أرادت امرأة أن تجدّد رخصة سياقتها فسألتها الكاتبة عمّا إذا كانت تعمل .. تردّدت قبل أن تجيب، فطرحت عليها السؤال بصياغة أخرى: “أعني هل لديك وظيفة؟” فأجابت خجِلة: “نعم، أنا أُمّ”، فردّت عليها: “حسناً، ولكننا لا نعتبر الأمومة وظيفة، فأنتِ ربّة بيت”، فنكّست رأسها وقفلت راجعة.
تذكر راوية هذه الحادثة أنها نست هذا الحوار إلى أن وجدت نفسها في يوم ما في موقف مماثل حين سُئلت من قبل موظّف في شركة تأمين عمّا إذا كانت تعمل، فأجابت بكل هدوء واعتداد: “نعم، أنا مساعد باحث في حقل تنمية الطفولة والعلاقات الإنسانية”، فأعجب الموظف بهذا المسمّى الوظيفي وطلب منها المزيد من التوضيح عن طبيعة عملها، فأجابت بثقة وفخر: “أعمل على مجموعة من البرامج والبحوث الميدانية والمختبرية، وأنا بصدد حيازة شهادة الماجستير، وفي الوقت الحاضر لدّي أربع بحوث جارية (تعني بناتها الأربع)، وأضافت مبيّنة: “وللعلم فإنّ هذه الوظيفة تتطلّب مستوى عالٍ جداً من المعرفة بالعلوم الإنسانية والخبرة، وتواجهني فيها الكثير من التحديات، أكثر من أيّ وظيفة مكتبية أخرى، وعادة أعمل لمدة 14 ساعة يومياً، ومكافأتي هي حالة الشعور بالرضا والاعتزاز التي تتملّكني وأنا أؤدي واجبي بحبّ وتفاني” .. ثم تضيف: “كانت نبرة الاحترام والتوقير تزداد في صوت الموظف كلّما سمعني أتحدّث بصدق وحماس عن دوري كأم، فعُدتُ إلى البيت تغمرني السعادة لأنّني أحدثت تغييّراً مهماً في البيروقراطية ومفاهيم الرأسماليّة المادّية التي تحكم مؤسساتنا وتحجّم أدوارنا”.
تلك أمّ، وهذه أمّ، تلك رجعت منكسرة لأنها لم تعرف قيمة دورها، وهذه عادت معتدّة بذاتها لأنها وعت قيمتها الحقيقية، فوجدت في الدور الذي تتذمّر منه بعض النساء، ويراه بعضهنّ الآخر مخجلاً، أو ثانوياً، أو معيقاً عن تحقيق طموحاتها العلمية والعملية، وجدت فيه مجالاً خصباً لتحقيق الذات وخدمة المجتمع في أحد أهم حقول التنمية، فالمرء كما يرى نفسه، ومكانته أينما يضعها.
هنا يستحضرني حوار بين ميكانيكي يعمل في مجمّع مدارس ابتدائية لمدة عشرين عاماً وأخصائية في الإدارة النفسية، حيث كان يشكو لها رغبته في تغيير عمله لأنه بات مملاًّ، فردّت عليه: “يمكنك تحقيق ذلك ولكن عليك أن تتعلّم كيف تحبّ عملك، فإن لم تفعل فإنّ الأمر لن يختلف في وظيفتك الجديدة”، ثم سألته عن الهدف الأسمى لوظيفته من مجرّد فكّ وتثبيت الصواميل كلّ يوم، فردّ عليها: “إنّ الهدف الأسمى لوظيفتي هو أن أحافظ على حياة الأطفال آمنة”، وبعد هذا الحوار لم يعد بحاجة إلى تغيير عمله.
إنّ الشعور بالخجل لدى الأم الأولى من كونها ربّة بيت لم يأتِ من فراغ، وإنما من تعريف النظام الرأسمالي المادي للعمل، وتصنيفه المواطن بناء على مقدار ما ينتج ويستهلك فمن كانت وظيفته خارج هذا الإطار يوضع في خانة (البطالة) كالأمهات مثلاً فإنه يعتبر العمل المنزلي وتربيتها لأبنائها، وإدارتها لأسرتها (بطالة) لأنه دون مقابل مادي (مع أنّ الدّين قدّر لها عائداً مادّياً لو أرادت، عدا العائد الأخرويّ)، وكذا الأعمال التطوعية الاجتماعية والخيرية في رقعة الحياة الواسعة فلا يعتبر عملهم هذا ذا بال طالما أنه لا يدخل في حساب الناتج القومي للدولة!
بمناسبة “يوم المرأة العاملة العالمي” الذي يحتفل العالم بمرور مائة عام عليه، لا يحلو لنا أن نقيم مأتماً على المرأة كمستضعفة، مهدورة الحقوق فنبكي تهميشها، ونطالب بإنصافها، وإنما نريد للمرأة أن تنبذ كلّ توظيف سيء لقضاياها من قبل الساسة أو المشايخ أو الإعلام، الشاهرين راية “الدفاع عن قضايا المرأة” للتسلّق على أكتافها فتخرج من كونها (تابعا لأبيها وزوجها!) لتصبح (مركوباً لكل طالب شهرة)، ينبغي أن تشعر بقيمتها، وتقدّر ذاتها، وتحترم أدوارها المختلفة في الحياة، وتتذكّر أنها إنسانة قبل كل شيء، فهي الإنسانة الأم، والإنسانة الزوجة، والإنسانة العاملة، والإنسانة المديرة، والإنسانة الوزيرة، ولتكن كما هي لا كما يريدها الزعامات الاستبداديّة الذكوريّة، فتمارس هذه الأدوار بصفتها امرأة لا متشبّهة بالرجال ولا منسحقة لهم.
هل سيأتي اليوم الذي لا نرى الصحف تفرد صفحة خاصة للمرأة، ولا تصدر دور النشر مجلاّت خاصة بالمرأة، وتختفي عناوين خاصة بالمرأة من قبيل “وقت للمرأة” و”زاوية للمرأة” و”عالم المرأة” و”جمال المرأة”، و”بشرة المرأة”، و”جسم المرأة”!! بل نرى المرأة في كل مجال تُبدع، وتكتب، وتخترع، وتشارك، وتقرّر، ولن يكون ذلك إلا بالعلم، ولكن لا العلم بالديكور، والزينة، والألبسة، والطبخ، والأغاني، والموضة وآخر صرخاتها، بل الباحثة في جميع مجالات التنمية الإنسانية كما مثالنا السالفة الذكر الطيّب.