اشتكى أحد التلاميذ ذات مرّة لمعلّمه بقوله: “إنك تروي لنا قصصاً، لكنك لا تكشف لنا أبداً عن معناها” فقال المعلّم: “ما قولك لو قدّم لك أحدهم ثمرة ومضغها بل أن يعطيكها؟!”، في هذا التمثيل رسالة واضحة تجعل السامع يشمئز من الفعل بحيث يعرض عن الفكرة تماماً ويحرّم على نفسه أن يقع في أمثالها، فما من أحد
يرضى لنفسه أن يأكل ما مضغه غيره له إلاّ إذا كان طفلاً! بل لا يشتهي الإنسان أن يعيد أكل ما مضغه هو نفسه بعد أن لفظه.
يذكّرني هذا الحوار بصور تتكرّر بين الآباء وأطفالهم عندما يشاهدون أفلاماً يكتنف شخصياتها الغموض، وفيها من الرمزية ما يجعل فهم مغزى القصة صعباً على الطفل فيسأل والده عن شخصيات الفيلم (بابا، هذا زين لو مو زين؟) أو يسأله عن بعض التصرفات والسلوكيات ( هذا صح لو مو صح؟)، والأب العاقل يقبل هذه الأسئلة من ابنه طالما كان طفلاً، ولكن إذا بلغ الرشد فلا هو يقبل منه هذا السلوك ولا الابن يرضى لنفسه بذلك.
نحمد الله أن زوّدنا بالعقل الذي يأنف القبيح ويقبل على الجميل، فعلى مستوى الأكل المادي كلّنا متّفقون على أن هذا الفعل قبيح ولا نرضاه لأنفسنا ولا لغيرنا، ولكن ألسنا فعلاً نأكل ما يمضغه لنا الآخرون على المستوى الفكري والعقائدي وربما السلوكي والأخلاقي أحياناً.
فنحن نجلس أمام التلفاز لمشاهدة نشرة الأخبار اليومية فتتخلّلها – رغماً عنا وبلا اختيار منّا – الإعلانات التجارية التي تحرص على أن تُبث أثناء النشرة فنأكل أفكاراً ممضوغة من قبل الشركات التجارية التي تسوّق لبضائعها وخاصة إذا نوّمتنا إيحائياً وأثّرت فينا بحيث جعلتنا نشعر بالحاجة لما لسنا بحاجة إليه فذهبنا إلى أبعد من ذلك وباشرنا بشراء بضاعتها فرحين مستبشرين.
ونقرأ الأخبار من الصحف اليومية ولكن بعد أن تمضغها لنا عقول محرّري هذه الجريدة أو تلك فتطعمنا الخبر بالنكهة التي تريده لنا فتجعل من البطل خائناً حيناً ومن الخائن بطلاً، فنصدقها بلا مناقشة، ونكون بذلك أكلنا طعاماً ممضوغاً لنا بلا تقزّز ولا استنكاف.
نستمع لخطيب يحلّل الأوضاع ويفسرها بحسب نظرته ويفسر معها الآيات القرآنية الكريمة بما يتّفق ورأيه، ويمسح جهل المسلمين وحماقاتهم بسنّة رسول الله (ص) فنصدّقه ونتبنّى رأيه ونأكل ما مضغ لنا هنيئاً مريئاً بلا سؤال ولا استنكار.
نقلّد في طريقة لبسنا، أكلنا، مسكننا، كلامنا، تفكيرنا، حجاجنا، واحتجاجنا، وتربيتنا لأبنائنا، وتعاطينا مع مشاكلنا، نقلّد من نؤمن بأفضليتهم أو فضلهم علينا لنأكل ما يمضغون لنا فنبقى أطفالاً رُضّعاً بين أيديهم أبد الدهر.
تهجم علينا لواقح الزمان، وتُبث فينا مضلاّت الفتن فنركبها ونصبح رأساً في الشرّ بعد أن كنّا ذيلاً في الخير، لا بإرادتنا واختيارنا وإنما بما أُطعمنا من فم هذا وذاك ونحن لا نشعر بأننا إنما تحوّلنا إلى مجرد أفواه تبلع دون أن تدري ماذا تأكل، وعقلنا معنا ولكن يبدو أنه معطّل أو ربما في إجازة!
نحن معرّضون يومياً للمئات بل الآلاف من المؤثرات الخارجية والمعوقات الذاتية التي تساهم في تعطيل آلة التفكير (العقل) لدينا فتجعلنا أسرى لها بإرادة منّا أحياناً وبغير إرادتنا أخرى، وبعلمنا وإمضائنا مرّة وبغفلة وغياب وعي مرّات. ولكي يمارس المرء إنسانيته الحقة لابدّ أن يكون واعياً، يقظاً، حرّاً في تفكيره فلا يقع فريسة كسل عقله أوّلاً بأن يقبل أن يفكّر الآخرون عنه ليعلّموه الإجابة (الصحيحة) حسب فهمهم، أو أن يختاروا ويتّخذوا القرار (السليم) بالنيابة عنه؛ أو أن يفسّروا ويُحلّلوا الأمور له ليأخذها معلّبة جاهزة، باختصار لا يرضى بأن يفصّل له الآخرون دائماً ليلبس ما خيط له.
وثانياً لا يكون ضحية تآمر عقله ضدّه فيسلّم زمام أموره بيد عقله الباطن وما يبطن من تجارب سيئة، ومخاوف معيقة، وأهواء مكبوتة، وسبقيات بالية، فيصبح مطيعاً للاوعيه؛ فعندما يتدخل لاوعينا في تحديد خياراتنا واتخاذ قراراتنا، يصبح عقلنا الواعي رهينة لعقلنا الباطن فيستسلم لما يأمره به، ويصبح العقل الواعي أشبه بالمعدة التي تهضم الغذاء القادم من العقل الباطن الذي يوفّر على العقل الواعي مشقة التفكير ويبعث إليه بالأفكار المختزنة والحلول الجاهزة؛ فنوقّع على عرائض، ونخرج في مسيرات، ونحتج، ونرفع قبضتنا في السماء، ونلوّح بعلامة النصر ولو سُئلنا عن أسباب ذلك لأجبنا سريعاً بأننا نطالب بحق ضائع، أو نساهم في تصحيح وضع، أو نحتج علىظلم قائم؛ مع أنه لو غاص كلٌّ منّا في أعماق نفسه وصدق معها لوجد أن وراء كل فعل من هذه الأفعال أسباب أخرى غير التي يذكرها لسانه.
فالعقل الذي أكرمنا الله به، وبه ميّزنا عن سائر خلقه، وجعله مناط المثوبة والجزاء، واقع بين هيمنة المجتمع وعاداته وتقاليده، وإغراء الدعاية والإعلان، وضغط الطائفة والمذهب، وإملاء النفس وأهوائها، إلاّ أنه في الوقت ذاته مؤهّل للتحرّر من ذلك إذا ما اعترف بداية بأنه واقع في إسار كلّ أو بعض تلك المؤثرات، وأن بيده الخيار أن يرفضها ويتمرّد عليها ليتمكن من رؤية الأمور على حقيقتها. إن حيازة القدرة على التفكير الحرّ جوهرة تستحق أن يُبذل لأجلها أغلى الأثمان، بل هي القيمة الحقيقية للإنسان ومن غيرها يبقى كلٌّ منّا رقماً مكرّراً لما قبله من أرقام ولن يقدّم أي قيمة إضافية في مسيرة الإنسانية، بل سيكون معرقلاً لها ومعطّلاً لمن سيأتي بعده.
إن من حقّ الطفل الذي يطلب من والديه أن يعرّفانه بالحسن من الأعمال، والطيب من الناس أن يعطيانه الأداة والوسيلة التي بها يتمكّن من تمييّز الطيب من الخبيث، والحسن من القبيح حتى في غيابهما بمعنى أن من حقه عليهما أن يغرسا فيه القيم التي تكون بمثابة المنارة التي ترشده إلى سواء السبيل كلّما ادلهمّت عليه الخطوب؛ ومن حق التلاميذ كذلك أن يُزوَّدوا بمهارات التفكير الموضوعي والعلمي ليفرّقوا بين الصواب والخطأ وإن كان مدوّناً في مناهجهم، وإن استخدموا تلك المهارات لمناقشته آراء معلّميهم وأفكارهم؛ كما أنه من حق الإنسان في كل مكان وواجبه تجاه نفسه أن يسعى لتحقيق الفردية العقلية وحرية التفكير الكاملة والتحرّر من الخضوع لأي ضغط داخلي أو خارجي حتى يضمن أن يمضغ طعامه بنفسه ويكفّ عن أكل ما يمضغه له الآخرون وما يقدّمه له عقله الباطن.
استجابات