الحلقة السادسة: بين مخافتين القمع والتفرق

حلقة 6

يقع الباحث عن سبيل سوي للتعامل مع اختلاف الناس طوائف ومذاهب بين مخافتين، مخافة القمع والاستبداد، ومخافة الانشقاق والتمزق، فإن مَنَعَ الاختلاف المذهبي وَقَعَ في الاستبداد، وإن أذن تسبب في تفرق المجتمع طوائف ومذاهب.

ومما لا شك فيه أن وحدة الناس/ الأمة/ الشعب/ الوطن/ على أمر جامع في كل شيء، أو في كل شيء هام على الأقل، هو حلم ذهبي، وأمل ظل مطمعاً إنسانياً ولا يزال، ولكنه ظل دائماً ممتنعاً ومستحيلاً، فإن حدث لأمة ما، فلفترة، ثم لا يلبث الناس يختلفون.

إن الإنسانية وأمام هذا التردد بين التوحد المأمول والمترائي بالإمكان، وبين الواقع الذي لا ينفك يثبت لنا أنه مستحيل، وإن تراءى فكالسراب، لا يلبث أن يزول، ظلت تترد في تاريخها بين طلب الوحدة ولو بالتعصب وبين التسليم لحقيقة الاختلاف ولو باليأس من سواه.

تاريخ الوعي الإنساني يدون هذا في السياسة والمجتمع، فطوراً كان يطلب الوحدة ويعذب على الاختلاف، ويعتبره عامل فرقة وتمزق، أو سبب تلوث وانحراف، وتارة أخرى يستسلم للطبيعة فيقر الاختلاف ويشرع له، فالذين تتبعوا تاريخ الأديان وعلاقاتها مع الدول وأنظمة الحكم منذ العهود القديمة، رصدوا تقلبات السياسة مع الأديان والمذاهب، فتارة الدولة حرب على أهل دين أو مذهب ما من المذاهب المخالفة لدين الدولة الرسمي، وتارة نفتح أمامها أبواب الخصوصية التعبدية والتشريعيّة، لا بل تزيد فتجعل للطائفة أو المذهب المختلف محاكمه الخاصة، وتقيم على أهله حَكَمَاً من أهله يكون هو وجهها ووجيهها عند الدولة، مثال على ذلك حال اليهود في الدولة الفارسية، فبينما هم سبي يساقون بالمذلة، فإذا هم أقلية معترف بها وبخصوصيتها، تتكفل الدولة بحمايتهم وإعادة ما تهدم من معابدهم أيام قورش، وكذلك الحال بالنسبة لهم في الدولة الرومانية، فطوراً تحتقرهم الدولة وتنظر إليهم كعنصر نشاز في المجتمع، وطوراً تعترف بخصوصيتهم وتجيز شرعتهم الخاصة بهم، وكذلك الحال بالنسبة للنصارى في الدولة الرومانية، فبينما كانوا يعذبون وينفون ويحتقرون، فإذا قد تبدل بهم الحال إلى الدرجة التي تتبنى فيها الدولة دينهم، وبينما هم مضطهدون من الدولة واليهود فإذاهم يضطهدون اليهود لما آل لهم السلطان، وبينما كانوا يطلبون الاعتراف بخصوصيتهم فإذا هم ينكرون على كل الآخر خصوصيته ويفرضون الإيمان قهراً.

وعند المسلمين كان الأصل في الدين الاعتراف لأهل الكتاب بخصوصيتهم والإقرار لهم بشريعتهم، بل وفتح أبواب المخالطة بالزواج والمطاعمة معهم وإن من جهة واحدة على الأقل ( التزوج لا التزويج )، وبه عاش أهل الكتاب حياة هادئة مستقرة وإن كانوا من الدرجة الثانية، ولكنه كان عرضاً ممتازاً بالنسبة لهم كأقلية، فأعفوا من الحرب وفرضت عليهم ضريبة غير دينية، وسمح لهم بالبقاء على كل خصوصياتهم، إلاّ أنهم كذلك تعرضوا في فترات لأمزجة الحكام، وكانت هذه الخصوصية وبالا عليهم أحياناً ففرض عليهم نمط خاص من اللباس، وقواعد خاصة في اللياقة، وكانت أحياناً توضع لصالحهم فلا تلبث أن تكون وبالاً عليهم1

الخصوصية سيف ذو حدين:

إن الموقف من خصوصية الأديان والمذاهب المخالفة للدولة هو سيف ذو حدين، ففي البداية يكون الأمر حسناً، لما فيه من إعطاء الحق للإنسان في اختيار دينه وعقيدته وشريعته الخاصة، ولكن لا يلبث الأمر أن يركز الفارق والمائز لهذه الطائفة أو تلك عن سائر أبناء المجتمع، أو يميز كل طائفة عن الأخرى بجدر الخصوصية، فيرسم الواقع خطوطاً حقيقية تفصل بين هذه المذاهب والطوائف قد تبدأ سلمية ومعترفاً بها عرفاً، ولكنها لا تلبث طويلاً حتى تحتمل بإمكانية الانقسام والحرب الأهلية كلما توافرت عوامل تمييزية سياسية واقتصادية داخلية أو خارجية، فكلما بالغ اليهود عبر تاريخهم في الحفاظ على خصوصيتهم الدينية، تولدت منها خصوصيات تشريعية وسلوكية واجتماعية، تجعلهم في نظر الآخرين غرباء، حتى يعزو بعض المؤرخين ما عُرف بظاهرة اللاسامية لحرص اليهود الشديد على الخصوصية عبر تاريخهم الطويل، ينقل جورج قرم عن مرسيل سيمون قوله بحكم من أن اليهود يعيشون على حدة، بلا اتصال حميم مع الوثنيين المجاورين لهم، يشدهم إلى بعضهم بعضاً التقيد بتعاليم وطقوس قد يعسر أحياناً على الأجانب فهمها، فإنهم يعرضون أنفسهم لجميع الاتهامات التي يصوغها خبث الجمهور بحق المجتمعات المغلقة، وكان عدم مشاركة المسيحيين للملوك الرومان الوثنيين في طقوسهم العبادية دليلاً عند الأباطرة على تمرد سياسي مما عرَّضهم لقمع الدولة2

ومن القرآن الكريم يمكن استعراض بني إسرائيل كشعب مختلف الدين والعقيدة عاش تحت سلطة دولة مصر الفرعونية في اليمن القديم، ففي عهد فرعون يوسف الريان بن الوليد حظي بنو إسرائيل من خلال يوسف بمعاملة خاصة أقرَّت لهم بخصوصيتهم الدينية دون أن تكون تلك الخصوصية سبباً في عزلهم واحتقارهم، لأنها كانت ثمرة مبادرة يوسف ( ع ) في حماية المصريين من هلاك شامل، أقرَّت له الدولة والمجتمع بفضله، ولكن إلى حين، فما لبثت السنون حين تطاولت حتى نسي المصريون يوسف وفضله، وعادت الأمور إلى طبيعتها، فاستعبدوا بني إسرائيل، وما أن بلغ الحال عهد فرعون موسى، حتى كان يذبِّح أبناءهم ويستحيي نساءهم، فكان يُعبّد بني إسرائيل.

إن الطريق للتعامل مع الخصوصيات الطائفية والمذهبيّة ليس بالأمر الهين، وهو طريق كالصراط يمينه مهلكة ويساره مهلكة، مع دقته وحدته، فإن منعنا الخصوصية سقطنا في الاستبداد، الذي هو مفتاح كل شر، ومعبر نحو دمار المجتمع وتمزقه، وإن سمحنا بها دون دليل وهدى، شقَّت فواصل وصدوعاً بين المذاهب والطوائف المختلفة في المجتمع الواحد.

في الدول القديمة كان الحال يتوقف على رأي النخبة الحاكمة، من الإمبراطور وخاصته فهي التي تقرر وفق ما تراه مناسباً لمصالحها ساعتها، هل ستسمح أو ستمنع الآخر المختلف، فبعضهم كان يسمح حتى لمجرد الفخر بأن مملكته تضم أشتاتاً من الأعراق والأديان، وأنه كما الرب في السماء، رب في الأرض للأحمر والأصفر المؤمن بدينه والمؤمن بسواه، وبعضهم يضيق به أن يجد مخالفاً له فيسير على ضلال فرعون (قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) (الشعراء:29) وبعضها كان يفرض دين قومه على غيرهم، ولكن عقبة الأديان عقبة كأداء، تضطر الجبابرة كثيراً للتسليم باستحالة المواصلة في القتل والتعذيب للآخر المختلف الذي يُبدي إصراراً على التمسك بخصوصيته مهما كانت التضحيات، وهكذا كان الحال قديماً في صعود وهبوط.

وأما الدولة الحديثة التي نشأت في أوروبا على أنقاض سقوط سلطة الكنيسة، والتي فصلت بين الدين والدولة وأقامت الدولة العلمانية، وحوَّلت فقهيا الدولة إلى أمة واحدة، مهما كانت متعددة الأعراق والطوائف، وابتكرت مفهوم المواطنة كانتماء بديل عن الانتماء الديني والعرقي والمذهبي، واستبدلت الشريعة الدينية بشريعة الدستور والقوانين المتفرعة عنه، وسلبت حق التشريع من يد رجال الدين والأباطرة، فجعلته حقاً محصوراً في البرلمان الممثل لإرادة الشعب، هذه الدولة الحديثة وجدت نفسها وجهاً لوجه أمام الخصوصيات الدينية والمذهبيّة، فبعض منها أقرّ بالخصوصيات في حدود الشئون الشخصية من عبادة وزواج ولو بمقدار، وبعض آخر أصر عل النقاء العلماني، وفرض شريعة البرلمان على سائر الأديان والمذاهب والأعراق، فلم يأذن حتى بالمحاكم الشرعية الشخصية، وفرض شرعته في الزواج والإرث وغيره، وعزل الشأن التعبدي عن الدولة: وبالتالي حاولت الدولة الحديثة الخروج عن نطاق الخصوصية الدينية والمذهبية بفرض الأمة الوطن وبفرض شرعة الدستور والقانون العلماني شرعة جامعة للجميع.

نجحت الدولة العلمانية في أوروبا وفي سائر الدول التي تخلت شعوبها عن شريعة دينها أو لم تكن لها شريعة من الأصل، في فصل الدين عن الدولة، وفي إلغاء الشريعة الدينية واستبدالها بشريعة القانون البرلماني، فالأوربيون هم كشعوب من أسقط سلطة الكنيسة، بعدما كفروا بها وبسلطانها، فالعلمانية الأوربيّة قامت على أرضية شعبيّة ونخبوية في آن، والجغرافيا السياسية الأوربيّة قد وطأتها الدولة القومية لاستقبال الدولة العلمانية، فأكبر الدول وأكثرها هي من قومية واحدة وثقافة واحدة كفرت بالكنيسة، فسهل استقبالها للدولة العلمانية.

ولكن المسألة لم تكن ناجحة في دول البلقان، حيث تضم الدولة قوميات وأديانا مختلفة، ولهذا كانت البلقان كمثل العناصر القلقة إشعاعيا في أوروبا، لا تلبث أن تتولد عنها انفجارات مدوية، وكذلك الحال في الاتحاد السوفيتي، فمع تطرفه العلماني إلاّ أنه لم يتمكن عبر نظامه السياسي من الدمج الواقعي بين مختلف مكونات شعوبه وأديانها، فكانت الهيمنة طوال عهده للشعب الروسي، فهم القادة والعلماء والأساتذة، ولم يتمخض بعد سبعين سنة من التوحيد القهري العلماني إلاّ عن شعوب أسلامية متخلفة كمثيلاتها في الشرق، فكانت كل الشعوب المسيحية حتى غير الروسية أكثر تقدماً من كل الشعوب الإسلامية والأعراق غير الأوربية، مما يدلل على قشرية المبادئ المعلنة، وبقاء الدوافع العرقية والدينية فاعلة في ترسيخ التمييز العرقي والديني، حتى في أحضان الشيوعية، الوجه الأكثر تطرفاً في العلمانية.

أما أوروبا الغربيّة والولايات المتحدة وكندا واستراليا، فقد تكشفت مع حرب الإرهاب، الأرضية العنصرية والدينية، التي لا تزال تدير موجهات السياسة والمجتمع عند كثيرين، ولم تتمكن العلمانية من بتر جذور الولاء الديني والعرقي في نفوس القوي الفاعلة في السياسية والاجتماع ، والمكابر في هذا لا يريد أن يرى إلاّ ما يريد.

فالذي نستنتجه من هذا أن دين الوطنية، والدولة الأمة، والشريعة الدستورية، لم تتمكن من الحلول بديلاً عن الدين، بل ظل الدين مؤثراً ولو من الباطن في أناس العلمانية نفسها، وعليه فإن من الأجدر والأسلم التعامل مع هذا الأمر بشفافية، والبحث عن طريق للحل لا يستبيح الاستبداد الديني أو العلماني أو القومي، ولا يسمح للخصوصية أن تخلق فواصل وحواجز بين الناس، فهل من سبيل إلى ذلك؟

ينبغي الإقرار بداية، أنه لا يوجد نظام قادر على إبقاء الطوائف دون طائفية، والمذاهب دون مذهبيّة، دون أن يترسخ الإيمان بذلك عند عامة الجمهور، بحيث تصبح عنده هذه الأمور مما يستقبح ويستهجن، تماماً كما أصبح الحال عند شعوب أوروبا بالنسبة لتحكم الكنيسة في الدولة، أما إذا ظل الناس في دخيلتهم يرونها جمالاً وحقاً وأخلاقاً، فإن القوانين لن تجدي شيئاً، فلا بد من حسن التربية على احترام الآخر، والتسامح معه، واعتباره كفؤاً في الإنسانية التي يجب أن تكرم.

ثم لا بد من القيام بغرز الوعي الديني الإسلامي الصحيح ليكون في الناس سجيةً، أن منهج الإسلام يقوم على إعطاء الأديان والمذاهب حقها في الاختلاف ضمن الأديان السماوية على الأقل، أو ضمن منهاج الجدال بالتي هي أحسن مع كل مختلف، ذلك أن الدين في النفوس أقوى وأثبت من الدستور والقانون، ووجوده راسخ في العقل والضمير، فإذا اعتقد المسلم أن أهل الكتاب ليس لهم إلاّ الصغار، وأن أصحاب المذاهب الإسلامية ما هم إلاّ أصحاب بدع في الدين، كما هو الحال عند الكثيرين، فلن يتوقفوا عن إثارة الخلاف والتوتر إلاّ مادام القانون عليهم قائماً.

بعد هذا فإن من الحق أن نقول، بأن النظام الديمقراطي في الحكم، هو أفضل النظم السياسية، التي يمكن من خلالها تفعيل دور الرقابة على بؤر المدد الطائفي والمذهبي نحو التصدع، وكذلك حفظ الخصوصية لمختلف الفئات الدينية العرقية، ذلك أنه النظام الوحيد الذي يوفر نظاماً للرقابة مستقلاً عن الجهاز التنفيذي، فيمكن مع الرقابة الحثيثة رصد معالم الخطر والانحراف، بالطوائف نحو الطائفية، والمذاهب نحو المذهبية، وكذلك منع الدولة العلمانية الدستورية من التحول إلى عقيدة شمولية، فوق عقائد المجتمع، والهيمنة عليه في كل شأن خاص أو عام.

إن استمرارية الرقابة الفطنة في رصد كل معالم الانحراف، في ظل نظام ديمقراطي رشيد، وتحت مظلة من وعي ديني صحيح ومعتدل، هي السبيل الأمثل لتجنب أخطار الطائفية المذهبية وكذلك لتجنب أخطار الاستبداد المذهبي والطائفي.

إن الإقرار القانوني بتنظيم حقوق خاصة لطائفة ما أو مذهب ما في المجتمع، ينبغي أن لا يعتبر حالة مستدامة، وإنما هي بمثابة حالة طوارئ لحفظ الآخر، فالمذهب أو الطائفة التي نخشى أنه ولظروف ما، غير سويّة، قد يتعرض فيها هذا الطرف أو ذاك، لعمليات جور واعتداء ومحاصرة، بسبب مذهبه وعقيدته، فإننا يجب أن نتدارك الأمر بعمل ما يعمل عند حالة الخوف، بتفعيل قوانين الطوارئ، فقد نفرض لها ( الطائفة ) عدداً من المقاعد أو المناصب في الدولة، ونفتح لأفرادها مزيداً من الفرص في التعليم والبعثات، والدعم المالي أو العمراني والجغرافي، والقيام ببرامج مقصودة ومنظمة لزيادة عملية الدمج والتداخل، من مثل تشجيع المصاهرة المختلطة، أو المساكنة المختلطة، التماساً لزيادة اللحمة والالتحام بينهم وبين الآخرين، حتى تعود الأمور إلى طبيعتها السوية في عدم الالتفات للاختلافات المذهبية كعناصر ذات بال في تمييز الناس في الحقوق و الواجبات.

أما أن نعتبر حالة الاختلاف الطائفي أو المذهبي، حالة تحتاج على الدوام لقوانين وتشريعات دائمة، تتعامل معها على أنها هي الطبيعة، فإننا بهذا لا نفعل شيئاً سوى تعميق الشروخ بين الناس، على أساس طوائفهم أو مذاهبهم، مثلما تتحول حالات الطوارئ الشاذة في الدول الأمنية لتصبح هي الطبيعة.

حينما جاء النبي محمد (ص) لمجتمع الجزيرة العربيّة، وجده مريضاً بالعصبيات القبلية والدينية والطبقية، فأراد أن يضرب من نفسه مثلاً أخلاقياً للجميع، فطبقياً تزوج من الموالي ماريه الأمة وزوج زينب الحرة العربية لمولاه زيد، وقبليّاً تزوج من قريش من عدة أبطن منها، وتزوج من خارج قريش، ففي المبسوط قال أبو عبيدة معمر بن المثنى: جملة من تزوج النبي (ص) ثماني عشرة امرأة، سبعاً من قريش وواحدة من حلفائهم، وتسعاً من سائر القبائل، وواحدة من بني إسرائيل، واتخذ من الإماء ثلاثاً أعجميتين وعربية، واعتق العربيّة واستولد إحدى العجميتين.3

فانظر إلى هذه التوليفة المقصودة منه (ص)، والتي ساوى فيها بين القرشيات وسائر العربيات من غير قريش، وبينهن والموالي، وبين العرب والأعاجم، وبين المسلمات والكتابيات تحت مظلته، فحفظ بذلك الحق الأول للجميع وهو الوجود والمكافاة سواسية، وما كان له غرض شخصي منهن، فقد ظل طيلة شبابه وقبل بعثته- وكان حينها أكثر تفرغاً- على زوجة واحدة تكبره بستة عشر عاماً، وكان يفارقها في الأسفار الطويلة ثم في أيام عزلته واعتكافه في حراء، ولكنه بزواجه هذا حفظ لأهل الكتاب موقعهم وفرض عملياً جواز مخالطتهم بالزواج وما دونه، وكذلك الأمر بالنسبة للموالي وللعرب من غير قريش.

ولكن لم يكن مراده أن يظل الأمر كما كان، بل لتزول مشاعر الفرقة والتميز بينهم بوجود الانتماءات المختلفة في العرق أو الدين أو الطبقة، فكذلك الحال ينبغي أن يكون مع الطائفية والمذهبية، نثبتها قانوناً إذا كان هناك جور من فئة على أخرى وتطاول يريد إزالة الآخر المختلف، ونمحو ميزاتها بالتربية والتعليم، ليعود الناس لا يرون في هذا الاختلاف ما يمثل عامل افتراق أو وحدة.

فمثلاً لو كان المجتمع مكوناً من طائفتين سنية وشيعية كما هو الحال في البحرين، فإذا كانت الفرص متاحة للجميع، في العمل والتجارة والسياسة، وكانت المناصب الإدارية والسياسية والاقتصادية تتداول وتتداخل بحسب الكفاءة، لا ينظر في أمرها لعرق أو مذهب أو طائفة، وكانت الزيجات ومناطق السكن متداخلة، وكان وجود الآخر يُعد في عرف الجميع أمراً طبيعياً لا تترتب عليه أمور دنيوية ولا قانونية، ففي مثل هذا الوضع لا يوجد مبرر للتفكير في تقنين حالة طوارئ مذهبية أو طائفية، أما إذا كان الأمر على العكس في كل ذلك أو أكثره فإن الأمر يتطلب برنامجاً طارئاً تشريعيّاً وسياسياً وتربوياً يتعامل مع حالة بغي الفئات على بعضها.

إن المذهبيّة الدينية إن جازت في الشرع والدين فلأجل أن يتربى الناس على تعلم محبة الآخر المختلف، والتعايش معه بسلام، ذلك أن الناس إذا لم تبتل بوجود المختلف المخالف، فإنها لا تتعلم التسامح، وتظن نفسها أنها الحق كله، فتصاب بالتعصب وكراهية الآخر، ولكنها إذا ابتليت بالآخر هذا، وكان عليها في دينها أن توقره وتحفظ له حقوقه، بما أنه مشترك معها في الدين أو في قواعد الإيمان أو في الإنسانية أو في الجوار أو في الذمام، وهي كلها أمور لها حقوقها المقدسة في الدين، فإنها بذلك تتعلم المخالطة والمشاركة والتسامح، لاحظ ذلك في الشعوب التي اختلطت مع الغرباء المختلفين تجدها تفترق عن تلك الشعوب التي عاشت منعزلة منفردة.

لقد حرص الإسلام على بناء الأمة الإسلامية مؤمنة بالمختلف معها دون حرب، فقرر أن كل الاختلاف في القوميات والألوان والألسن هي آيات ربانية غرضها فتح أبواب التعارف، وأن كل مختلف في الدين السماوي له الحق في التمسك بدينه، ووجهه لتصحيح ما فسد منه على يديها ولكن دون أن يكرهه عليه، وأجل الفصل بالحق ليكون بين يديه في يوم الحساب، وجعل الجدال بالتي هي أحسن الوسيلة الوحيدة في الدعوة دون العدوان، ولم يفتح العدوان إلا لرد العدوان، ثم جعل الأكرم على الله هو الأتقى، ومن يفعل خيرا من ذكر أو أنثى فلن يكفره.

لقد أذن الدين بالبقاء لأهل الكتاب كافة يهوداً ونصارى ومجوساً وصائبة، وهذه هي كل الأديان في منطقة المسلمين يومها، وأذن في إجارة غيرهم من عبده الأوثان واللادينيين، وإيوائهم حتى يبلغوا مأمنهم، ونهى مطلقاً عن إكراه أحدٍ في دينه، وأمر بالبقاء في التعامل بالتزام الحوار والجدال بالتي هي أحسن، وحظر عليهم العدوان على الآخرين ممن لم يقاتلوهم في الدين أو يخرجوهم من أوطانهم أو يظاهروا عدوهم عليهم، ولسنا ندري كيف يتهم الإسلام بالإرهاب بعد كل هذه الأصول المؤصلة في القرآن، ولسنا ندري كيف يجوّز مسلم لنفسه العدوان على الآخر المختلف بعد كل هذا.

لقد وبخ القرآن الكريم اليهود، وقال لهم ( أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ )(البقرة: من الآية85) وذلك أنه قد أخذ عليهم الميثاق ألا يقتلوا أنفسهم ولا يسفكوا دماءهم ولا يخرجوا أنفسهم من ديارهم.

فكانت اليهود تخالف ميثاق الله عليهم في أنفسهم، فقتلوا بعضهم بعضاً، وسفكوا دماء بعضهم وأخرجوا قسماً منهم من ديارهم، ولكنهم إن وقع اليهودي أسيرا عند عدو لبني إسرائيل فادوه بالمال وفكوا إساره، وكأنهم لم يخرجوه هم من دياره وأرضه ولم يسهموا في تشتيته، فكانوا بذلك كمن يؤمن ببعض الكتاب وهو الأمر بالمفاداة ويكفرون ببعض وهو عدم القتل والسفك والإخراج، وهذا غاية الاستخفاف بالدين، بل هو أعظم من استخفاف الكافر بالدين على الكلية، لأن الكافر غير مؤمن بالدين فلا يعود مستغرباً منه عدم التقيد به، أما الحال هنا فهو من الاستخفاف الصريح حيث يؤمن ببعض ويكفر ببعض وكأن أمر الدين مجعول تحت إرادته وتصرفه، فكان أن أصابتهم السنة المقدرة على من يفعل ذلك، ألا وهي الخزي الدنيوي بالوقوع تحت ظلم الجبابرة أو الاشتغال في أعمال السخرة والعبودية والوقوع تحت المزدرين.

وهذه سنة الله في عباده، لا تختص باليهود حتى بأمن منها المسلمون، الذين أخذ عليهم نفس الميثاق وأشد منه، فجعلت حرمة المؤمن منهم عليهم كأشد من حرمة الكعبة، واعتبرت غيبة أحدهم من المحرمات الكبائر الموبقات، وعوقب البهتان بالجلد الشديد، وحرمت عليهم أنفسهم وأعراضهم وأموالهم، وأوجب عليهم قتال الباغي منهم حتى يفيء إلى الحق، فالميثاق بين المسلمين أغلظ وثاقاً من ميثاق اليهود، فهل نفع هذا مع المسلمين كما لم ينفع مع اليهود؟ كلا وألف كلا فقد دخل المسلمون في كل ما دخل فيه اليهود، من سفك الدماء واستباحة الأعراض والأموال، والإخراج من الديار بالظلم والجور.

وأبلغ دليل على ذلك وأنه امتد لدهور متطاولة الواقع المعاش، إضافة لخارطة الوجود الديمغرافي للطوائف والمذاهب، والواقع السياسي، والعاديات الثقافية الباقية، فمن ناحية الجغرافية تجد المذاهب غير الرسمية تقع دائماً في الأطراف بعيداً عن المركز، حتى إذا ما تمكنت وسيطرت تحولت هي إلى المركز الأساسي أو الإقليمي وأقصت سواها إلى الأطراف، فانظر أين تجد المذاهب غير السنية في العالم الإسلامي ستجدها في اليمن وعمان والمغرب والهند وأطراف الشام، ومتى ما سكنوا المركز فهم مهشمون في الدولة والساسة والاقتصاد، قد شملتهم التقية، ومن ناحية الثقافة فستجد آثار الحروب المذهبيّة والطائفية فيما تخلف لنا من أسلحة الكلمات من مثل: الروافض، النواصب، المجسمة ، المشبهة، والمعطلة، أصحاب البدع، الحشوية، التقية، إلى آخر ما تخلف في القاموس من اسلحة المذاهب ودروعها المضادة، ولعمرك ربما تتمكن من معرفة الوجه الذي يفسر عصبية الحكام، حيث كانت المذاهب يومها واجهات لأحزاب سياسية، ولكن من العسير عليك أن تجد مبررا لحروب المذاهب بعد زوال أسبابها السياسية، اللهم إلا تغلغل الروح العصبية والتمسك بداء الأسلاف المسموم، فقد سفكنا دماءنا، وقتلنا أنفسنا، وتظاهرنا على بعضنا، مع إقرارنا بأن كل من شهد الشهادتين فهو مسلم حرام كله.

إن المذهبيين الإسلاميين هم من سنخ (الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) (الحجر:91) ففرقوه إلى آيات تمدحهم وآيات تذم أعداءهم، فكل مدح فهو فيهم، وكل ذم فهو في أعدائهم، وإن كان المذموم من الحال والخصال فيهم أسقطوها بالعفو الرباني أو قالوا كما قالت اليهود في أنفسهم (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً )(البقرة: من الآية80) وإن كان الممدوح من الخصال جلياً في خصومهم أسقطوها بقوله تعالى ( وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً) (الفرقان:23) فذنوبهم مغفورة وذنوب غيرهم مضاعفة، وعثرتهم مقالة، وعثرة غيرهم بالمرصاد.

شرارهم عندهم خيرٌ من خيار غيرهم، كل حزب بما لديهم فرحون، مع أن الله سبحانه قد صرح بالحق في قرآنه حين قال لليهود لما قالوا مقالتهم أنهم أولياء الله من دون الناس، وأنه لن تمسهم النار إلا أياما معدودة، وأن ليس عليهم في الأميين سبيل، فقال لهم)بلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ)(المائدة: من الآية18) فليس بين الله وبين أحدٍ من عباده قرابة، قال إسماعيل بن جعفر لأبيه الصادق عليه السلام يا أبتاه ما تقول في المذنب منا ومن غيرنا؟ فقال عليه السلام : ( لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً) (النساء:123) 4، فقد دخلنا مداخلهم، وسنة الحق التي لا تتبدل جزتنا جزاءهم، خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة نرد إلى أشد العذاب، إن لم يتداركنا الله برحمة منه تخرجنا من ظلمنا وظلمتنا.

1 للمزيد من القراءة في هذا الموضوع إقرأ: تعدد الأديان وأنظمة الحكم- جورج قرم.

2 جورج قرم صـــــ 103- 104

3 المبسوط للشيخ الطوسي ج 4 صــــــــ 27 .

4 عيون أخبار الرضا – الشيخ الصدوق ج ا صــــــــــــــ260

شارك بتعليقك

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني.