أين يقف الدين من شرعة الحقوق؟

المُطالع لكتب الفقه الإسلامي المعتادة يجد موضوعات الطهارة والصلاة والصوم والحج والزكاة والجهاد وأحكام التجارة والوقف والزواج والطلاق وأحكام الصيد والإرث والقضاء والحدود والديات، فالباحث في شرعة حقوق الإنسان لا يجد اتصالا مباشرا مع دائرة اختصاصه إلا نزرا بسيطا، لا يُشبع اهتمامه، في ظل هذا التبويب للفقه، وهو مؤشر للفجوة بين الفقه والحقوق.

أما الغرب فقد استطاع أن ينجز أهم وثيقة دولية في مجال حقوق الإنسان عام 1948م، وقد سبقها “وثيقة فرجينيا للحقوق” الصادرة في الولايات المتحدة الأميركية عام 1776م، وأيضاً “الإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان” في الثورة الفرنسية عام 1789م، فهل هذا الإنجاز الغربي العظيم منقطع عن تراث أجدادنا الماضين؟

حدثنا التاريخ أنّ الشيمة العربية أبت إلا أن تنهض للدفاع عن حق المظلوم، ففي ذات يوم أواخر القرن السادس الميلادي، أتى مكة رجل من اليمن ببضاعة ليبيعها، فاشتراها رجل من مكة، وحبس عنه حقه، ضاق اليمني ذرعا بالمماطلة، فصعد جبل أبي قبيس واستغاث بفضلاء مكة، فسارع إليه نفر منهم واستمعوا إلى شكواه، ذهبوا إلى التاجر المكي وأجبروه على أداء ثمن البضاعة، ثم رأى هؤلاء الفضلاء أن يجتمعوا ثانية في دار عبد الله بن جدعان، أحد شرفائهم، وتعاهدوا على ألاّ يدعوا ببطن مكة مظلوما من أهلها أو ممّن دخلها من غيرهم إلا كانوا معه على ظالمه حتى تُردّ مظلمته، هذا هو “حلف الفضول” الذي يعتبر بحقّ من أهمّ مواثيق الدفاع عن حقوق الإنسان.

استفاد الغرب من ظروف العولمة لإشهار الوثيقة والتوقيع عليها من 48 دولة في عامها الأول، بينما أُشيع عن “الإسلام”، أنه ليس في شريعته ولا تراثه الفكري ما يسهم بصورة إيجابية في ترسيخ مبادئ حقوق الإنسان، فهل صورة هذا التباين بين الحقوق الإنسانية ومبادئ الإسلام له وجود في الواقع؟ سؤال لا يبدو في مكانه أبداً، لكن تجليّ الحقيقة ضروري، فالباحث الحقوقي يحسُن به أن يكتشف الحقّ بذاته، وكمثال نقف عند قوله تعالى:(لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ) (الحديد:25) ففي هذه الآية نستوضح المغزى الأساسي من بعث الرسل؛ وتجيب الآية: (لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) لكنّ تعامل الناس فيما بينهم ومن حولهم من ذوات وأشياء على أساس معايير القسط، لا يتحقق إلا بتوثيق الحقوق وحفظها والدفاع عنها، وسياق الآية يقرر أنّ إرسال الرسل بالبينات الحسية وغيرها إنما للتدليل على صدق الرسول والرسالة، إلا أنّ السياق أيضا تكفل برسم العناصر الأساسية في حفظ الحقوق، لقد نصت الآية على آليات ثلاث: “الكتاب” و”الميزان” و”الحديد” فما دورها في تثبيت الحقوق؟ أما “الكتاب” فهو البرنامج الناظم لحياة الناس لئلا يظلموا بعضهم، ولئلا يعتدي أحدهم على حقّ الآخر،

ويتضمّن التعريف والتعليم بالثقافة الحقوقية، وتهذيب السلوك بالمواعظ والإنذار والتبشير ليكون الإنسان مؤمناً بالحقوق. كما يتضمن الكتاب بنود الشريعة وهي القانون (القضائي) المجتمعي الضابط والمقرّر للحقوق حال التنازع. ثم تأتي كلمة “الميزان” وهو الآلة والآلية المتّبعة لحفظ الحقوق منعا للاجتهادات الشخصية والتحايلات والغشّ والتطفيف لاختلاس حقوق الآخرين، وهي رياضية دقيقة وعالمية، كمعايير ثابتة للأخذ والعطاء والتداول فهذه كلّها من وضع الأنبياء تأسيسا، وهي قوام الحياة التداولية المدنية إلى اليوم، ويندرج فيها الأوزان، والمكاييل، والأطوال، والمساحات، والعملات..الخ، وكلّ المقاييس الموزونة المتعارف عليها. وتختتم الآية بلفظة “الحديد” وهو القوّة الحاسمة الرادعة المقارنة للقانون وللأخلاق، وهي آخر الحلول لضبط حقوق الناس بالقوّة وأخذها من المتنفذين والمتجاوزين الذين لا يرتدعون إلا بالقوّة لا بالضمير ولا بالعقل، إن عجز الأخلاق والقانون القضائي عن الردع، أي هي تمثّل شقّ القانون الجنائي.

فإذا كانت آية واحدة قادرة على إعطائنا برهانها لبيان مدى اهتمام الدين بالحقوق، وهو الدافع الحقيقي لوظيفة الرسل، فكيف ببقية الآيات!؟ فهل يجوز لنا بعد هذا أن نغض الطرف عن أدبيات الإسلام، ودون أن نتبين حرصه الشديد واهتمامه بكرامة الإنسان في الحياة من خلال إقرار حقوقه.

من هذه الآية وأمثالها اتّجه الفقه المقاصدي بمنهجية مختلفة تماما عن الفقه التقليدي، وفقهاء المقاصد يعتقدون أنّ الله سبحانه لا يوجب على عباده أحكاما إلا لمصلحة في المأمور به ولا ينهاهم إلا لمفسدة، وأنّ عقولهم قادرة على اكتشاف علل الأحكام ومقاصدها؛ وأنّ كشفهم ينطبق على اللامتناهي من الموضوعات؛ لذلك أسموهم أهل الرأي في مقابل أهل الحديث الذين يستنبطون كلّ حكم من النصّ القرآني أو الحديث النبوي أو روايات أهل البيت (ع) عند آخرين، أدرك العقل العلة أو لم يدركها، فجواب المسألة موجود في النصّ بصورة مباشرة.

انطلق القصديون في تشخيص المقاصد بحسب أولويتها للإنسان ووجوده ودوره في الحياة، وقسّموها ثلاثة أصناف: مقاصد ضرورية، وأقلّ منها ضرورة أسموها حاجية تُوجب المشقة عند فقدها، والأقلّ من الثانية تحسينية، والحياة بدون المقاصد الضرورية الخمسة لا معنى لها، ولا كرامة للإنسان إلا بها، فالإنسان لابدّ له من عقيدة، والدين لابدّ وأن يكون في مأمن، ولا يجوز لأيٍّ كان أن يحاربه، أو يهدد اعتقاد المؤمنين به، ولابدّ من عقوبات لمن يحارب العقيدة. كما تقتضي الضرورة أيضا أن يكون للإنسان الحقّ في الوجود، في عيش كريم، آمنا على نفسه وكلّ ممتلكاته، لا يعتدي عليه أحد، ومن فعل يتحمل عقوبة تعدّيه. كذلك من الضرورات حراسة العرض والعقل. وأن القانون الفقهي المقاصدي كفيل بتأسيس القوانين وتفريعاتها، وتوظيفها لإقرار هذه الحقوق وحمايتها عن التعدي أو الاستضعاف. ولعمري هذه نفسها ملفات الحقوقيين ودائرة اهتماماتهم، وبهذا الوعي المقاصدي أمكننا أن نقول: أن لا فجوة أبداً بين الدين وشرعة الحقوق..

استجابات

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *