أسلحة تُطلق للخلف

(المُصلحُ لا طائفةَ له، وكذلك المُفسِد) فلا تَحتكِرُ الطوائفُ مُصلحيها، ولا تُؤاخَذ الطوائف بمجرميها.

تصوّر لو هنّأ المسلمون أحداً بمولد بوذا وزرادشت! أو عزّوا هندوسيّاً بذكرى غاندي، أو باركوا ليهوديٍّ مولد موسى، واحتفلوا بكريسماس عيسى! تصوّر؛ لتُدرك افتقادَنا (عزّتنا) و(تسامحَنا)، وهما مفتاحُ عالميةٍ بدأها المُعلِّمُ الأكبرُ محمّدٌ (ص)، لا عالميّةَ القهر والطغيان والآثام ومسخ الثقافات، بل عالمية استئناس العقول بالمنطق وغزو قلوبها بقيم التعاطف والرحمة.

لكنّا، ولِوطأة الذلّ الذي تغشّانا وعشناه، ولخوفنا من الآخر أن يمحقنا إن وطّأنا سبيلَه، حياطةً من (إغراء ناشئتنا بالباطل)، فنبدو كمؤيّدين لطقوس الآخرين وثقافاتهم (الخاطئة!)، أوصدْنا باب التعارف بالآخر والتواصل معه من منطلق (العزّة) و(الرحمة)، وكأنّنا لسنا أصحابَ دينٍ خاتم لا يُمكن نقضُه ونسخُه، وأهلَ إيمانٍ لو أجمعتْ الدنيا عليه لعجزتْ عن تقويضِه، وحَمَلةَ رسالةٍ خالدةٍ ما بقي إنسانٌ، لأنّها له.

بعضُنا في حرب تبشيرية مع المسيحية، أو صليبيةٍ على حسبِ فلتات (بوش)، فكيف نحتفل بالمسيح وهذا يمنحهم اعترافنا بمقدَّسهم وتأييدنا لشرعيّتهم؟!

وبنفسِ السلاح الذي جابهْنا به الأممَ، جابهْنا بعضَنا، فالبعضُ لا يتعزّى بمقتل الحسين (ع)، لأنّ الحسين باتَ حكراً لطائفةٍ مخصوصة، ويرى التعزيةَ به نصراً لمذهبها! هكذا فقدنا شموسَنا الإسلامية وأنوارنا الإنسانية بجدران انتماءاتنا الضيّقةِ المصنوعة، والبعضُ لا يقتبس إلا أقوالَ آل البيت (ع) مُضيّعاً حتّى أقوال النبيّ (ص) وتاركاً آثار الأنبياء والصحابة والحُكماء، لأنّه (اهتدى!) واستغنى، في مقابل المُستغنين بالعكس!

تحوّلتْ هذه الخصوصياتُ المذهبيّة بالتدريج إلى جدرانٍ أكثف سمكاً، فتَضيّقَ التحصيلُ المعرفيّ وتقزّمَ الاحتفاءُ برموز الإنسانيّة، لصالح فروعٍ في المذاهب، ولرجالٍ فيها، حتى يصل الأمر بألاّ يبجّل المرءُ إلاّ سلسلةً أرهف من خيط العنكبوت تبدأ بشيخه وتنتهي بشيخِ شيخه!

بحقِّ الله، متى تُشرق شمسُ الإسلام المحمّدي ثانيةً، ليتبخّر هذا القتامُ الجاثم على صدر الأمّة قروناً؟! ظلماتٌ بعضها فوق بعض، والكلُّ يعزف نشازَ أبواقِ سلاطين (سلجوقيّةٍ) و(صفويةٍ) على جنائز الآخر وعلى رُفات الأمّة، ولمْ يعرف شجوى البشير (ص) على جنازة يهوديّ شيّعَه، وقبرِ مُخالِفٍ أقام عليه! بشيرٍ -لكبَرِ قلبِه وعقلِه- قبِلَ إسلامَ قاتل حمزة وغيره، فأين قلبٌ كبيرٌ كمحمّد يلمُّ هذه الأطفال المتعاركة وقد شاخت وتفقّهت في سجون خصوصيّاتها المُعتمة؟ أمْ آنَ انفجارُ قروحنا بأقياحها، ليُدرك الجميعُ كم نتنةٌ هي ومُهلكةٌ، وكم ملعونةٌ على لسان النبيّ الأمميّ العالميّ (ص)؟!

لماذا لم يُقدِّس المسلمون، وهم أعزّةٌ، مولدَ عيسى (ع) وهم أولى بالتعريف به، وهو من شرائط إيمانهم بالله ورسله وكتبه؟

لماذا لا يُقدِّم المسلمون، احتفالاً عزائياً منهاجياً مُوعِّياً، لسبط نبيّهم، قال (ص) عنه (حسينٌ منّي وأنا من حسين)؟ لا أقول (يُقدِّم الشيعةُ والسنّة) بل “المسلمون” بعنوانهم الأصيل المنتسب لله ولنبيّ الأمّة (ص)، ولماذا لا يلعن لاعنٌ نهجَ يزيد (وهو ليس بسنيّ بل “حسينٌ” هو السنّي؛ على سنّة جدّه)، متى نخرق عصائبَ مذاهبنا العمياء، غير مكترثين كم تَكسِبُ أصحابُ المذاهب الأخرى، فليس مضرّةُ الآخر ومناكفتُه همّنا؟ لمَ لا نقوم لله، ونشهد لله، وندعو ونحبّ ونبغض لله؟!

متى “سيستبصر” (الشيعيُّ!) أنْ يتخلّى عن اغتصابِه (الحسين)، فيُعيده إلى حِضنِ جدّه (ص)، لا ملفوفاً بجُبّة فقيهه وشيخه، فيُعادُ بريقه (ع) العالميّ الشعشاع، خارجاً لإصلاح الأمّة، لا مُنتصِراً لمذهب، محارباً الجور والانحطاط والفجور والاستبداد، لا مُغلّباً لفئةٍ وفقهٍ ودعوةٍ لتشيّع وما يُسمّيه أصحابُ العصائب (استبصاراً!)، والكلّ أعمى عن (أدواءٍ) و(أعداءٍ) فتّتتْ أمّةَ النبيّ (ص) وأفسدت في عقلها وأخلاقها، فلقد كانت التقيّةُ تاريخيّاً ضدّ السلطان الظالم، فإذا بها ضدّ الطائفة الأخرى، وكان خروج ثائري آل البيت على الانحراف المُفسد لأوضاع الأمّة ولقيَم رسالتها فإذا بها بهذا الاستئثار المذهبيّ تُصيِّر أهل البيت للشيعة حصراً دون سائر المسلمين والعالَم! ما هذا الحمقُ فينا؟ ومتى ننهيه لنعرفَ جواهرَ أعلامِنا وأئمتّنا ونستعيد ديننا، ونتجاوز أقذار التاريخ ودسائسه المُفرِّقة بيننا؟

لقد كان محمّدٌ (ص) يرجو قومه (الوثنيّين) أن يُسلموا ويُسالموا فأوشك إذهابَ نفسه حسراتٍ عليهم، وحاول جهده مع (أهل الكتاب) يُسالمهم رجاء عدم تحزّبهم بالحرب عليه، ولقد تألّف (قبائلَ المشركين) وحالفهم، وكان همُّه نشر قيَم الدين وأوّلها نفيُ الظلم وحسنُ الجوار وحرّيةُ الاعتقاد لتأخذ دعوتُه مجراها إلى العقول طوعاً.

والحسينُ الأبيُّ سار بسيرة جدّه؛ فحاول استقطاب كلَّ حرّ، مهما كان مذهبُه ودينُه، ولقد خرج معه من كلّ المشارب والألوان؛ الأسودُ والأبيض، والعبدُ والسيّد، والمرأةُ والرجل، والنصرانيُّ والمسلم (بمذاهبهم!)، لأنّه إمامُ قيَمٍ، وداعيةُ صلاحٍ.

فمتى نجتاز هذه السجون التي ضيّقت عقول علمائنا قبل عامّتنا؟ ومتى نقدّم بعاشوراء محفلاً حسينياً عالمياً مفعماً بقيم الإنسان كلّه، غير ملوَّثٍ بمضائقٍ تبغي حلْبَه بأوعيةٍ تنجّستْ بالغصب أو بدماءِ الآخر وعرضِه؟!

لو سألْنا (الحسينَ مصباحَ الهدى): كيف تريد يا سيّدي أن نقدّمك؟ ولأيّ طائفةٍ؟ وبأيّ طقوس؟ ما جوهرُ قيامتِك؟ أأفعالنا وأقوالَُنا حسنةٌ؟ أتُُقرّ حالَنا كأمّةٍ وكطوائف؟ فسيغصُّ بعبارةِ الشاعر الساخط: بلْ (أنتمْ مغتصبيَّ، حملتمْ أسلحةً تُطلق للخلفِ، وثرثرتم، ورقصتم)!

استجابات

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *