الحلقة التاسعة: الدين فوق الطوائف والمذاهب

الحلقة 9
  • اخترعوا لأنفسهم أن هناك فرقة واحدة في الجنة، وسائر الآخرين في النار وسموها بالفرقة الناجية، وجعلوها مذهباً أو طائفة وليس اعتقاداً وعملاً.

  • إن ما عليه الشيعة والسنة من مذاهب، ليست سوى حصيلة أفهام ورسوم علماء المذهبين، لم تكن تحت رعاية النبي ولا أهل البيت، فتسمي السنة بأهل السنة والجماعة هو من وضعهم نعتا لأنفسهم، ليس عندهم من النبي تصديق، وتسمي الشيعة بمذهب أهل البيت هو من وضعهم نعتا لأنفسهم، ليس عندهم من أهل البيت تصديق.

  • إن المذاهب أقوال رجال وقد كان الدين كاملا قبل وجودهم بقرون، وهم إنما عالجوا اختلاف أفهام أهل زمانهم في شؤون الدين،لا أنهم قد وجدوا الدين ناقصا فأكملوه.

في زحمة الصراع الطويل بين اليهودية والنصرانية صار ثابتاً على أرض الواقع أنهما دينان مختلفان، وكذلك يتعامل أتباعهما، ولكن هل اليهودية دين آخر غير النصرانية؟ أم أنهما مذهبان لدين واحد؟ أما في واقع الحق فإن عيسى عليه السلام لم يأت بدين جديد، وإنما جاء لخراف بني إسرائيل الضالة، وهو حركة تصحيحية في ديانة موسى عليه السلام، لم ينسخها وإنما صححها من الانحرافات التي أدخلها الأحبار عليها، وعاش عيسى ومات وهو في بني إسرائيل، يدعوهم للتصحيح، والإنجيل لم يكن سوى إضافة ( عهد جديد ) يضاف إلى ( العهد القديم ) والمسيحية على ذلك إلى اليوم.

إذاً فالتوراة هي المكون الأساسي للديانتين، والإنجيل لا يلغيها، وما دام الأمر كذلك فهما إذاً دين واحد وإن انقسم أهله، فأخذ فريق منهم بالكتابين، وردَّ فريق آخر الإنجيل، ورفض الإقرار لعيسى بالنبوة، إلاّ أنهما في واقع الحق دين واحد، وحتى في واقع الحال فإن اليهود والنصارى يجدون حتماً أنهما معنيان بكثير من ذات الأمور والقضايا التي يطرحها كتاب التوراة.

والمتتبع لآيات القرآن الكريم يجدها توحد الخطاب لهما تحت مسمى واحد وهو أهل الكتاب، فهذا اللفظ جامع لطائفة اليهود وطائفة النصارى، ومن خلاله يوجه القرآن خطابه المشترك لهما، ويمكنك تتبع هذا في سورة آل عمران حيث يتكرر مثل هذا الحديث، والقرآن صريح في اعتباره اليهود والنصارى طائفتين من أهل الكتاب، وهما مطالبتان بإقامة التوراة والإنجيل سويا (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) (المائدة:68)، فالطائفتان ملزمتان بالتوراة والإنجيل معا، لأنهما أمة واحدة نزل عليها كتابان مصدقان لبعضهما، ولعل هذا يفسر ما ورد في سورة الأحقاف من كلام على لسان الجن أنهم سمعوا كتابًا أنزل من بعد موسى1 ولم يذكروا عيسى عليه السلام، فهما دين واحد تمزق طائفتين حتى صار دينين.

والأمر بالنسبة للسنة والشيعة أشد وضوحاً، إذ لا يصعب إثبات أنهما على دين واحد وهو الإسلام، والإسلام دين يقوم على مقومات أساسية وهي وحدانية الله ونبوة محمد (ص) وكتاب القرآن، ومن ثم نزولاً نحو الإيمان بالكعبة المشرفة قبلة، ووجوب إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم شهر رمضان وحج البيت من استطاع إليه سبيلاً، وهذه أمور لا يختلف فيها سنيٌ عن شيعي بل يزيدون عليها في المتفقات كثيراً جداً، بل الحق أن من الأسهل على المتتبع البحث عن المختلفات بينهم عن أن يبحث عن المتفقات، لأنها قليلة يمكن رصدها، وهي جميعاً تأتي في مراتب أقل من أسس الإيمان والاعتقاد المشتركة، ولعل أساسها هو اختلاف سياسي يتمحور حول الإمامة؛ أهي منصب إلهي يثبت بالنص أم هي شورى بين المسلمين؟ وهذا لو أنصف الناس بعضهم لا يخرج أحداً من الملة. فهكذا تعامل أول المختلفين من الصحابة عليٌ وأبو بكر وعمر وسائر الباقين، فقد تخاصموا واختلفوا في الأمر، ولم يكفر بعضهم بعضا، فما بال الناس مَلَكية أكثر من الملك؟

الاختلاف في شأن الإمامة وأنها محصورة في أهل البيت، ليس وقفاً على الشيعة الإمامية، فكل أتباع الدولة العباسية ومناصريها وهم صلب السنة، قد قالوا بمثل هذه المقالة طوال عهد العباسيين الطويل، من أن الخلافة هي حصر في بني هاشم، وإن لم يدَّع العباسيون العصمة، ولكنهم قالوا بأنها إرث خاص ببني هاشم، وأيدهم أيامها كل جمهور السنة ولم ينكروا عليهم ادعاءهم، ورضوا بهم خلفاء وقادة، فالأمر إذاً ليس بمثل هذه الدرجة من الإنكار التي يرددها البعض. بل إنّ كل جمهور السنة حتى بداية الدولة العثمانية، كانوا يقولون بأن الخلافة حصرٌ في قريش دون سائر المسلمين، ولا تزال مدونات المذاهب على هذا إلى اليوم.

إذاً فكلٌ قد أخذ بجزئية من قول الآخر، فالشيعة الإمامية، أيضاً التزم بعضهم بوجوب الأخذ بنظام مزدوج من الخلافة الربانية المنصوصة، مع أخذ البيعة العامة الكاشفة عن رضا الأمة، وأنه لا يحق للإمام أن يكره الأمة على إمامته، ما لم تكن الأغلبية معه، ولعل هذا ثابت في سيرة علي والحسن والحسين عليهم السلام وهم الأئمة الذين مارسوا السياسة، فكما ترى أن كل فريق قد أخذ بطرف من مقولة الآخر في الإمامة، وهي أساس ما اختلفوا عليه.

وبعد كل هذا الاشتراك فمن المؤكد حتماً أنه لا يمكن القول بأن التسنن دين منفرد عن دين التشيع، فلا التسنن دين مستقل ولا التشيع دين مستقل، ولا يملك أيٌّ منهما مقومات الإدعاء بذلك، والحمد لله فإنهم جميعاً يبرؤون من مثل هذا الإدعاء، وكل فريق يقول بملء الفم أنه مسلم، ومن ثم فإن مجمل ما يدعيه كل طرف قبالة الآخر أنه هو النسخة الصحيحة من الدين الإسلامي، ولعمرك ما أسهل إثبات خطأ هذه المقولة، إذ ما من مقولة في فريق إلاّ ولها مقارب أو مثيل ومثال في الفريق الآخر، فأكثر القضايا بين الفريقين موجود ما يؤيدها عند الفريق الآخر ولكنها تكون هنا ظاهرة بارزة معمول بها مثبتة الصحة ، وتكون هناك متوارية متروكة مشكوك في صحتها أو صحة سندها، ولو انبرى أحدٌ لمثل هذا التأليف لوجد ما نقوله حقاً حتى في كثير من صغائر الأمور وتفاصيلها، ولكن هذه الدلائل تُفهم هنا بشكل وتُفهم هناك بشكل آخر مختلف، يسوق كل فريق فيها النار إلى قرصه، فالمسألة تأويل وتأول أكثر منها اختلاف في أصل المصدر.

إن كل مسلم اليوم قادر- لو أراد - أن يظل مسلماً دون أن يتصف بالتشيع أو التسنن، فقد أكمل الله الإسلام ورضيه للناس ديناً على عهد رسول الله (ص) قبل أن يفترق المسلمون سياسياً في الإمامة، وهذا نص صريح في القرآن الكريم (لْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً)(المائدة:3) وكل مسلم له الحق في العودة لصافي الإسلام قبل الاختلاف.

إن الاختلاف في مسألة الإمامة، كان من الممكن أن لا يتحول مذهبا وفرقة في الدين، تشتمل على تفرعات ثقافية وسلوكية وعاطفية عديدة، حيث أن التكليف الفعلي في شأنها يختص بأهل زمان الإمام الذي يعاصرونه، وليس المرء مكلفا بمعرفة إمام الزمان الذي لم يعشه، وليس مكلفا بأكثر من السمع والطاعة لإمام زمانه، دون أن يعتقد أنه معصوم، فالمسلم الذي يناصر الإمام على الحق قد أدى تكليفه، ولا زيادة عليه، ومن هنا كان ممكنا أن لا تتحول مسألة الإمامة لكل هذا التنمط المذهبي، حيث لا تصح في رأي المذهبيين إلا مع مقتضياتها التي يزعمون، فقد كان هناك أنصار لأئمة أهل البيت من كل المدارس والتوجهات، وبعضهم بذل مهجته معهم، في الوقت الذي تخلف عنهم بعض من يقول بعصمتهم، وهل المسلم مكلف في النبي بأكثر من تصديق أنه عبد الله ورسوله؟ وهل عليه أن يعرف أنه سيد الخلق أجمعين، وأنه وأنه؟

إن ما عليه الشيعة والسنة من مذاهب، ليست سوى حصيلة أفهام ورسوم علماء المذهبين، لم تكن تحت رعاية النبي ولا أهل البيت، فتسمي السنة بأهل السنة والجماعة هو من وضعهم نعتا لأنفسهم، ليس عندهم من النبي تصديق، وتسمي الشيعة بمذهب أهل البيت هو من وضعهم نعتا لأنفسهم، ليس عندهم من أهل البيت تصديق، فإنما هي أسماء سموها قد تصدق وقد تكذب، والنبي ليس ملزما بكل ما قيل عنه وعليه، وأهل البيت كذلك، وكل يدعي وصلا بليلى، ولا نعلم لهما بالإقرار.

إن المذاهب الدينية لم تكن يوما إلا مذاهب رجال من المسلمين، لم يكونوا أفضل ممن سبقهم وليسوا بأعلم من كل من لحقهم، فلهم رأي ولغيرهم رأي سواء منهم أئمة الفرق أو المذاهب، بل لم يكونوا هم أنفسهم يتوقعون أن يستغني بهم الناس في شأن الدين، وأمثال عبارة لا أجد الإسلام إلا حنبليا، أو مالكيا أو غيره، لم تكن لتخطر لهم ببال، ولكنها من ثمرات التعصب، وإلا فلقد كانت هناك فرق سادت ثم بادت بذهاب أهلها لا لضعف أقوالهم، وهناك أئمة كانوا أشهر وأكثر قبولا من المشتهرين، ولكن التاريخ لم ينصفهم، أو لم يكونوا من ذوي الحظ، وهاهم رجال المذاهب الفقهية والأصولية من الإمامية يتتابعون عالما في أثر عالم، بسبب أن الاجتهاد لم يتوقف عندهم، دون أن يجعل ذلك منهم أئمة حصريين في أخذ الدين لمن يريده، فلا يكون دينا إلا ما سطروه ورأوه.

إن المذاهب أقوال رجال وقد كان الدين كاملا قبل وجودهم بقرون، وهم إنما عالجوا اختلاف أفهام أهل زمانهم في شؤون الدين،لا أنهم قد وجدوا الدين ناقصا فأكملوه بمخترعاتهم، وإلا فالدين كان في غنى عنهم وعن كل ما كتبوه، ولو لم يكتبوا حرفا فإن الدين لن يتضعضع، فهو محفوظ في كتاب الله، وخيرة أهل الدين لم يكونوا قد أدركوا المذاهب، وليس لمن تمذهب فضل على من لم يتمذهب، وكما أنه ليس على المتمذهب وزر, فليس له أجر في نفس تمذهبه، فمن أصاب أثيب ومن أخطأ متعمدا أثم، وأعظم الآثام آثام القلوب، فإن أبغضت مؤمنا في إيمانه فأي شي أبقيت؟ ومن زعم أنه لن يدخل الجنة إلا من كان شزضسيا جحشضيا2، فتلك أمانيهم بلى من آمن بالله ورسوله واليوم الآخر وعمل صالحا فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون فتيلا (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً) (النساء:124)، وإنما مثل المذاهب في الدين كمثل الحجر الأسود في الركن، لا في مسه أجر ولا في تركه وزر، والحج يتم بدونه وإن اقتتلت الناس عليه!.

لقد أهدر المسلمون المعاصرون كثيراً من مجهودهم ووقتهم في قضايا لم يكلفوا بها، ورأيهم فيها لا يقدم ولا يؤخر، من أمثال أيهم أفضل فلان أم فلان؟ وهل أخطأ فلان أم أصاب؟ فأشركوا بذلك في دينهم طاعة من لم تفرض عليهم طاعته، واستنوا بالأسلاف، وتشاغلوا بقضايا أسلافهم المدبرة عن قضايا عصرهم الحاضرة، فما الذي سينفع السابقين أو يضرهم إذا أثبتم لهم زكاة أو نفيتم عنهم فجورًا؟ هل سيُغير ذلك من ما كتب لهم في صحائفهم؟ وهل جعل الله لكم الوكالة عليهم في الإثابة والمجازاة؟ أم تظنون أنكم إذا تكاثرتم بالصالحين فسينالكم من إحسانهم طرف وإن لم تعملوا عملهم؟ أم أننا واغلون في عمى التكاثر الذي شنَّعه الله على المشركين حين قال: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ) (التكاثر: 1/2)

إن الاغترار المذهبي أدخل طوائف المسلمين فيما سبقتهم إليه اليهود والنصارى، حينما ادّعوا على الله كذباً أنه لن يدخل الجنة إلاّ من كان هوداً أو نصارى، فكذب الله أمنياتهم وسطرها خالدة: أن كل من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فهو من أهل الجنة2، ثم لا يكون مهمِّاً بعدها الاسم الذي تزينا به.

فالمسلمون على مثالهم اخترعوا لأنفسهم أن هناك فرقة واحدة في الجنة، وسائر الآخرين في النار وسموها بالفرقة الناجية، وجعلوها مذهباً أو طائفة وليس اعتقاداً وعملاً، ثم ركبوا في انتهاك حرماتهم بينهم مراكب اليهود في مقولتهم أنه ليس عليهم في غيرهم سبيل، فالمحرمات مع بني إسرائيل مباحات في غيرهم من الغش والبخس والغدر ونقض العهود، فكذلك تجد فرق المسلمين لا تتأثم في حرمات المخالفين ، فهم يأكلون لحوم بعضهم بعضاً بحجة أن الآخر فاسق لا غيبة له، ولا يتأثمون في الإدعاء ببطلان سائر أعمال من سواهم من المسلمين، بل وفي عدم عده من المسلمين على الحقيقة.

إن أول ما ينبغي للمسلمين التراجع عنه من الغي الطائفي هو إعادة الحرمة لأنفسهم فيما بينهم، مالاً ودماً وعرضاً، مصححين اعتقادهم اليهودي هذا في أنه ليس عليهم في حرمات سائر أخوانهم سبيل، وإلاّ فما داموا على مثل هذا الحال من الاستخفاف بحرمات بعضهم فلن يرعوون عن هذا الغي.

لقد افترى على الله ورسوله وأوليائه كذباً من أورد من الفتاوى والآراء ما يبيح لهم أعراض الناس وفيما ادّعوه عليهم من بطلان أعمالهم ونجاستهم وحرمة ذبائحهم وحرمة الصلاة معهم، فهذه كلها جنايات ظالمة في دين الله والرسول (ص)، فليست هناك مسألة أوضح في الإسلام من أن كل من شهد الشهادتين فهو مسلم حرام كله، صرح بها القرآن وعاتب مخالفيها، وصرح بها الرسول(ص) وأوصى بها أمته، ولكن كثيرا من رجال الدين بتعصبهم قد مزقوا وحدة هذه الأمة، فكفَّروا وفسَّقوا المخالفين لهم الرأي، فجنوا على الأمة جناية عظيمة يكاد يستحيل علاجها.

إن الادّعاء الذي يزعم بالفرقة الناجية هو إدّعاء كاذب ومضلل، إذا أراد بها فرقة مذهبية أو طائفية، فليس هناك ضمان لفرقة بقضها وقضيضها أنها في الجنة، فإنما الحساب فردي يقوم على أساس النية، فإنما الأعمال بالنيات، ولربما يقوم العبد بعمل فاسد في ذاته ولكنه يريد به الإصلاح ظاناً أن فيه صلاحاً، فتقوم نيته مقام عمله فيؤجر عليه أجراً، فلو توضأ المسلم وضوءاً فاسدًا بقصد القربة لله بالصلاة، وكان ذلك حدود علمه وطاقته، فإن نيته الصالحة تجبر فساد وضوئه أو خلل صلاته، وعلى العكس لو توضأ وضوءاً كاملاً وصلى صلاة سليمة الشكل ولكن بنية فاسدة كالتبختر أو الرياء، فإن عمله يعد فاسداً ومأثوماً. ولقد قال سبحانه (مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (التوبة:91) ، فإن قاعدة قصد الإحسان مقبولة بعد ثبوت أصل الإيمان والإسلام، وإنما هي مردودة إذا لم تقم الأعمال على الإيمان فأولئك الذين عناهم الله سبحانه بقوله (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً) (الفرقان:23)، حيث لم تسلم لهم نية التقرب لله بأعمالهم، أما المسلم المؤمن فإنه متى ما صحت نيته وعمل بحسب علمه الذي اقتدر عليه، والذي بحيث لو أنه علم خطأه لتجاوزه إلى الصحيح من غير عصبية، فهذا تجبر نيته الصحيحة خلل أعماله.

إن حساب العباد أبعد ما يكون عن قدرة العبد، ولا يحصيه إلاّ الرب الجليل، فلكل فرد ظروفه الزمانية والمكانية والأسرية والسياسية والعقلية والنفسية، فهو سيحاسب على قدر ظروفه وإمكانياته، ومتبجح من صار يقسم الناس بهواه فريقاً في الجنة وفريقاً في السعير.

ثم من هذا الذي خولهم نصب الموازين قبل يوم الحساب؟ الكل يدَّعي كذباً أنه لا يزكي نفسه ثم تراه يصدّرها مجالس الجنة في أعلى عليين، ويسافل مخالفيه إلى النار في أسفل سافلين! وكأن الله سلمه ملفات الحساب، وجعله قسيم الجنة والنار!

إن الأمة اليوم لهي أحوج ما تكون لتعاون أبنائها وتآزرهم وتعاضدهم، فالسنة والشيعة مذاهب للناس ولكنهم كلهم مسلمون، متكافئون في الحرمة، وينبغي أن يستشعروا هذه الوحدة وهذا الانتماء فتكون له حميتهم ويكون له ولاؤهم، لا إلى مذاهبهم وطوائفهم.

إن الأرض عطشى لعرق الرجال المتكاتفين لا إلى دماء الأخوة المتقاتلين، إن النفس لتذهب حسرات على زهرة شباب هذه الأمة، لما يجد أنهم قد صرفوا دمائهم وأعمارهم في خناق بعضهم، وإن النفس لتسر لما تسمع بتضحياتهم في مواجهة أعدائهم من كل الأصناف العسكرية والسياسية والثقافية، فلنوقف هدر الأموال على بناء مساجد ضرار وحسينيات ضرار وصناديق ضرار، ولننفقها في ابتعاث أبنائنا لتلقي العلوم العالية وإنشاء الاستثمارات النافعة والبحوث المتطورة، فلنتعاون على البر بدل التعاون على الإثم، فهل ضرب أحدٌ على أيدينا أن نفعل ذلك؟ ولكنها أدواؤنا المزمنة وعواطفنا المنفلتة، وعقولنا المنغلقة الجامدة، جعلتنا نخرب بيوتنا بأيدينا، دون أن نستجيب لنداء ( فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ).

1 ـ (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ) (الاحقاف: 29/30)

2 ـ حروف من فرق ومذاهب: شيعيا زيديا إباضيا سنيا ..

2 ـ (وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (البقرة: 111/ 112)

شارك بتعليقك

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني.