيمن بعد الأيسر؟ وأين هي (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء:107) وأين هي(الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (آل عمران:134) و (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً) (النساء:135)

و( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (المائدة:8)

وأين هو العفو عن المخالف المعاند في قوله (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (المائدة:13) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (المائدة:42) وأين هو خلق الكظم للغيظ والعفو عن الناس في قوله (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (آل عمران:134)، وأين هو وجوب التجمع لقتال الباغي حتى يرجع عن بغيه عند المسلمين؟ (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الحجرات:9)

أين هي الحرمات المغلظة عندهم في الدماء والأعراض والأموال؟ كلها تصبح نسياً منسياً عند ما تثور ثائرة الحرب المذهبية، فلا تكون المسيحية حينها إلاّ الكاثوليكية عند الكاثوليك والبروتستانتية عند البروتستانت والأرثوذكسية عند الأرثوذكس، ولا يكون الإسلام إلاّ التسنن عند السنة، والتشيع عند الشيعة، بل والتحنبل عند الحنابلة، والمالكية عند المالكية والتشفع عند الشافعية، بل وأضيق من ذلك وأضيق فقد يعود الدين كله محشورا في أصغر جزئياته متى ما صارت تلك الجزئية هي موضع التعصب والمخالفة، فيكون المخالف فيها خارجاً عن الصراط كله لنسقط في سنيِّ الجنون، وتغيب كل المشتركات العظيمة والنبيلة، والسؤال لماذا يحدث كل ذلك؟ ولماذا تغيب عن العقل كل مبادئه؟

كل الحروب الأهلية _ وهي كثيرة جدا_ بلا استثناء وفي كل حقب التاريخ كانت وحشية، وخارجة عن حدود المبادئ الإنسانية، ومخالفة لمبادئ الدين ومنتهكة لحرماته، مهما كان دين فاعليها سماوياً أو أرضيّاً، إلهيا أو بشرياً، فالبوذية التي كانت بمثابة الحركة التصحيحية للهندوسيّة، والتي تقوم على نكران النفس وقمع الشهوات وقهر الإرادة والشفقة على جميع الكائنات واستئصال الخطيئة، والتي كانت ترفض نظام الطبقات الهندوسي، وتقبل كل إنسان فيها، وتجعل منزلته على حسب فعله لا على حسب ولادته“.

والهندوسيّة نفسها التي تعتقد أن المخلوقات إلهية الطابع، وأن البراهمايوجد داخل كل كائن حي، وأن الدين هو عملية البحث عن الذات، أي عملية البحث عن الكيان الإلهي داخل الإنسان، والتي يمكن أن تتم بطرق عديدة ومن خلال الطقوس الدينية المختلفة، ومهما تنوعت هذه الطقوس فهي صحيحة، وستؤول في النهاية إلى معرفة الإنسان لذاته، وليس من الضروري أن تكون الطقوس هندوسية فقد تكون مسيحية أو بوذية، لهذا ينص كتاب الفيدانتا على احترام جميع الأديان، ومع كل ذلك فانظر إلى وحشية هذا الإنسان في الحرب الأهلية الهندية والحرب الكمبودية وسائر الحروب في بلاد الهندوس والبوذيين.

فمن أين إذاً تأتي وحشية الحروب الأهلية؟

أولاً: ينبغي التأكيد على أنه من النادر أن تكون الاختلافات العرقية أو الدينية أو المذهبيّة كافية وحدها لإثارة الحروب الأهلية، مهما وفرت هذه الاختلافات من فوارق ثقافية في قبول الآخر، من توهينة والإقلال من قيمته وصواب اختياره، فأمثال هذه الاختلافات في التقييم تظل في نطاق التوافق الممكن أو المحتمل، بل قد تكون باباً للدعابة وتبادل التعليقات والتخفف بين مختلف الأطراف، ولكن الظلم والاستئثار والاستبداد بالسلطة، والتمييز في الفرص، واستحواذ فئة على نسبة مجحفة في الابتعاد عن التعادلية الممكنة القبول، هي ما يؤدي حقيقة إلى تفجير الوضع ونشوب الحرب الأهلية، فإذا ما استأثرت طائفة دينية أو عرقية أو مزدوجة بينهما على فئة أخرى في المال والاقتصاد والنفوذ، وأتبعت ذلك بمواصلة القمع والاستبداد، وارتفعت نسبة الفقر والبطالة وقلة الفرص في طائفة محددة دون غيرها، واستعملت الطائفة الأخرى القوانين ومؤسسات الدولة في إسباغ صفة القانونية على ظلمها، واللاقانونية على المعارضين لها من المطالبين بحقوقهم، وقمع حرية التعبير، ولم تستجب للمطالب المعقولة ولو في الحد الأدنى المعقول، فإنها بذلك تفتح على نفسها وشركائها أبواب الدمار.

والأمر الآخر الذي ينبغي قوله، أن وحشية الحروب الأهلية، تستمد أصل توحشها من كونها حرباً، فالوحشية من لوازم الحرب والخصومة، وإنما يعرف الوحش بعدم استئناسه بغير نفسه وجنسه أو من هم معه بصلة، والحروب والقتال من أسباب بقاء الكائنات الوحشية، التي تعتمد في وجودها على افتراس غيرها، وفي كل معركة يخوضها وحش ما فإنه لا يفكر في شيء إلاّ في كيفية اقتناص صيده، وهو يلجأ في ذلك إلى كل قدرة ومهارة يملكها، فهكذا هي الحروب، والبشر لما يتقاتلون يعودون إلى حالتهم الغابيّة، ونادراً ما تقف المبادئ التي اكتسبوها حاجزاً بينهم وبين أفعال الوحش، وذلك لما وجدوا بأن النصر هو أقرب لمن لا توقفه وسيلة عن تحقيقه، مهما توصف به هذه الوسيلة من لؤم ودناءة، فالنصر عند الناس حليف من لا ضمير له، وفي الحرب لا هدف يعلو على النصر، حتى ولا حرمة المبادئ .

في الحرب يعود الإنسان بشراً، يهيمن عليه عقل ما قبل النفخة المقدسة، وعقل ما قبل العقل المبدع، الذي زود به مع النفخة الربانية، يعود تحت قيادة العقل القديم أو ما تبقى فيه منه، ليوظف الإبداع والقدرة التي اكتسبها مع الروح القدسية في الوظائف القديمة؛ قتل الأعداء وافتراسهم، وتلبية الشهوات والرغائب النفسيّة من خلالهم، وهذا العقل متى ما هيمن على المنظومة واستلم الزمام ووجه الإرادة، فإنه لا يعود يتذكر المبادئ، إلاّ مبادئ الغابة والتي تطلب تحقيق النصر بأي وسيلة، وتلبيّة الشهوة في كل مشتهى، ثم الابتهاج بالانتقام والافتراس بالرقص حول شواء الصيد، أو أسرى العدو.(يسمى هذا المخ بالمخ الوجداني وهو يدير عملية التحكم في العواطف وهو أسرع من المخ العقلاني، وقد يسيطر في الظروف العاطفية الشديدة على المخ كله ويوجهه، وإليه يعزى قدرة البعض في حالات الوجد الشديد على ممارسة أفعال شاذة وسط الطريق وأمام العامة، وهو من الناحية البيولوجية أقدم مكونات المخ.)

وفي الحروب المتكافئة بين الجيوش يمنع تدافعها من الإيغال في التوحش عادة، إذ لكل فريق ما يدفع به عن نفسه، ولكل فريق ما يخشاه من خصمه، وما يرجوه لها عنده، من حفظ الأسرى، وحسن المعاملة لو ساءته العاقبة، أما في الحروب الأهلية فتقع أكثر الضحايا بين الضعاف من الشيوخ والنساء والولدان أو المدنيين العزل، أو الرافضين للانخراط في مهزلة الحرب، فيتم فيها قتل الأطفال وتجنيد الصبية، واغتصاب النساء وخطف الفتيات، وتسخيرهن للخدمة والترفيه، بداعي قطع مدد المقاتلين المحتملين لو كبر الأطفال، وشغل أرحام النساء بمن هم لا ينتمون لهن في العرق والدين، لتلويث الأصل في وجدانهن، وفي خلال ذلك كله يشبع الوحش شهوته ويستجيب لداعي غريزته في الفتك والانتقام، ولعل هذا ما يفسر الفرح والابتهاج بالغناء والرقص على جثث الضحايا أو الأعراض المهتوكة.. فالراقص حينها ليس الإنسان ذو الروح الرباني وإنما الوحش ابن الغابة وقد عاد بعد أن تخلى الإنسان عن عقله المبدع ومبادئه الربانية السامية في سكرة من العَمَه العقلي(لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) (الحجر:72) .

إنّ أول ما يبدأ به هذا العَمَه هو التعصب الذي يغلف العقل بغلاف حاجب عن رؤية الحق أو العذر للآخرين، ذلك أن المؤمن الحق رحيم القلب كيّس العقل، ينظر جهات الإعذار لدى المخالف، ويشكر الله على حسن البصيرة، أما المتشدد الذي لا يعرف التسامح فخطواته على الأرض ثقيلة، يتعسّف في استعمال حقه إلى حد الضرر، ويلجّ فيه إلى حدّ الإضرار، تأخذه العزة ولو بالإثم، ومن كان متعصبا فإنه يكون كما الحُمس يتعصب للدين بما يخرجه منه.

توجد دائما نقطة أو عدة نقاط تكون موضعا للاختلاف بين فرقة وأخرى، سواء على مستوى الدين أو المذهب، وهي لا تشكل إلا جزئية من عموم الدين أو المذهب، ولكن التعصب يضخم هذه النقطة في العقل فيغيبه عن كل الدين وكل المبادئ، لتكبر نقطة الاختلاف وموضع النزاع وتتضخم فتكون عنده هي الدين كله وهي المبادئ كلها، وأنّ من لم يؤمن بها فقد كفر بكل ما يستحق الاحترام، كما عبر عنه القرآن الكريم في تبادل نفس الوصف بين اليهود والنصارى حينما يقول كل طرف للآخر لستم على شيء (وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (البقرة:113) ، فهذا النفي الكلي لكون الآخر على شيء من الحق مع أنهما يتلون كتاباً وحداً وهو التوراة، فيه خروج عن أصول الاختلاف السليم، ألا وهو عدم الكفر والتنكر للمشتركات وكأنه لا يوجد مشترك بينهما، وعدم تضخيم موضع الاختلاف ليسلب كل نقاط الاشتراك ويلغيها، مع أنها أكبر سعة وأهمية من موضع التنازع، فهم ولاشك يؤمنون بوجود إله من وراء الوجود يدبر أمره، ويريد خلق علاقة بينه وبين الناس، ليعلِّمهم ويزكيهم، ويثيب المحسن ويعاقب المسيئ، وأن هناك وجوداً عاقلاً غائباً وراء هذا الوجود، فيه من أجناس الخلائق ما نعرف ومالا نعرف، وهذا لا شك أنه أوسع في تكوين هوية المرء من الإيمان بالنبي عيسى عليه السلام أو عدم الإيمان به، وأنه يجعل الحياة المشتركة ممكنة بينهما.

تأمل في فتنة خلق القرآن، هل القرآن الكريم مخلوق أم أزلي؟ لا شك أن هذه المسألة تعد ثانوية في الفكر الإسلامي، ولكنها يوم الفتنة تضخمت في عقول الناس حتى كانت هي الدين كل الدين، وإن القول بأحد طرفيها يوازي الخروج من الإسلام أو الكون فيه، عند هذا الطرف أو ذاك، ونحن اليوم ننظر لهذه المسألة بحجمها الطبيعي عند قوم لم يفتتنوا بها، لكنها لم تكن كذلك حين الفتنة ، فقد غطت على عقول عباقرة، وأضلت علماء، وانتهكت فيها حرمات، وساندتها سياسات وخلفاء، وزهقت فيها نفوس ، وشغلت الأمة بها عن شؤونها، فلماذا حدث كل ذلك؟ ما هو إلاّ لأن كل طرف لم يحفظ للخلاف حدوده، و ذهب به إلى مقتضيات أخرى جرجرها له عقله المتعصب و ميل هواه وحمية نفسه، من قبيل إذا قلنا أن القرآن مخلوق فإن مقتضى ذلك أن يكون الله كذا أو كذا، وكذلك العكس فيدخل العقل في دهاليز يمحو بها كل أثر للإيمان ويعود الدين كله هو تحرير هذه النقطة.

وتأمل في اختلاف المسلمين حول الولاية أهي ربانية كما يقول الإمامية أم هي وضعية من اختيار الناس كما يقول غيرهم من أهل السنة والجماعة، ثم لا يرون الدين إلاّ هذه المسألة وبدونها تتساقط قيمة كل المشتركات المتفقة بينهم، وهي كل أو جل عقائد وأخلاق ومبادئ الإسلام، من عقائد الإيمان وأركان الإسلام وأخلاق المؤمن ومبادئ الدين، وكتابه المبين ورسوله الأمين، فيأتي هذا الاختلاف بالتهويل في قيمته ليمحو معه كل قيمة وأثر لمبادئ الدين الحنيف التي يؤمنون بها جميعا، فإذا ما جمعهم جامع لا يرى كلٌ في صاحبه إلا مواضع الاختلاف المحدودة، ويتغافل عن المشتركات الواسعة، حتى بتّ تسمع هذه الأيام العجب في اعتبارهما أنفسهما من ملتين لا من ملة واحدة، نعوذ بالله من عمى الجهل وضلال العصبية..

وخذ مثال أهل الرأي وأهل النص، فلا يلبث هذا الاختلاف أن يجر كل فريق إلى تضليل الآخر وإسقاط قيمته العلمية والدينية، وإبطال العمل بأقواله وآرائه، ثم يتضخم ليحتل عدداً عريضاً من المؤلفات والمؤلفات المضادة، والتوهينات والتوهينات المضادة، والتكفير والتكفير المضاد، ثم اشتباكات الأتباع وانتهاك الحرمات من الدماء والأموال والأعراض.

ولا يقتصر هذا على المسلمين وحدهم بل هو سائد في أصحاب الأديان من قبلهم، بل وفي أصحاب النظريات السياسية والفلسفية التي طُرحت في التغيير الاجتماعي والفكري للجماهير، وها أنت ترى أمثلتها اليوم تتجدد في أرقى الدول كفرنسا العلمانية، حيث تحشر العلمانية ( علمانية الدولة ) في متابعة أصغر خصائص المواطنين أو المهاجرين من لبس الصليب أو الحجاب أو البرطلة، ثم يتضخم الأمر شيئاً فشيئاً مع هذه الظروف العالمية المؤاتية للتضخيم، مع هذا الإعلام الجبار الذي يخترق جسد العالم كالعروق والأعصاب، فإذا قد تحولت الحبة إلى قبةوصار مصير الدولة والعلمانية في نظر المؤيدين رهناً بإزالة الحجاب، وعلى الطرف المقابل يكون الدين كله ملفوفاً في خرقته ، التي إذا أزيلت فلا دين بعدها، أو ليست هكذا تبدأ الفتن العظيمة من مستصغر الشرر؟

ولكن أنظر إلى المنهج القرآني في ذلك، وخذ مثالاً عليه موقفه من أهل الكتاب اليهود والنصارى والمجوس والصابئة، فلو قرأت القرآن لوجدت أنه يفرق الأمر فيهم على جهتين: جهة الجدال وجهة الحقوق القانونية والإنسانية، فمن ناحية الجدال في الفكر والعقيدة، فإنه لا يجاملهم على الحق، ولا ينكر حقاً هم عليه، فمن جهة يذكر عدداً من التحريفات التي أدخلوها على الكتاب والعقيدة أو دخلت عليهم،(فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) (البقرة:79)

ومن جهة يثبت الحق الذي هو موجود ولا يزال في كتبهم )وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) (المائدة:43) ومن ناحية الأسلوب تراه يشتد أحياناً كثيرة ويرق أحياناً.

ولكن كل هذا الاختلاف وهو متعلق بقضايا هامة في الدين، بل ومن أشد قضاياه، لم يمنع القرآن من التمسك بحقهم أولاً في البقاء على دينهم، احتراماً للأصل المشترك الكبير معهم وهو الإيمان بمجمل الأصول الدينية السماوية من الاعتقاد بأن الله هو خالق الكون والإنسان، وأنه يبعث الأنبياء وينزل الكتب ويرسل الملائكة ويثيب بالجنة ويعاقب بالنار، ولم يقبل من المسلمين أو اليهود أو النصارى أو غيرهم من أهل الأديان أن يقول الواحد منهم للآخر لستم على شيء ، فإنكاره للانحراف في شيء لم يجعله يتنكر لكل شيء، ثم سمح لهم بالعبادة على طريقتهم وقال إنه يدفع الناس بالناس لئلا تهدم هذه الصلوات والمساجد والبيع،)الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحج:40) ثم أجاز الزواج منهم، والأكل من طعامهم وإطعامهم فقال ( وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ)(المائدة: من الآية5) إلاّ أن المسلمين لم يتأدبوا فيما بينهم بأدب القرآن فساقطوا حرماتهم بينهم، بخلاف هو أقل من خلاف أهل الكتاب معهم، فكان أهل الكتاب في أحيانٍ كثيرة أشد أمناً بين المسلمين من أحد أطراف المسلمين أنفسهم.

قد افترى على الله كذبا كل من قال أن من الدين أن ينتهك حرمة من خالفه، سواء في حضوره أو غيابه، فكل أهل الإيمان قد أمروا بالدخول في السلم كافة فناداهم ربهم (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (البقرة:208) وملعون من أخرج أمة محمد (ص) من السلم إلى الحرب لأجل طمع أو هوى أو عصبية، وجاهل من أطاع عبدا كائنا من كان في خلاف هذا، وإن دماء الناس وأعراضهم وأموالهم أمانة في عنق كل أحد، وعليه أن يحفظ هذه الأمانة، خصوصا إذا كان من الرعاة كالحكام وعلماء الدين.

شارك بتعليقك

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني.