الحلقة الثالثة: الطائفية وتكويننا العقل نفسي

حلقة 3

قلنا أن العقل يتعرض لعملية طمس واستلاب، حال الدخول في سكرة العمه للتعصب الطائفي المتطرف إذا ما انفجر حرباً أهلية، وأن زمام القياد يصبح تحت سيطرة المخ القديم الباقي من حياة الغابة، حيث لا توجهه مبادئ ولا قيم، فتخرج الأمة المتحاربة على أصرح مبادئها التي تدَّعي زوراً أنها خرجت للدفاع عنها، فمواجه الفاشية في الحرب الأهلية هو فاشي فوق العادة، ومواجه التميز العرقي عرقيٌّ فوق العادة، ومواجه التطرف متطرف فوق العادة، وهذا ما يفسر خروج الإنسان عن إنسانيته في سائر حروبه الأهلية، وهو في الآن نفسه منبه إلى ضرورة التحرز الشديد من بلوغ ساحاتها ولو الخارجية.

وقلنا أيضاً أن الاختلافات المذهبيّة والتكونات الطائفية لا تكون كافيه وحدها لإذكاء نار الحروب الأهلية حتى يتلبسها الصراع السياسي حول السلطة والتسلط والاستئثار والأثرة، بطغيان طبقة تحمل مذهباً على طبقة أخرى تنتمي لمذهب آخر، غالبا ما لا يكون في شئون المذهب أو الطائفة الدينية، وإنما في النفوذ والمال والحكم والهيمنة، حتى إذا ما ألبس أصحاب المصالح مصالحهم ثياب المذهبيّة الدينية صار حال الحرب وكأنها بَدَنٌ البس ثياباً من قطران، أهناك شيء أشد اشتعالاً وأحرَّ توقداً منه؟

ويلحظ المتأمل أن التطرف المذهبي يتكئ على تكوين عقلي وعاطفي هو الجذر المساعد لبلوغ مرحلة العمه وسيطرته على توجيه السلوك، فمن معالم ذلك:

  1. تحول القضايا الجزئية إلى أمهات القضايا، والملاحق إلى مبادئ، فعلى سبيل المثال القول بإمكانية رؤية الله يوم القيامة في فهم قوله تعالى )وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) (القيامة:22- 23 ) يتحول إلى اتهام بالتجسيم ثم الكفر، في رحلة متسلسلة مؤصلة قوامها أن لازم المذهب مذهب، مع أن واقع الحال أن صاحب القول يحاول الوصول إلى فهم لنص قطعي الصدور عند الطرفين يحمله الظاهر لا أن يتحمله فقط، ولكن هذا لا يتم إلا مع المخالف في المذهب ، ولو أن الاختلاف في الفهم للنص قد حدث بين من لا عداوة مذهبيّة بينهما، أي بين عالمين من مذهب واحد، لكان قصارى جهد العالم المعترض أن يتهم نديده بموافقة المخالفين للمذهب، أما وأنه من مذهب ثان مخالف فإن التهمة الجاهزة بالتجسيم والتكفير لا تأثيم فيها، والأمر مثيله عند من قال بالرؤية، ولو قرأت جدليات أهل السنة والجماعة على المعتزلة والجهمية والإمامية والإباضية في ردهم قولهم بمنع الرؤية، لرأيت التوهين والتحقير والتفسيق وإلى ما هنالك من أدبيات الجدال غير المهذب التي صارت قاموساً بين علماء الإسلام سائغ الاستخدام، ولكنهم حينما يردون على مجاهد الذي هو من علماء السنة فإنهم يحترمون موقعه في المذهب ويكتفون برد رأيه المخالف لأصول المذهب المتفق عليها دون إسقاط الرجل فيقولون مثلاً [ والقول منقول عن ابن عبد البر ] ” مجاهد وإن كان أحد الأئمة بالتأويل فإن له قولين مهجورين عند أهل العلم وأما إذا كانت العبارة حول الخصوم فتسجد من مثل سأتناول في هذا البحث إن شاء الله مسألة عظيمة من أشرف المسائل أصول الدين وأجلها وهي الغاية التي شمرَّ لها المشمرون وتنافس فيها المتنافسون وحرمها الذين هم عند ربهم محجوبون، وعن بابه مطرودون ألا وهي رؤية الباري في جنات النعيم ” [ نقلاً عن مقدمة كتاب الأنوار السنية في حرق عقائد الخوارج الإباضية ] ومثل هذا كثير بين المذهبيين المسلمين ولا يختص بطائفة دون طائفة.

فالمسألة في حد ذاتها قابلة للأخذ والرد في كلا الاتجاهين، ولكن القائلين بالنفي مبرمجون مذهبيّاً على الرفض، والقائلون بالإيجاب مبرمجون عليه أيضا، فلا يكون استعراض الدليل عند الآخر إلاّ من خلال الجاهزية للرد، والذي يعنينا أن الإصابة أو الخطأ في مثل هذه الجزئيات الفرضية في العقائد، ينبغي أولاً أن لا يكون سمة مذهبيّة وثانياً أن لا يعطى وزناً في الدين فوق وزنه، فإن إسباغ الموقف المذهبي حول قضية قابلة للأخذ والرد كما هو الحال مع كل الخلافات المذهبيّة إنما يصم علماء المسلمين باللاموضوعية، وبالتفكير من خلال كهف، وإلاّ فما هو التفسير المنطقي لاصطفاف كل علماء فئة حول قول مذهبها؟ ليس هناك تفسير صادق وعادل إلاّ أن القوم مصابون بعمى المذهبيّة وهو من شأنه أن يسلب عنهم صفة العالم الباحث عن الحق مهما تكاثرت علومهم.

ويظهر التشنج أجلى ما يظهر في تضخيم نقاط الاختلاف والتنازع، وتهويل آثارها في مجانبة الحق والإيمان، والسعي بها حثيثاً نحو إخراج المخالف عن ربقة الدين، وحرمانه من الجنة وبطلان أعماله الحسنة وإن بلغت الجبال وزناً، وإيقاف قبول أعمال المخالف على اجتيازه نقطة الخلاف المذهبيّة بنجاح، وإلاّ فهو ممن قال فيهم رب العباد ” (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً) (الفرقان:23) !!!

أي أن نقطة الخلاف المذهبيّة ترقى في الأهمية حتى تبلغ السقف وهو الشرك الصريح بالله عبر عبادة الأصنام الذنب الذي لا يغتفر، مع أن الله سبحانه أكد أنه يغفر الذنوب جميعاً إلاّ أن يشرك به، إذاً فلا بد من النفخ في نقطة الخلاف لجعلها على حد الشرك بالله، هذا مع المخالف وأما الموالف فهو قد اجتهد فأخطأ فله أجر!.

ويزداد التشنج حدة إذا ما بلغ عقول العامة من الناس، الذين يرتاحون للنظر للأمور من خلال الأسود والأبيض، فكل مخالفة لما هم عليه من بياض فهو حتماً داخل في السواد، فإذا ما كان موقف علماء الدين متشنجاً فالعوام من بعدهم أكثر تشنجاً، فإذا ما أفتى عالم متشنج شيعي ببطلان صلاة من قال آمين، فإن العامة يصدقون ذلك، ويضيفون عليه مقتضيات من بطلت كل صلواته، ثم جاء يوم القيامة فسئل عن الصلاة فوجدها باطلة فإلى أين مصيره؟ والأمر عينه في فتوى عالم سني متشنج ببطلان صلاة الشيعي لبطلان وضوئه أو لسجوده على تربة الحسين عليه السلام، إن هذا التشنج يكتب أولاً بسواد أقلام (العلماء) (نضعها بين قوسين تحفظا على استحقاقهم حقيقة المسمى) ثم تخضبه العامة بمحمر الدماء، ساعة تثور بالناس هيجة من هيجات الجاهلية العمياء، ولو أن العلماء والموجهين القادة يتقبلون الاختلاف من غير تشنج ولا تضخيم لانتقل هذا إلى عامة الأتباع.

  1. سرعة تصديق الموالي وسرعة تكذيب المخالف، وقبول قول الموالي حتى لو كان غير سليم ورد قول المخالف حتى لو كان سليماً، والنظر بعين الرضا للموالاة وبعين السخط للرافضين، وسرعة قبول الشائعات الإيجابية في الموالي والسلبيّة في المعادي، حتى لو كانت خرافية بل ومغرقة في الخرافة، كمثل أن يشيع فريق على آخر أن لهم عصائص وذيولا، وتشتهر الفرية اللامعقولة حتى يبلغ الحماس ببعض الناس التسلل لمواضع السباحة العامة لعله يحظى بفرصة للفرجة، أو أن يقال أن الفريق الفلاني يستحل الكذب والمخادعة، أو أن الجماعة الفلانية تستبيح اللواط في السفر مع الغلمان المرد، أو أن الفئة الفلانية لا زالت تعبد الأحجار وتصلي لها، أو أن العادة الفلانية عند الطائفة الفلانية ناجمة عن كذا وكذا عند أسلافهم، أو أن الفئة الفلانية لهم ليلة في كل عام يستبيحون فيها الزنا وتبادل الأزواج، فمن علقت تلك الليلة أنجبت مولوداً مباركاً ولقب بالسيّد ونسب إلى رسول الله، أو أن فلاناً من زعماء المذهب الفلاني كان يمارس كذا من القبائح، أو أنه قد حدث له حادث غريب فحبل وأنجب، حتى ليندهش المرء من درجة الإسفاف في كتب المذهبيين الصفراء ومنابرهم الخرقاء، ويتساءل من أين جاءت هذه العقول اليهوديّة الطابع؟ وإلاّ فمن أين يأتي أتباع القرآن الكريم والنبي الذي هو على خلق عظيم بهذه الأقوال المتناهية في السخف؟

لا بل قد يمتد السخف العقلي والمبالغة المقابلة لثلب الخصوم إلى نسب الخوارق المجنونة لمن يُوالى ويُحبُّ، كأن يُدَّعي أن فلاناً الفقيه في مذهبنا لبث في بطن أمه سبع سنين ثم وضعته، ظاناً بذلك أنه أكرمه فأخرجه من بطن أمه عالماً!! أو أنَّ المرأة الفلانية من جماعتنا رأت في المنام أنها أكلت من يد زوجها الشهيد لقمة وقال لها إنك لا تجوعين ولا تظمئين بعدها أبداً، فكانت تمكث السنة لا تأكل ولا تشرب دون أن يغير لها ذلك نضرة في وجه ولا صحة، مقدماً لعقلك ما يستدرجه للوقوع في الشرك من أن مريم أبنت عمران ( كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ)(آل عمران: من الآية37) وعليه فإن عليك أن تستلب عقلك وتصدق كل ما يقال وينسب لمجاهيل عن مجاهيل ممن حظوا بكرامات الله من أتباع مذهبك، وقبائح في أتباع مذهب غيرك، وأنت واجد من أمثال هذا الاستغفال الشيء الكثير في كتب كل المذاهب من كرامات لأوليائهم في المذهب ومثالب لأعدائهم المخالفين حتى صار هذا من سماتهم العقلية، يذكرون الافتراءات ويصدقونها ثم يكبرون الله ويحمدونه ويعظمونه بعد كل أكذوبة، مدَّعين أن هذه الكرامات هي دلائل الحق على صحة المذهب، يتساوى في ذلك كل أتباع المذاهب من المذهبيين لا فرق.

هذا النمط من التفكير بالهوى يغدو كارثياً إذا ما نشبت الفتنة، وخرج الناس من عقال عقولهم أثناء الفتن الطائفية والمذهبيّة، فكل شائعة تقال تنتشر بين الأطراف انتشار النار في الهشيم، والأعصاب حينها مشدودة والعقول منفلتة، فلا تلبث أن تتحول إلى مجازر، أو مواجهات أو مخاوف شديدة، أو غير ذلك عن مظاهر العنف والتشنج، وقد سبق وأن ذكرنا حادثة قتل في الحرب الاسبانية الأهلية انتقاماً منهم بسبب إشاعة أنهن كن يسممن الأطفال، فهاج بهن الناس فأكثروا فيهن القتل دون رويّة.

3. إجازة الكذب والافتراء على المذهب المخالف وإسقاط حرمته وإجازة غيبته، وتأصيل ذلك تشريعا من باب أن المخالف فاسق والفاسق لا غيبة له، أو من باب أن المخالف مبتدع والمبتدع يجوز بهته لتفريق الناس عن بدعته، فلا تندهش إذا قرأت أو سمعت ما يخالف الممكن أو المعقول مما يقال عن الخصوم، خاصة أيام الفتن، فالمتدينون المذهبيون أعظم الناس إثما في انتهاك حرمات الدين وأحكامه، وأعظمهم جرأة في ذلك وقد يكذب عليك في وجهك، ويدعي أنك قلت وكتبت ما يعلم أنك لم تقله ولم تكتبه، وعلى المسلم الناصح أن لا يصدق المتدينين المذهبيين في مقال لهم عن زكاة أنفسهم وأتباعهم وخبث مناوئيهم، فكل مقالة لهم في ذلك متهمة ومشكوك في ولائها للدين والحق.

3. مذهبة مصادر المعرفة والتضييق على العقل المستقل، فقد خسر المسلمون بتعصبهم للمذاهب أثمن ما كان عندهم وهو استقلال البناء المنطقي العقلاني بالحجية دون الحاجة إلى النص، خاصة في المسائل الكلية، وعلى هذا قامت كليات العقائد من الإيمان بالله، وضرورة عدالة الجزاء، والقصدية في الخلق، ومنطقية الوجود، وحجية البرهان، وترابط الدلائل، والتكليف بحسب الوسع والطاقة، وحاجة المخلوق خطّاءً غير معصوم للعفو والتوبة والإمهال والفرصة، وغير ذلك مما يثبت عقلانية الدين وعلميته، وتسليمه للبرهان،( قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (النمل:64) ، ولكنك لو رجعت لمصادر المعرفة عند المذاهب لوجدت أنها ترجع عمليا في النهاية إلى ما ارتضاه أهل ذلك المذهب من مصادر في التفسير والحديث وقواعد الأصول والرواة، وما حققه علماء المذهب من مسائل وقرروه من آراء، فصارت تتوارث جيلا من بعد جيل، فإن اجتهد مجتهد فعلى قواعد مذهبه يجتهد وفي أطره يتحرك، فلا القرآن الكريم عاد قرآنا واحدا ولا السنة النبوية سنة واحدة ولا ثقات الرجال ثقات، وكل خروج عن النسق الموروث خروج عن الدين أو المذهب إلى الكفر، مما غلّف كل فريق بحجبه الخاصة ومما قتل العلم والإبداع وحاصر التجديد ورسخ التعصب، وخلّد المذاهب الموروثة حتى بعد انتهاء مبررات وجودها.

إن التكوين العقلي عند عامة المسلمين قد بُني على التصديق والتسليم للموالي والتكذيب والمعارضة للمخالف، ولم يتأسس على قاعدة وجوب التبيّن الذي يفترض أصالة الشك في الخبر حتى يتوصل العقل فيه إلى مرحلة اليقين عبر رحلة من التفكير سماها القرآن بعملية التبين، فالتبين هو عملية يبلغ بها المرء موقفا محددا من الخبر، بدءا من السلب الإيجابي وبلوغا إلى القبول الإيجابي أو الرفض السلبي ، أي البلوغ إلى حالة من حالتي اليقين إما الرفض اليقيني أو القبول اليقيني، فعلى الرغم من أن مبدأ التبيّن هو مبدأ إسلامي حاكم، إلاّ أن المسلمين لما قصروا فهمه على موضع واحد في القرآن وهو، إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أمكن من استغفال عقلهم إن كان هذا الناقل ثقة، والناقل الثقة أو العدل كان من مقاتل الفكر الإسلامي، خاصة إذا ما علمنا أنه موقف تقديري و أن لكل ثقة ثقة، وهكذا ودون النظر في أصل إمكانية المنقول وعقلانيته، يتسرب لفكرنا الكثير من الخرافات والأكاذيب والتهويلات والكرامات والمعاجز والأخبار الملفقة، حيث ترى أن الكثير من الأحكام تعتمد فقط على شهادة الشهود، والخبر يقبل من الواحد إذا لم يكن له مخالف، ولم يجعل متن الخبر شريكاً للقبول العقلي، وهذا صحيح في بعض المواضع لأن في الركون الكلي لاعتماد الخبر على صحة المتن تجعل ممكناً رفض العديد من الأخبار لمجرد عدم تعقلها من السامع وعدم إدراك وجهها المعقول، إلاّ أن سيادة هذا النمط في الفكر الإسلامي أورث العقل الديني المسلم استسلاماً تراه متجلياً في أغلب رجال الدين والمتعلمين المثقفين على هذا النسق، وبالطبع فهو أكثر تجلياً عند عامة المسلمين المتدينين، وربما تجد عقول المتمردين أكثر بصيرة بلاعقلانية بعض الأخبار سواءً كانوا من المثقفين أو العامة.

هذا التكوين العقلي المستسلم المصدق غير المتبين هو أحد مركبات العقل المتعصب تجاه الآخر، لأنه لا يخرج من صندوقه، ويحيط به كهفه فلا يرى الحق إلاّ معه والباطل إلاّ مع غيره، وتكبر في نظره الجزئيات لتعلو على الكليات، وتتضخم الفوارق لتصبح الدين كله، والكل مصاب بدرجة ما من هذا المرض، فلو سألت المسلم عن النصرانية واليهودية لما جعل لهما من الحق حظاً مع أنهما يشتركان مع الإسلام في الجذر الأعظم من العقيدة المتمثل في عقلانية الوجود وأنه مخلوق لخالق واحد ولهدف والإنسان فيه مستخلف للقيام بالعمارة وأنه يجب عليه أن يظل متصلاً بخالقه عبر الأنبياء والكتب السماوية وسينال المحسن إحساناًً والمسيء عقاباً، هذا هو الجذر الأعظم للدين كله وهو مشترك بين الأديان السماوية ولكنهم ينظرون فقط إلى ما اختلفوا فيه، ومذاهب المسلمين كلها مشتركة على أن نبيهم آخر الأنبياء وأن القرآن الكريم كتابه الذي أنزل عليه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وأنه أوصاهم بعمل الصالحات واجتناب السيئات وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت، ولكنهم وكأن اتفاقهم جميعاً على القرآن ليس كافياً لتكوين أمة وثقافة وهو مشحون بهما، ذهبوا يبحثون في نقاط اختلافهم في فهم الصفات والقدر والإمامة وفروع النصوص حتى عظمت في أعينهم وصادرت القرآن نفسه من عقولهم وقلوبهم فأتبعوا القرآن لأهوائهم ولم يجعلوه إماماً يقتدون بهديه، تقدموا عليه ولم يقدموه وإنما كل فريق يستل منه ما يخدم مذهبه.

ولما عظم عندهم ما كونوه ورسموه بأنفسهم، صارت حميتهم لأجله، وولاؤهم له، أكثر من حميتهم لجامع الدين والقرآن، فمهما يتكلم متكلم، أو يجتهد مجتهد بما يخالف شيئاً من رسومهم المذهبيّة، حسبوه قاصداً به رمايتهم وأنه سهم مفوض لأعناقهم, فتثور الثائرات، فقد مُسَّ قدس الأقداس، فالقيام القيام، النفرة النفرة، الجهاد الجهاد، ولن ينفعه أن يقسم بالغليظ من الأيمان، أنه ما قصد رميتهم، وما رام مهاجمتهم، ولم يكن ذلك يدور في خلده، وإنما فكرة وجدها صحيحة فقالها، وعقدة وجدها منعقدة فحلها، فحتى لو كان الحق في كلامه ظاهراً فلن يقبل منه، ولك فيما جرى ويجري على المفكرين من صنوف القهر إذا ما خالفوا رسوم المذاهب من نكال وسب وتشهير خير دليل.

فإذا ما كان هذا هو البناء العقلي والبناء النفسي العاطفي لنا، فهل نحن قادرون على مواجهة مكائد الأحداث وأحابيل الأعداء ومنعها من إثارة الحروب والخصومات بيننا، فنحن قماش مثقب فكيف يصمد لضربات لا تصمد لها الجدر المحصنة؟ فما أسهل على الأعداء أن يدخلوا علينا والحال هذه من كل ثغرة مهملة، أو نقطة ضعف مغرية، وسننا المروية وكتبنا المحبرة وعقولنا الأسيرة مليئة بأمثال هذه الثغرات ونقاط الضعف، وما أسهل أن توظف الأحداث سياسياً أو مذهبيّاً ويضغط بها في اتجاه التعبئة الطائفية، فانظر مثلاً لحدثين سيطرا على مشاعر الناس واهتمامهم وأثارا صخباً كثيراً، وأشعلا من نيران المذهبيّة والطائفية بين الشيعة والسنة في أعوامنا هذه 2006 و2007 فإعدام الرئيس العراقي السابق صدام حسين وظف توظيفاً طائفياً من قبل السنة وقوبل بنفس الرد من قبل الشيعة أو لنقل تجافياً للتعميم من بعض السنة وبعض الشيعة، علماء دين ودكاترة وعوام، فصورته وسائل الإعلام على أنه انتقام شيعي من رجل سني، وتجاهل الجميع حقائق يعرفونها جميعاً، من أن صدام حسين لم يكن يعيش الحياة من كونه سنياً بل كان قائداً علمانياً بعثياً لا يؤمن بالمذاهب ويرى الإسلام رؤية بعثية قومية، ويتعامل في الدين كأي سياسي عرفه التاريخ كالاسكندر المقدوني ونابليون بونابرت الذي ادعى الإسلام حينما غزا مصر حيث كان ذلك له مفيدا،، وهذا لا يعني أن صدام كان ينكر أنه مسلم أو أنه رجل لا حسنة فيه، ولكن الدين والمذهب لم يكونا من مكونات فكره وقراره، فهو عند نفسه قائد ينتمي لحزب البعث العربي الاشتراكي وأنه عربي من عشائر آل بو فلاح، وعلى أساس من هذين الإنتمائين كان يتصرف، همه الأول والأخير نفسه وعرشه وعشيرته وأتباعه، فعل في سبيلهما ما لا يحصيه إلاّ الله من الجرائم الكبرى، يعلم عنه هذا القاصي والداني السني والشيعي، هكذا إلى ما قبل سقوط نظام حكمه على يد الأمريكان وحلول قوى سياسية أخرى محله، وانقسام العراقيين حول التعامل مع الأمريكي المحتل إلى قسمين أساسيين معارض وموالي، وكان الفريق المعارض يتكون أساساً من مجموعات سياسية سنية المذهب، ومجموعة مهمة من الشيعة وهم أنصار مقتدى الصدر، وجماعات عربية وقومية وسلفية أخرى، والفريق الموالي يتكون من فريق كبير من الأحزاب شيعية المذهب وأخرى كبيرة أيضاً سنية المذهب وأحزاب ليبرالية عربية وكردية، فالانقسام إذاً لا يمكن أن نسميه بأية حال من الأحوال أنه سني معارض وشيعي موالي، وظل الأمر كذلك مدة من الزمن تتسمى الأحزاب بأسمائها ثم لما ظهر التطرف السلفي التكفيري في العراق تمكن من زرع بذور الفتنة الطائفية، ولما احتاج الأمريكان لهذه الفتنة لضرب إيران قامت حملات إعلامية مركزة وموجهة ومستمرة تستغل كل محفل وكل محطة فضائية بعضها متعاون وعميل والآخر وجد نفسه مضطراً لخوض الموضوع لما صار موضع اهتمام الناس، فدارت العجلة وإذا بالمسلمين على أبواب حرب أهلية مذهبيّة، تنتقل نارها من موقع إلى موقع، وانشغل الناس عن أمريكا بأنفسهم وتهيأت لها نفوس العرب لضرب إيران والمقاومة في لبنان، هكذا في مدة بسيطة أمكن بناؤنا العقلي والعاطفي الهش عدونا من اختراقنا، لدرجة أنه لم تعد تنفع في الناس موعظة الواعظين ولا حديث الناصحين، فهم في الفتنة كالسيل الجارف، وصدق من قال الفتنة إذا أقبلت أعمت عين البصير وإذا أدبرت أبصرها الجاهل، وليس المستهجن هنا أن يساند صدام من يريد مساندته فهذا أمر واقعي فللرجل حزب ورجال كثيرون، ومن الطبيعي أن يساندوا قائدهم وحزبهم وابن عشيرتهم، ولكن المستهجن أن ينصر صدام باسم الدين والتسنن، حتى لم يبق إلا أن يصرخ المذهبيون على قتله واسنتاه! وعلى من؟ على رجل سامهم الخسف وطحنهم في حروبه الحزبية والمزاجية، هذا أمر إذا جاملنا فيه نكون قد ارتكبنا جريمة في حق ديننا وأمتنا عامة، وفي حق المذهب السني خاصة، فكأنه لا يكفي التسنن ما فعل به الطواغيت عبر تاريخ الأمة من تشويه حتى نبتليه بمثل صدام والحجاج..

ومثالنا الآخر المتزامن معه والمرتبط به مسألة الموالاة والمعارضة في لبنان حيث يتكون كل فريق من أحزاب متعددة تشمل كل مكونات لبنان من الأحزاب التي يغلب على كل واحد منها لون طائفي محدد، ففي الموالاة نجد أحزاباً سنية ودرزية ومسيحية وليبرالية وفي المعارضة نجد أحزاباً شيعية ودرزية ومسيحيّة وليبرالية، وكلها أحزاب أصيلة ومحترمة وذات قاعدة شعبية حقيقية، ولكن لما كان الغرض الأمريكي في أيامنا هذه هو ضرب إيران بالدرجة الأولى أو قطع يدها عن التدخل في العراق ولبنان في معارضة للمشروع الأمريكي، فعليه لا بد من تصوير الاختلاف اللبناني على أنه انقسام مذهبي بل سني شيعي تحديدا ليتفرق السنة العرب عن مساندة المقاومة اللبنانية وعن التعاطف معها في دحرها لإسرائيل، وتجاوب هذا مع النفوس المريضة من السنة والشيعة فتوهموا أن الناس في فلسطين والدول العربيّة ستغير مذهبها للتشيع إذا انتصر حزب الله الشيعي على إسرائيل، فحزن السني لهذا الوهم وفرح الشيعي له، مع أنه ماثل أمام ناظرهما أن التعاون قائم بين حركة حماس السنية تحت قيادة حركة الأخوان المسلمين والذين يستحيل على أحد أن يشكك في صدق تسننهم واعتزازهم بمذهبهم وثقافتهم، وبين حزب الله الشيعي المعتز بتشيعه وأمريكا تتهم إيران بتسريب السلاح والمال لهما وللعراق أيضاً، لم تميز بين فعل وفعل ولا يهمها مذهب من ذهب له السلاح والمال وإنما موقفه السياسي منها ومن اسرائيل ومن أصدقائها في المنطقة، وكل هذا يعلمه الجميع فلا نكشف سرا ولا سترا، ولكن القلوب عمياء والآذان صماء، والفتنة تعم وتنتشر، ليس لأن دلائل الصواب غائبة ولكن لأن تكويننا العقلي والعاطفي غير سليم حتى في حالات الرخاء، فما بالك به في حالة الشدائد والهزاهز، إننا الأوس والخزرج ما أن تلا عليهم اليهودي أشعارهم أيام حربهم الجاهلية حتى تناهضوا لمقابض السيوف وغاب عقلهم عن مبادئهم العظيمة، إننا نتقاتل من أجل قضية موهومة، والمتهم فيها غير قادر على فعل شيء يذكر، والناس ستظل في مجمل تكوينها الديني والمذهبي على ما هي عليه، وسيظل هناك من الناس من يتشيع ويتسنن، ومن يتحول للنصرانية ومن يتحول للإسلام، دون أن يؤثر هذا على البناء العام للأديان والمذاهب، فمن قلة العقل أن يتقاتل أخوان على إرث وهو مغتصب من عدوهما!.

شارك بتعليقك

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني.