إنّ الجنين المشوه مأساة إنسانية عميقة قبل ولادته وبعدها، فهو يُحيل الفرحة بخروجه إلى الدنيا إلى مسيرة عناء طويلة وشاقة للوالدين، وهو نفسه لا يسلم من الشقاء بل وربّما الضلالة في حياته المحفوفة بالنغص والآلام حالما يستشعر النقص وينفرّد بالعجز بين من حوله، حتّى أفرزتْ هذه الإشكالية مناشدات إنسانية بإجهاضه مسبقاً رحمةً به وبأسرته.
ونحن سننطلق في تذليل هذه الإشكالية وحلّها من محاولة فهمنا لكلام الله سبحانه الذي نُقرّ أنّه خلق كلّ شيء، لكنه هدى أيضاً، فنسأل الله هُداه.
إنّ الرأي المعتدل الدارجة عليه غالبية أهل الاجتهاد هو جواز إجهاض الجنين المشوه, شريطةَ عدم مرور مئة وعشرين يوما من بداية اللقاح. أما إذا كان الحمل قد جاوز ذلك، فلا يجوز إجهاضه حتى ولو أفاد التشخيص الطبي أنّ الجنين مشوه الخلقة, عدا إنْ ثبت طبياً أن استمرار الحمل فيه خطورة أكيدة تهدد حياة الأم فقط.
ومع احترامنا لهذا الرأي الرزين، غير أنّ لنا قولاً آخر، تحكيماً لعدل الله ورحمته وسبْراً لكلامه سبحانه.
أوّلاً”: السلامة والصحّة كمنظور أساسي:
في مفهومنا للتشوّه سنقتصر على البالغ منه الجازم لا الذي هو قابلٌ للعلاج بعدئذ كتشوّهات المعدة والأمعاء وغيرها، بل الذي على النحو الجسيم تشوها بدنيًا كالشلل، أو قصوراً عقليا ، بحيث لا يرجى البرء منها لتجعله ناقصاً وعالةً على المجتمع، وتُصيّر حياة والديه سيّئة ومؤلمة ومُكلفة..
ونعني بالجنين السوي ذاك الكامل الخلقة المتوفّر على الأعضاء والأجهزة والوظائف اللازمة لحياته ومعناها.
ونعني بالإجهاض أو الإسقاط أو الطرح أو الإلقاء لا حـالات الإجهاض العفويِّ ، وإنّما الإجهاض الإرادي الذي لا يُؤثّر على سلامة الحامل ولا يُوقع الضرر عليها بخطر أشدّ من الإجهاض نفسه.
وفي هذا البحث نحاول التجرد – ما وسعنا – في استشفاف حدود ما أنزل الله حسب العلم والواقع.
قال تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنْ الشَّاكِرِينَ)(الأعراف/189)
بديهي أنّ الإنسان يريد الولد الصالح (أي الصالح للعيش وهو السوي هنا) لذلك جاءت مرويّات إرشادية كثيرة تنبّه على طريقة المعاشرة والأماكن والأوقات المناسبة “وتخيّروا لنطفكم” ومراعاة الحالات المزاجية وغيرها واستحباب الابتعاد عن زواج الأقارب، لا لأجل أن يمارسها المرء تعبّداً وطقوساً كالببغاء فليست هي شعائر عبادية وإنّما طرائق صحّية وعلميّة كقواعد الطبّ الوقائي وإرشادات فترة الحمل والولادة، ولإثبات حقيقة أنّ التخيّر للوسائط المناسبة ضروري في الإتيان بنسلٍ سويّ، وقد وفّر العلم يومنا آليّات إضافيّة متنوعة، فإنْ أعجزت الإنسان الوسائل فليدع ربّه مالك الأسباب أن يتمّ ما قصرت عنه يداه وغاب عن مداركه من احتياطات، فيقول: (لئن آتيتنا صالحاً) أي معافى وسليماً، فالإتيان بطفل سوي وسليم مسئولية واجبة على الآباء ودعوةٌ ومنشودٌ إلهي. ولأجل ذلك بقي أن نعرف عدّة أمور مهمّة ستأتي.
ثانياً: الولد بداية الإنسانية:
1- إنّ الولد هو مَنْ (وُلِد) وخرج إلى الدنيا، وهو المعنيّ في آية : (لا تقتلوا أولادكم من إملاق)، فعرب الجاهلية وفرعون من قبل لم يقتلوا الأولاد بمعنى الأجنّة فلم يُجهضوا الحوامل، لجهلهم بجنس الحمل حتى الولادة .
الولد هو الجزء البشري المنفصل الحيّ، قالت مريم “ع” (أنّى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر)، وقال تعالى (خلقكم من تراب ثمّ إذا أنتم بشرٌ تنتشرون) فالحركة والانتشار والانفصال خارج الرحم أولى معالم البشر .
2- هو كينونةٌ بلا هوية سمّاها القرآن (حملاً) مرّة، و(أجنّة في بطون أمّهاتكم) و(ما خلق الله في أرحامهنّ)، بل وعدّها قبل الولادة مرّة (لا شيء) أي لا هوية له، قال تعالى (أولا يذكر الإنسان أنّا خلقناه من قبل ولم يك شيئا) .
3- إنّ كلام الله سبحانه وصفُ الحقيقة والواقع ، ولم يُوصف فيه الجنين في أيّ طور ككائن إنساني، وإن كانت بعضُ المرويّات قد ساوت حرمة التصرّف في الجنين الحيّ كحرمة التصرّف في بدن الميّت المفارق للروح الإنسانية ، لكن لا يعني هذا عدم وجوب حفظ الجنين واحترامه باستحباب تسميته وبجواز إفطار الأمّ صومها وتيسير أحكام العدّة والنفقة وإرجاء الحدّ عليها وغيره، بل والوصيّة له وتعطيل تقسيم الإرث ريثما يستبين الحمل المستكن كمولود خارجاً إمّا حيّ أو ميّت ليشمله دليل (إن لم يكن لهنّ ولد).
إذن هو لم يزل جزءاً من الأمّ الحامل، سمّاه سبحانه حملاً ، وسمّاه حملاً خفيفاً أو ثقيلاً (حملت حملاً خفيفاً فمرّت به، فلمّا أثقلت)، وسمّاه حملاً واهناً جدّا عرضةً للأخطار ثمّ واهناً (حملته أمّه وهناً على وهن)، وسمّاه حملاً مكرهةً عليه الأمّ (حملته أمّه كُرهاً ووضعته كُرها)، وربط مسألة الأمومة الإرادية بُعيْد الولادة فقط لا بالحمل ولا بغيره، نفياً حين سمّى الحامل لا أُمّاً بل مجرّد أنثى (الله يعلم ما تحمل كلّ أنثى) وإثباتاً للأمومة مع ولادتها الطفل(إن أمّهاتهم إلاّ اللائي ولدنهم)، وما قول امرأة إبراهيم “ع” العجوز العقيم (أألد وأنا عجوز) إلاّ لأنّها بُشّرت لا بمجرّد حمل بل بإنسان غلامٍ عليمٍ له مسمّى “إسحاق” كما في الآية.
وكان استخدام كلمة (ولدْنهم، أألدُ) عين الحكمة لأنّها هي البداية الإنسانية للمولود الحيّ، ولم يضع سبحانه هنا اللّفظ الآخر البديل أيْ (الوضع)، لأنّ “الولادة والوالدية” مفهوم إنساني أقسم سبحانه به (ووالدٍ وما ولد)، في حين أنّ “الوضع” مفهوم حيواني أو بشري طبيعي قائم على رؤية مادية لتشخيص “حمْل”، ولهذا التلازم يُقال دائماً (وضْع الحمْل)، وهو يحتمل ثلاثة احتمالات ليس الولادة إلاّ أحدها تترتب عليها حقوق الوجود الإنساني من إعطاء هوية واسم ونسب ودفن وإرث والدّيه الكاملة وغيرها.
إنّ عملية “وضْعه” تعني:(إمّا إجهاضه – أو وضعه ميتا (سقْط) – أو ولادته حياً)، لذا قال تعالى لوجود احتمالية الخيارات هذه (وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه)، وهذا يشمل كلّ الحيوانات الثديّة بما فيها البشر ولمْ يقل قطّ “ولا تلد أنثى إلاّ بعلمه” لأنّها تعني خياراً واحداً هو خروج مولود إنساني حيّ بلا التفات لجنسه من ذكورة وأنوثة حيث “الولد” كلمة تعمّ الجنسين الغلام والفتاة، ولهذين الأمرين أخبر عن امرأة عمران (ربّ إنّي وضعتُها أنثى) ولم تقل “ولدْتُها أنثى”، وعن العدّة (وأولات الأحمال أجلهنّ أن يضعن حملهنّ) حيّاً كان أو ميّتاً، وكذلك عن النفقة (فأنفقوا عليهنّ حتى يضعن حملهنّ)، وقال عن أهوال الزلزلة (يوم ترونها تذهل كلّ مرضعة عما أرضعت، وتضع كل ذات حمل حملها) وهذا حدثٌ سيعمّ الثدييّات جميعاً، لذا قال (مرضعة) القائمة والمتلبّسة بالإرضاع ولم يقل (مرضع)، وفي هذه الآية الأخيرة بالخصوص تمخّضت عبارة “وضع الحمْل” لمعنى واحد فقط من الثلاثة وهو الإجهاض العفوي المفاجئ بلا انتظار لأيّ أجل.
4- ويُعرّف الإنسان بكونه حيوانا ناطقاً ومهما كان فأوّل ما يثبت به النطق كتفكير أو كلغةٍ هو حال الخروج من الرحم قال تعالى على صعيد التفكير (والله أخرجكم من بطون أمّهاتكم لا تعلمون شيئاً)، وأثبت اللغة سبحانه في مثال واحد بعد مخاض ولادة نبيّه عيسى “ع” حين كلّم أمّه (فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربّك تحتك سريّا)، فمرحلة الإنسانية تُدشّن مع مخاض الولادة.
ثالثاً: الجنين ونفخ الروح:
1- بالنظر في آيات سورة المؤمنون (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ )12( ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ )13(ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ )14( ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ)
نرى أنّ الذي (أنشأه الله خلقاً آخر) إنّما هو الطفل الخارج من الرحم لينهي مشوار حياته بعدئذ بالموت (لميّتون)، فخروج الطفل هو المرحلة الفاصلة المتميّزة يراها كلّ البشر عبر الأزمان وهو الخلقٌ الآخر المغاير ما سبق، عُطف عليه بـ (ثمّ) مفارقاً مراحل الـ (فاءات) السابقة المترتبة، في خلقاتٍ متتابعة متطوّرة ..فخلقنا.. فخلقنا.. فكسونا.
- ثُمّ أنّ موارد تصريفات “أنشأ” في القرآن كلّها تدلّ على وجود مغاير لما قبله ومرئيٍّ أيضاً، فليس بالمُنشأ ما لا يُرى (الجوار المنشآت في البحر) وهي السفن تُرى، (ويُنشئ السحاب الثقال) نراه أيضاً، بخلاف “خلق” فقد يُرى وقد لا يُرى فيُستر كالجنّ والجنين أيضاً، “والله خلق كلّ دابّة من ماء”، وقد لا ندري كيف ولا نرى أكثرها ولو أنّه قال “أنشأها من ماء” لكانت كتماثيل من جليد مشهودة.
- أضف إلى أنّ وصفَ الله نفسه “بأحسن الخالقين” في القرآن لم يكن إلاّ في مقام خلق الإنسان الذي خلقه في “أحسن” تقويم، لذا احتجّ بها سبحانه مرّةً أخرى (وتذرون أحسن الخالقين، الله ربّكم وربّ آبائكم الأوّلين) فاحتجّ بخلق الإنسان المستوي على أحسنيّة ربّه في الخَلْق.
- أمّا كلمة “تبارك” فلم تأت في كلامه سبحانه إلاّ حين يتفضّل من مُلكه عطاءً، وهل أكبر عطاءً من خروج الإنسان المكتمل، ليُرى ويُقال بملء الفم (تبارك الله أحسن الخالقين) صدقاً، هذه المباركة منه سبحانه تتناسب وتتوازى مع التبشير بالولد لا بطور الجنين، فاتّفقت في القرآن كلّها على هذا (إنّا نُبشّرك بغلام)، (إنّ الله يُبشّرك بيحيى)، (بُشّر أحدهم بالأنثى)، (فبشّرناها بإسحاق)، وهل “للبُشْر” هذا من علاقة مع بداية “البشر”، ليخرج و”يُباشر” برَكة الحياة المهداة؟!
2- وبالنظر في آيات سورة الحج في خلق الجنين:
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ ).
فهي تثبت تخلّق كينونات واحدة من أخرى، حتى انقسامها إلى جنين ومشيمة (مضغة مُخلّقة وغير مخلّقة)، وتكرار حرف الجرّ (من) يفيد أنّ الإنسان مخلوق من عناصر ترابية (الغذاء) ثم من نطفة .. ثمّ آخرها من جنين ومشيمة، لا أنّه هو نفسهما، فالجنين مادّة لخلق الإنسان وما يؤول إلى إنسان لا الإنسان نفسه (يخلقكم في بطون أمّهاتكم خلقاً من بعد خلق).
ونستفيد أنّ مرحلة الجنين هي محلّ عمل يد القدرة الإلهية (مع التنبيه أنّ “لنُبيّن لكم” تشي أنّه قد يتبيّنها الإنسان يوماً ما ويقدر عليها أيضاً)، ثُمّ “للمشيئة العامة” الخيار في تحديد ثباته أو سقوطه (نُقرّ .. ما نشاء).
وضمائر الفعل في هذه المرحلة منسوبة كُلّها إلى مشيئة الله العامة، ومرحلة ما بعد الولادة ضمائرها عائدة على الناس، ومرحلة الوفاة أو الخرف عائدة إلى الأسباب والظروف لا إلى فاعل بالخصوص، فراجع ضمائر الفاعل لتُلاحظ كيف تنتقل من متكلّم إلى مُخاطَب إلى غائب مجهول الفاعل.
ويظهر أنّ كل شيء في القرآن مما يشاءه الله بلفظ الجمع (نشاء، شئنا ..) هو ممّا تعمل فيه الأسباب، ومن ضمن تلك الأسباب مشيئة الإنسان، وهو الإذن الوجودي العام بفاعلية القوانين والنواميس والعلل وفق نظام الأسباب المتقن، وهو ما أطلقنا عليه “بالمشيئة العامّة”.
وإذا كان للعبد أن يدعو ربّه هبْ لي طفلاً صالحاً سويّاً أو خذه، والدعاء أحد الأسباب التي تشملها المشيئة العامة بل وتستدعي المشيئة الخاصة أيضاً، فيستجيب الله لعبده بعلم ورحمة منه، فمتى أحرز الإنسان هذين الشرطين (العلم والرحمة) فله أن يستخدم (الإجهاض) بدل الدعاء حين قصوره، أي يفعل ذلك عن علم جازم بأنّ الوليد سيكون ناقص الحياة ومشوّه الطبيعة حتماً، ورحمة به يفعل ذلك قبل أن يخرج طفلاً لمّا كانت ماهيّته احتماليّة أي مجرّد (ما نشاء) حسب الآية.
3- إنّ أمّ مريم قالت (إني نذرت لك ما في بطني محرراً) .. ولم تقل (من في بطني) .. لكن إنْ تحرّر وتصيّر إنساناً فهو منذورٌ لله محرراً منها كوليٍّ عليه، وقدْ قبل سبحانه النذر والتحرير لكن بعد الوضع فقال (فلمّا وضعتْها .. فتقبلها ربّها .. وكفّلها زكريا).
فإنّ ما في البطن ليس له قيمة كإنسان إلا بعد تحرّره منه .. ليُجعل خالصاً لله أو لغيره.. كما قال المشركون بنفس المعنى (ما في بطون هذه الأنعام خالصةٌ لذكورنا) لما ستؤول إليه.
وسمّى ما في البطون سبحانه في ردّ آخر (ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين) من إناث الأنعام، وفي تلك الآيات دقة بليغة وعناية فائقة في التفريق بين البطون والأرحام ومعنى الاشتمال .. ولماذا قال سبحانه (أخرجكم من بطون أمهاتكم) لا من أرحامهنّ، لعلّة تكافؤ مراحل الحمل الرحميّة جميعها، إنّها موادّ مِن بطونها يخرج الإنسان لا أنّ ما في الأرحام هو نفس الإنسان.
4- علينا أنْ نعي أنّ المرويات في هذه المسألة ليست ذات صبغة تشريعية وإنّما هي علمية خبرية، وهي بحاجة إلى مناقشة منطقية ولغوية بعد ثبوت سندها ومتنها، وبحاجة إلى صدقيّة بمطابقة الواقع العلمي لها ولتمييز الوجهة الصحيحة لفهمها، فمثلاً الرواية المنقولة عن النبي الكريم (ص) والتي استُلّ منها حكم نفخ الروح وبه أُقيم الدليل بعدم جواز إسقاط الجنين المشوّه هي
(إنَّ أحدَكم يُجمعُ خلقُه في بطنِ أمِّهِ أربعينَ يوماً، ثمَّ يكونُ علقةً مثلَ ذلك، ثمَّ يكونُ مضغةً مثلَ ذلك، ثمَّ يبعثُ اللهُ مَلَكَاً فيُؤمَرُ بأربعِ كلماتٍ ويُقـالُ له : اكتبْ عملَهُ، ورزقَهُ، وأجَلَهُ، وشَقيٌّ أو سعيدٌ، ثمَّ ينفخُ فيه الروحَ ..)
والتي منها ظنّوا أنّ الروح الإنسانية تُنفخ بعد أربعة أشهر للجنين، بينما نرى باللغة البيّنة أنّ الخبر فصَل مرحلة نهاية المضغة (بعد 120 يوماً أي 4 أشهر مثلاً) فصَلها بأداة التراخي (“ثمّ” يبعث)، وليس أداة التعقيب (فيبعث)، بل وبعد “ثُمّ” ثانية تُنفخ الروح، فهناك حقبة كتابة المَلك قبلها، وهي فتح ملفّ الأعمال لمشروع الإنسان هذا أي تسجيل عضويّته في الدنيا، واستهلال كتاب أعماله الأبيض ببنودٍ أربعة (تسجيل عمله من خير أو شرّ، رزقه من أين سيكتسبه وفيم سينفقه، أجله فيم قضاه وأفناه، وبند جاري متغيّر يتجدّد فيه يومياً محصلة مجموع ما تراكم إلى حينه، فيُدوّن كلّ يوم ناتج كشف حساب الأعمال بتقدير “شقيّ” أو “سعيد”، وهو ما يُسمّى بخاتمته التي قد تطرأ في أيّ حين حسب الظروف).
ونلاحظ أنّ كتاب الأعمال هذا أو السجلّ المنطبعة عليه الأعمال، التصويري، الإحصائي، لا ينطبق إلاّ على الدماغ كوجود مادّي يُعدّ “كآلة للقدرة”، فإذا اكتملت هذه الآلة واكتملت أدواتها الخارجية (من سمع وبصر) وداخلية من إدراك وحسّ وجهزت عدّتها التحكّمية الإرادية الكاملة كمركز تحكّم، ثمّة بعد اكتمال الدماغ يُنعم عليه ويُمدّ “بذات القدرة” وهي ما يُسمّى بروح العقل أو الروح الربّانية تُنفخ فيه بعد الاستواء الكامل، فنفخ الروح هذه أتى بعد (ثمّ) ثالثة و(ثُمّ) رابعة، وبمقدور القارئ المتأمّل أن يلحظ أن “ثُمّ” الأولى والثانية قد استغرق كلٌّ منهما لا أقلّ من أربعين يوماً، إلاّ أنّ الرواية لمْ تُحدّد مدى ومدّة “ثُمّ” الثالثة والرابعة- مع احتمال كونهما أقصر أو أطول مدّة- لا عبثاً بل لتفاوت النهايات واختلافها حسب مواعيد الولادات بين ستّة أشهر إلى تسعة، وبهذا جاء العلم الحديث أنّ بدء تكوّن الدماغ والأعضاء الحسية يبدأ في الشهر الثالث إلاّ أنّه في الثلث الأخير أي الشهر السابع يظهر أن الدماغ يبدأ بالتحكم بوظيفة الأعضاء، ويغدو قسم الدماغ المختص بالشخصية والذكاء يُسرع التطور بعدها، بل ويُلحظ حصول تطورات لافتة في جزء الدماغ المتعلق بالتفكير، إذ يُصبح أكبر حجماً، وأكثر تعقيداً. أما جهاز السمع فيتطور بشكل شبه تام في الشهر الثامن ولا يمنع هذا أنّ التأثّر بالأصوات يبدأ مع الشهر الرابع.
وأحسب أنّ نفخ الروح أو اكتمال النّفخ (إذا تجاوزنا الفكرة البسيطة المألوفة أنّ النفخ هو لوهلة ودفعة واحدة لا على مدى مدّة وبتدريج متناسب) أحسب النفخ لا يُنتهى منه إلاّ قبل عملية المخاض مباشرة، بل قد يكون الداعي لعملية المخاض، لامتناع أن تتواجد روحان إنسانيان في جسد واحد، بخلاف ما ذهب إليه الفقيه ابن حزم وغيره ممّن يعتبر الجنين إذا نفخت فيه الروح شخصًا من الناس، حتى إنه يوجب إخراج زكاة الفطر عنه، وقولنا هذا لا يعني أنّ الجنين ليس به حياة أو لا يتحرّك، فإنّ مبدأه أيْ النطفة تتحرّك وبها حياة أيضاً، ثمّ البويضة الملقّحة حياتها كالنبات قائم على الإنقسام، ثمّ الجنين كائن حي تُنفخ فيه روح الحياة وهي حياة النموّ البيولوجي والحركة، فروح النموّ هذه هي التي حسبها الكثير أنّها الروح المكرّمة العاقلة وظنّوا أنّ ركلات الجنين بداية حركة الطفل، مع أنّ العلم أثبت أنّه يتحرّك في الكيس المائي قبل ذلك بمدّة، سوى أنّه حين كبر حجمه لامستْ حركته جدارَ الرحم فشُعر بها خارجاً، فبهذه الروح والحركة لمْ يرتق بعد ليكون كائناً إنساناً، هو هيئة إنسان وليس حقيقة إنسان قبل نفخ الروح العاقلة فيه، وهذه النُقلة من الهيئة إلى الحقيقة نلمحها في قول الله تعالى لعيسى ع (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنْ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي)، وهي نُقلة لا تكون إلاّ بعد التخليق ثمّ التسوية بحيث صار مكتمل الوظائف للطيران كطير، أو للخروج كإنسان، فالجنين مخلوقٌ بشرٌي وليس إنساناً حتّى يستوي كاملاً ويتحرّك للخروج بالروح، أوجز ذلك سبحانه (إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ، فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي، فقعوا له).
رابعاً: مشاكلة البدء والإعادة:
1- عطفاً للنهاية على البداية حسب قول المبدئ المعيد (ما خلْقكم ولا بعثكم إلاّ كنفسٍ واحدة)، وقوله (كما بدأنا أوّل خلقٍ نعيده) ، فقراءة للنشأة الآخرة التي شابهها ووحّدها سبحانه بالنشأة الأولى والخلق الأوّل في كلّ المواضع، فمشابهة القبر بالرحم، لم يدّعِ أحدٌ أنّ الأرواح تُنفخ في الأبدان أثناء جمعها وتركيبها وهي في القبور، بل حال تبعثر القبور وانفتاح الأجداث ، لذلك فأوّل ما يُدركون ينطقون فزعين: (من بعثنا من مرقدنا) لا قبله، أي بعد استواء الأبدان وانفتاح القبر وتباشير الخروج من بطنه ، والإخراج مفردة تميّزت كعلامة في كلامه سبحانه في كل المضامير الإحيائية من نبات أو بعث أو إعادة أو خلق بداية (يخرجكم طفلاً)، بل وسمّى يوم البعث والإحياء الثاني بـ (يوم الخروج)، ولهذا سُلّم على عيسى وزكريّا في القرآن في مواطن ولوج وخروج الروح فقط عند الولادة والموت والإعادة (وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا).
2- وإنّه متى ما استهلّ بالخروج وتنفّس بهما صار نفْساً، وصارت الوالدة به نفساء، فهو مبدأ الحياة الإنسانية كما أنّ منتهاها بخروج النفس قال تعالى (وتزهق أنفسهم)، ويساوي علمياً مرحلة اكتمال الدماغ كآلة ثمّ إحلال العقل (بنفخة الروح) كمبتدأ، وكنهاية كما حدّد الطب أخيراً بأن الموت البيولوجي للإنسان إنّما بموت الدماغ.
خامساً:التصرّف وفق العلم والرحمة:
1- إنّ الله يُخبرنا من حسن صنعه (الذي خلق فسوّى، والذي قدّر فهدى) أنّه لأجل توفّر فرص الهداية وتيسير سبيل الخير لابدّ من المخلوق المستوي (لا الناقص) والمقدّر (أي المتناسب لا المشوّه العشوائي)، (من نُطفةٍ خلقه فقدّره، ثمّ السبيل يسّره)، وكما يُوفّر أحدنا لولده اللباس المناسب لمعيشته، يجب أن نُوفّر الأبدان السوية لتتقمّصها الأرواح الربّانيّة، فإنّ العقل السليم في الجسم السليم، لنُيسّر سبيل الشكر والهداية وفُرص السعادة لهذا المخلوق، فإنّ الجسم المعتلّ غير المنبسط يعسر عليه ركوب العلم والهدى إلاّ بمشقّة ورهق لذا قال تعالى (زاده بسطةً في العلم والجسم).
ويُخبرنا سبحانه ضمناً من قوله (وما تحمل من أنثى ولا تضع إلاّ بعلمه)، أنّ العلم الصحيح هو ميزان رعاية الحمل والوضع، وينبغي أن يتعرّف الإنسان على علم الحمل السوي والوضع الصحّي ليُمارسه، بل ويُخبرنا الله ضمناً من قوله عن الزلزلة (تضع كلّ ذات حملٍ حملها) أنّ فساد النظام وتشوّه الطبيعة يُؤدّي بصورة منطقية إرادية أو عفوية إلى طرح الحمل لأنّه فسد.
2- إنّ العلم اليقيني بمستقبل مشئوم آتٍ يحتّم على صاحبه العمل لاتّقائه (لو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسّني السوء)، ومعرفة تشوّه الجنين يُعدّ معرفةً لغيب لاتّقاء سوء، وهذا عينُ ما عمله الخضر “ع” حيث اجتثّ غلاماً لعلمه بشقائه المستقبلي (بخطوات كفر أو جحود النعمة) وشقاء أبويه المؤمنين منه، وما أدرانا أنّه لم يكُن معاقاً أو متخلّفاً قد يبهظ أبويه ويجعلهما يتبرّمان من عدل الله ورحمته أو يُميتهما من الكمد والحسرة والإرهاق (فخشينا أن يُرهقهما طغياناً وكفراً)، إذ المعاق قد يعقّّ والديه ظنّاً منه أنّهما السبب في عجزه وأنّهما مصدر معاناته لا خيره، وهذا هو معنى الكفر أو جحود نعمتهما، فأزيل هذا الغلام ليأتي غيره أقرب رحماً وخيراً منه زكاة (أي نفسُه أصفى وأزكى على والديه من صاحب تلكم النقمة) ، فهذا علْمٌ لدى الخضر أثمر عملاً، ونحن نستعيذ بالله من علم لا ينفع، وقد يظنّ ظانٌّ أنّ الرحمة كانت للأبوين، لا بل هي أولى للغلام لينهي شقاءه أو ليقطع توغّله في عصيانهما وجحود برّهما به، فالخضر قد بدأ بالرحمة مسيره (آتيناه رحمة من عندنا وعلّمناه من لدنا علماً) ، وأنهي مشواره بالرحمة في كل ما فعله (رحمة من ربك وما فعلته عن أمري، ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبراً).
3- فإذا ثبت بجزمٍ لدى العالم الرحيم (كلجنة طبّية إنسانية مختصة) أمرٌ كهذا في جنين ما فله أن ينهي حبل الشقاء، والعالِم الرحيم هذا قد يكون إمّا: الله سبحانه وهو يشاء الأمرين كنظام وكامتحان، ولكن يمكن استدعاؤه بالدعاء والعمل الصالح والتوكّل إذا كان الأبوان مؤمنين يريدان الرحمة وسلامة الدين وحقيقة الرغبة أنهما إنّما يريدان طفلاً سوياً لا غير، فيقوم الله إن شاء نيابةً عنهما وإجابةً لهما بفعل ذلك بتهيئة سببٍ ما لإسقاط ذلك الجنين وموته.
وقد يكون العالم الرحيم امرءاً كالخضر “ع” مثلاً، أو طبيباً حاذقاً رحيماً، أو حتى الأمّ مع توفّر العلم القاطع المصدّق طبّياً الذي لا ريب فيه بتشوّه جنينها، وأمّا الرحمة فقد لا تُسأل عنها الأمّ .. فهي منبع الرحمة.
وكذا وإنّ آخرين من علماء مقاصد الشريعة التجديديين لا يعدّون حفظ الجنين حسب الكلّيات الخمس من حرمة حفظ النفس، بل هو من حفظ النسل، لكن مبتناهم إنّما حفظ النسل السليم المعافى، لا المشوّه، ولعلّه من الأجدى الاسترشاد بروح قاعدتي (الفتنة أكبر من القتل)، و(لا تُضارّ والدةٌ بولدها ولا مولودٌ له بولده).
أضف، أنّ بعض العارفين بمقاصد الشريعة الرحمانية الغرّاء يضيفون بأنّ اعتناء الوالدين بطفلهما الذي علما تشوّهه وهو جنين فأصرّا على الاحتفاظ به وإعطائه فرصة الحياة بنصفها أو أدنى، فإنّ أجرهما يُضاعف لهما في كلّ خير يأتيه، لكن وزره الذي يأتي من جهة منقصته يقع عليهما أيضاً، أمّا إن لم يكونا يعلمان بتشوّهه إذ هو جنين وأحسنا رعايته فمضاعفٌ لهما الأجر على كلّ حال ولا وزر عليهما من شيء، والله العالم.